طبرقة

من الموسوعة التونسية
نسخة 19:39، 24 جانفي 2017 للمستخدم Bhikma (نقاش | مساهمات)

(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى: تصفح، ابحث
طبرقة

تقع طبرقة في الشمال الغربي للجمهورية التّونسيّة (ولاية جندوبة) وتبعد عن تونس العاصمة حوالي 175 كلم. وهي مركز معتمديّة منذ السّنوات الأولى للاستقلال وهي أيضا بلديّة مضى على إحداثها حوالي مائة سنة. وتمتدّ المدينة على ضفاف خليج صغير يحميه نحو الغرب رأس طبرقة الذي يعتبر امتدادا طبيعيّا لكاف مڨعد ويحدّه شرقا الوادي الكبير الذي اشتهر في النصوص اللاّتينيّة القديمة باسم التّوسكا وتتوسّطه جزيرة صخريّة كانت قبل ردم الممرّ الحالي بمثابة الحزام الذي يربط اليابسة بالبحر. وتعتبر طبرقة عاصمة خمير وهي منطقة جبليّة تحتوي على أهمّ الغابات التّونسيّة. هذه الأجمات التي تغنّى بها الشاعر اللاّتيني يونيوس يوفيناليس توفّر خاصّة أخشاب الزّان والخفّاف، كما أن ّ تضاريسها الوعرة تجعل من طبرقة أيضا أهم متنفّس بحري لسهول مجردة العليا (سهول جندوبة - بلاريجيا) التي تعتبر منذ القديم أخصب أقاليم المغرب وتمتاز بوفرة إنتاجها من الحبوب والبقول.

المدينة النّوميديّة[عدّل]

إنّ خصوبة التربة وغزارة التساقطات وكذلك التحصينات الطبيعيّة ساعدت على استقرار الإنسان في هذه الأصقاع منذ عهد ما قبل التّاريخ حيث كُشف عن عدّة محطّات أثريّة تعود إلى العصر الحجري الجديد (رقوبة بلقاسم بن علي = العاطري (Atérien)، وشتاتة = الايبرو - موريسى Ibéro maurusien) كما تمتاز الجهة بكثافة "الحوانيت" (عين زاقة، كاف البليدة وكاف العڨاب) وهي قبور بربرية منقورة في سفوح المرتفعات سبقت قدوم الفينيقيّين وتدل هندستها الشبيهة بحوانيت إطاليكا Italica بصقلّية. كان سكّان طبرقة منذ العصر الحديدي على اتّصال بالجزيرة الكبرى وسردانيا. هذه العلاقات الضاربة في القدم مع أوروبا والتي تفسّر بموقع المدينة الجغرافي سوف تتدعّم فيما بعد وتؤثر على نحو عميق في تاريخ المدينة والحضارات التي تعاقبت عليها.

عُثر على عدّة نقائش لاتينيّة على حافتي الجادّة التي كانت تربط في العصر الرّوماني طبرقة بشمتو (Simithu) تدلّ على أنّ المدينة الحالية وريثة مدينة تبركا Thabraca وهي لفظة نوميديّة ربّما يكون معناها المنطقة التي تحفّ بها "الشّعراء" الآهلة بالحيوانات البرّية. وكانت قبل تخريب قرطاج وحرقها (146 ق.م) تنتمي إلى المملكة النّوميديّة المستقلّة وأصبح منذ تلك السّنة يفصلها عن مقاطعة أفريكا Africae وادي التّوسكا الذي كان يشكّل نقطة الانطلاق للحفير الحدودي المحصّن (الفوسا ريجيا Fossa - regia) الذي أحدثه سقيبيون الأصغر )Scipion Emilien). هذا الموقع الاستراتيجي بوّأها مكانة مهمّة ضمن المنظومة الدّفاعيّة التي وضعها مسينيسا غداة معركة جاما (Zama)(202 ق.م) وهو ما جعل الجغرافي اللاّتيني بلينوس الأكبر (Caius Plinus Secundus) الذي يمكن إرجاع مصادره إلى فترة أكتافينوس أغسطس (Octavianus Augustus)(27 - 44 ق.م) ينعتها بالأوبيدوم (Oppidum Civium romanorum)Pline,V,p204. - 205 وهي صفة غالبا ما كانت تطلق على المواقع العمرانية المحصنّة، كما أنّ طبرقة علاوة على هذا الدّور العسكري كانت تعتبر منذ ذلك العهد الميناء الطّبيعي لمدينة بلاّريجيا (Bulla Regia) ثالث العواصم الملكيّة النّوميديّة ومركزا من أهمّ المراكز المنتجة للقموح وكذلك لمدينة شمتو الحصينة، التي اشتهرت منذ القرن الخامس قبل الميلاد بمقاطع الرّخام الورديّ والأصفر المعروف في كلّ العالم القديم باسم المرمر النوميدي (marmar numidicum)، بيد أنّه رغم هذه الأهميّة العسكريّة والاقتصاديّة فإنّ النّصوص القديمة لا تذكر "تبركا" بصريح العبارة إلاّ منذ القرن الثالث قبل الميلاد، ويتزامن ذلك مع الفترة التي بدأ فيها مسينيسا يشكّل إمبراطوريّة ضخمة على حساب الممتلكات القرطاجيةّ. على أننّ ا نرجحّ أن ّ تأسيس المدينة يرجع إلى القرن السّابع أو السّادس قبل الميلاد أي إلى الحقبة التي تعزّزت فيها الاتّصالات البحريّة بين السّاحل الافريقي وجزر سردانيا وصقلّية. هذه العلاقات تؤكدها عناصر التأثير اليونانيّ التي تميّز رسوم "حوانيت" كاف البليدة وعين زاقة، كما أنّ الجغرافي اليوناني سيلاكس الذي يمكن إرجاع مصادره إلى هذه الفترة يذكر مدينة مجهّزة بميناء تقع بين هيبو (بنزرت) ورأس سكيكدة، قبالة جزيرة صخريّة سمّاها "مدينة القردة". هذا الموقع يناسب دون أدنى شك مكان تبركا التي أكدّ يونيوس أن ّ غاباتها كانت تعجّ بالقردة.

تبركا الرّومانيّة والبيزنطية[عدّل]

موقع المدينة المتّصل بالطريق البحريّة العتيقة الرّابطة بين قلطا (جالطة) وكراليس ووفرة إنتاجها من الحبوب والمعادن والخشب، جعلا طبرقة تؤدّي دورا أساسيا إبّان الحرب الأهليّة التي زعزعت صفوف الرّومان في عهد يوليوس قيصر إذ استقرّ بها زميله في الحكم الثلاثي أمليوس لبيدوس (40 - 36 ق.م) الذي كان يشرف خاصّة على تجهيز الأسطول الامبراطوري. ويبدو أن ّ هذا القائد الذي أحدث بها دار صناعة لبناء السفن الحربيّة هو نفسه الذي رفعها إلى رتبة المستعمرات الرّومانية دون أن ننفي إمكان حدوث ذلك في عهد اكتافينوس، إذ أنّه إلى جانب النقائش التي تذكر وجود مجلس بلدي بتبركا منذ سنة 37 ق.م فإنّ الكثير من شواهد القبور تؤكدّ أنّ المستعمرة كانت تنتمي إلى قبيلة الأرننسيس أي قبيلة يوليوس قيصر التي ألحقت بها أغلب المستعمرات القيصريّة (قرطاج، أوذنة، قليبية، قربة). أوّليّة هذا التشريف تؤكّد سرعة رومنة هذه المدينة النّوميديّة ويمكن الاستشهاد على ما ذهبنا إليه بعدّة لقى أثريّة أهمّها النصب التّذكاري الذي أهداه سكّان تبركا لزوجة فتراسيوس أوكوس ابن حاكم أفريكا سنة 137 - 138م والذي وضع وسط السّاحة العموميّة لمدينة كالس تأكيدا لهذه العلاقات القديمة مع إيطاليا. ويمكن أيضا أنّ نذكر في هذا السياق شاهد القبر الذي اكتشف داخل الدّواميس اليهوديّة لفيلا تورلينا Villa Torlina والذي يخلد ذكرى أحد سكان تبركا: مكسيموس تبرسينوس Maximus Thabracinus وهو ما يؤكد إضافة إلى ذلك وجود مجموعة يهودية محلّية منظّمة احترفت تصدير الرّخام نحو روما وغيرها من المناطق الأوروبّية. وقد يرتبط حفل التلمود الذي مازال الأهالي يخّصصونه للوليّ الصّالح سيدي موسى بأهمّية هذه الجالية التي استقرّت بطبرقة منذ بداية العهد الرّوماني.

تشير المصادر والنقائش اللاّتينيّة إلى أنّ فيلقا من الجيش الأغسطي الثالث كان يرابط على نحو دائم بهذه المنطقة منذ بداية العهد الامبراطوري. وقد أوكلت إليه خاصّة مهمّة حماية الضّيعات الفلاحيّة الشاسعة التي اقتطعها حكّام روما في إقليم السهول الكبرى وهضاب خمير. ويؤكّد العناية الخاصّة التي كان هؤلاء يولونها لممتلكاتهم في هذه المنطقة المرسوم الذي أرسله الامبراطور كمّودوس (180 - 192م) لمزارعي ضيعة السلتوس برنيتانوس لحمايتهم من تعسّف الوكلاء. إلى جانب هذا الوجود العسكري، عمل القياصرة على تجهيز الجهة بشبكة من الطرق المعبّدة تهدف إلى تسهيل نقل المنتجات الزّراعيّة نحو مرفإ طبرقة، أهمّها الجادّة التي كانت تربط المدينة بفاقا (باجة) مرورا بالوادي المالح وقلعة عين زاقة. ويعتبر تصدير رخام شمتو نحو روما من المناشط الرئيسة التي اختصتّ بها طبرقة، كما أن ّ بقايا حمولة سفينة عثر عليها في عرض مدينة كمرينا (شمال شرق صقلّية) لا تدع مجالا للشك في أنّ منتوجات هذه المقاطع الملكيةّ كانت تباع أيضا في بلاد الإغريق، خاصّة أنّنا نعرف من مصادر أخرى أنّ أحد حمامات أثينا شيّد في عهد الامبراطور هدريانوس (117 - 138م) واستخدمت فيه أعمدة جلبت من شمتو. ويبدو أنّ التجاّ ر المتعاطين لهذا النشّاط كانوا منظمّين داخل مجموعات مهنيّة قويّة. وقد دلّتنا إحدى لوحات الفسيفساء المسيحيّة التي عثر عليها داخل "البزيليكا الوسطى" والتي تتوسّطها سفينة شحن على اسم أحد أفرادها: فليكس، على أنّه يبدو أنّ أفراد الجالية اليهوديّة كانوا يسيطرون على هذه التّجارة خاصّة أنّهم كانوا يوجدون بأعداد مهمّة حتى القرن الرّابع الميلادي في شمتو ذاتها، مثلما أكّد ذلك القدّيس أوغسطينوس. وتُنقل هذه البضاعة الثقيلة عبر الجادّة الرّابطة بين طبرقة وشمتو التي اشتهرت باسم "طريق الرّخام". وقد كان أمر بإحداثها الامبراطور هدريانوس سنة 129م. وأعاد ترميمها قسطنتنوس في القرن الرّابع.

لم يكن نشاط ملاّحي طبرقة وتجّارها يتوقّف على تصدير الحبوب والرّخام بل كانوا أيضا يزوّدون أسواق روما بالزّيوت المحلّية التي توفّرها معاصر المدينة ونفزة وسجنان والتي مازالت آثارها قائمة إلى اليوم وكذلك معادن الرّصاص والنّحاس المستخرجة من مناجم نفزة وباجة وبلارّ يجيا، كما أنّ غابات خمير كانت تزودّ إيطاليا بالأخشاب الجيّدة والحيوانات البرّية (أسود، نمور) التي كانت تستعمل في ملاعب روما وغيرها من المدن الأوروبّية. وقد كانت تنتقل بحرا داخل أقفاص صنعت خصّيصا لهذا الغرض.

إنّ التطوّر الاقتصادي الذي بلغ أوجه في القرن الثالث واتّصال المدينة بالكثير من المحطّات البحريّة الأوروبّية جعلا طبرقة تستقطب عددا مهمّا من التّجّار والصّيارفة والحرفيّين الذين توافدوا عليها من مختلف أصقاع الامبراطوريّة الرّومانيّة (إيطاليون، بربر، يهود، سوريون)، كما أنّ بعض النقائش اليونانيةّ تؤكدّ وجود جالية أصيلة مدينة لارمنزا اختصّت بتزويد أسواق آسيا الصغرى بالرّخام. كلّ هذه العوامل جعلت المدينة لم يصبها الرّكود الاقتصادي الذي أصاب أغلب مناطق شمال إفريقيا في القرن الرّابع ودفعت جلدون (Gildon) إلى اتّخاذها قاعدة لدولته المستقلّة. وقد قامت خطّة هذا القائد البربري الذي تمرّد على روما (395 - 398م) على تعطيل تزويد المدينة الخالدة بالقموح وهو ما جعل المجاعة تعمّ بها. على أنّ حملة الاضطهاد التي تزامنت مع مرور الامبراطور هنوريوس الذي نجح في إخماد هذا العصيان تحمل في طيّاتها بداية فترة طويلة من الرّكود. من جهة أخرى وجود مجموعات إغريقيّة ويهوديّة مهمّة جعل الدّيانة المسيحيّة القادمة من المشرق تنتشر بطبرقة قبل غيرها من مدائن شمال إفريقيا. وممّا يؤكّد ذلك أنّه كان يشرف عليها منذ نصف القرن الثالث أسقف خاص اسمه فكتوركوس، شارك في أعمال المجمع الذي ترأسه قبريانوس (Cyprianus) بقرطاج سنة 256م، كما تعدّدت منذ ذلك العهد المعابد المسيحية بطبرقة وأسهمت هذه الحركيّة المعماريّة في ميلاد مدرسة فسيفساء محلية تواصل نشاطها طيلة ثلاثة قرون.

التوسع العمراني[عدّل]

كان مهد المدينة النّوميديّة دون شكّ هضبة البرج الجديد الحصينة. وقد كشفت الحفريات التي أجريت في أسفلها عن وجود قطع من الخزف الايطالي تعود إلى القرن الثالث قبل الميلاد يبدو أنّها من مخلّفات مقبرة المدينة الأوليّة، كما مكّنتنا الحفريات التي أجريت سنة 1982 حذو المتحف الحالي (البازيليكا العليا) من العثور على بعض أجزاء الشارع الرّئيس المبلّط الذي كان يصل النّواة القديمة بالسّاحة العموميّة الروّمانيّة الموجودة في المنطقة الفاصلة بين الحمّامات الكبرى و"البازيليكا الوسطى". وقد عثر في هذه المنطقة على نقيشة مهداة إلى جوبتار إلاه الكابيتول الرّوماني الذي عادة ما يوجد حذو هذه الرحبة الوسطى المحدّدة لتخطيط المدينة التي أصبحت منذ القرن الثالث تغطي كل ّ مساحة طبرقة الحاليّة. على أنّه بداية من سنة 439م، احتل الوندال البلاد التّونسيّة فهزموا الرّومان وأطردوهم منها وكانت عاصمة خمير أوّل ضحايا هذه الشعوب المتبربرة التي اجتاحت شمال إفريقيا انطلاقا من طنجة بعد أنّ قام القوط بطردها من إسبانيا. وتدلّ الحفريات الأثرية على أن ّ الكثير من المعالم المسيحيّة المهمّة مثل كنيسة الشهداء خربت إباّن هذه الحملة، كما أنّ المدينة التي كانت أطرافها تمتدّ إلى ساحل البحر تحوّلت إلى تجمّع عمراني صغير طوّقه البيزنطيون في القرن السّادس بسور حجري مازالت بعض رسومه قائمة إلى اليوم. ويدلّ بناء هذا الاستحكام الجديد على المكانة العسكريّة التي حظيت بها طبرقة رغم تراجعها العمراني والاقتصادي. وقد مكّنت حفريات 1924 من العثور على نقيشة برونزية تؤكد أنّها أصبحت منذ ذلك العهد مركزا للبريد الرسمي ومستودعا للذّخيرة.

ولم يكن الميناء الفنيقي في حقيقة الأمر إلاّ المضيق الفاصل بين الجزيرة واليابسة. وقد عمل الرّومان على حمايته بصقالتين (نحو الشرق والغرب) وتجهيزه بدار صناعة وأهراء ضخمة (مازالت بعض أنقاضها قائمة) لخزن الحبوب والزّيوت والرّخام. هذا المرفأ الذي استغلّ طيلة الفترة الاسلاميّة الأولى لا يصلح إلاّ لايواء السّفن الطوّيلة في حين أنّ المراكب الشرّاعية المدورّ ة التي تتطلّب وجود مياه أعمق كانت مجبرة على الاحتماء داخل خليج صغير يوجد شرق الجزيرة جهّزه الجنويون بداية من القرن السادس عشر بصقالتين. وقد استعملت هذه التجهيزات الجديدة طيلة الفترة الحسينيّة لتصريف أخشاب خمير نحو ترسخانات حلق الوادي وغار الملح.

إنّ مدينة طبرقة وضواحيها مازالت أيضا تزخر بآثار التجهيزات المائية التي أحدثها الرّومان وأهمّها الخزّانات الضّخمة التي حُوّلت فيما بعد إلى كنيسة وحصن (المتحف وبرج مسعودي). وتزوّد هذه الشّبكة المائيّة بحنايات تصلها بعدّة عيون تقع على بعد كيلومترين شرقيّ المدينة، هي نفسها التي توفّر المياه للحمّام القديم (تحوّل إلى مقهى فيما بعد) وللحمّام العمومي الضخم (ق. 2م) الذي مازالت توجد بعض آثاره وسط حديقة 18 جانفي (الكسكاس).

وتمتاز طبرقة أيضا بكثرة الكنائس وأهمّها كنيسة الشهداء (ق 4. 7م) التي تتوسّط السّفح الجنوبي - الشرقي لهضبة برج الجديد. ويتكوّن المعبد من بناية طوليّة (19م * 15م) تتكوّن من ثلاثة بلاطات تحتوي على الكثير من مقابر الرّاهبات ورجال الدين الذين أعدموا في العهد الوندالي. أمّا المعلم الثّاني فهو "البازيليكا الوسطى" (ق 4 - 5م) التي أُزيح النّقاب عنها في حفريات 1882 - 1918.

إنّ المجموعة الضخمة من لوحات الفسيفساء التي عثر عليها داخل هذه الكنائس وكذلك في المنزل الرّيفي الفخم المعروف بفيلا قودمى (ق - 4م) يعتبران من أهمّ مخلّفات الفترة المسيحيّة بالبلاد التّونسيّة.

المدينة الاسلاميّة[عدّل]

اتخذ العرب الفاتحون من هذه المدينة قاعدة لانطلاق الحملات البحريّة الموجّهة نحو المغرب الأقصى وجزر المتوسّط، كما أنّها أصبحت منذ ذلك العهد مركزا لكورة مرسى الخزر (القالة). وعمل الأغالبة على العناية بمينائها بعد المحاولة الفاشلة التي أقدم عليها عبد الرّحمان بن حبيب الفهري لتكوين إمارة مستقلّة.

ويعتبر القرن العاشر الميلادي فترة انتعاش قصوى للمدينة الاسلامية إذ أنّ العبيدييّن، إضافة إلى دعمهم لدورها العسكري، أعادوا تنشيط تجارتها وجعلوا من مرفئها أهم مركز لتبادل البضائع المشرقيّة والأندلسيّة (الاصطخرى، ص 38، ابن حوقل، ص 74 - 75، البكري، ص57، المقدسى، ص 4 - 5، الادريسي، ص 115، هـ. ر. ادريس، ص 40). وذكر ابن حوقل "أنّ طبرقة هي عدوة أهل الأندلس إليها ينتهون ومنها إلى الأندلس يركبون وهي مع صغر مقدارها وتفه منزلتها فإنّما اشتهرت لكثرة ورود المراكب بالأندلسيين والتجّار عليها ونزولهم فيها وتعشيرهم كان في سالف الزّمان بها. وهي تجاه أوائل الأندلس من المكان الذي به وتحاذي أيضا بعض بلاد فرنجة" (ابن حوقل، ص 74 - 75). وكانت مدينة تنّس تؤلّف القاعدة الأساسيّة للملاحة الأندلسيّة التي تفضي في النّهاية إلى طبرقة. وقد كان التجّار الأندلسيون يورّدون المرجان من القالة والصّوف من عنّابة والعسل من الجزائر، وكانت تستهويهم بالخصوص الموادّ المشرقيّة المربحة. ومن هنا ظهرت في أوائل العصر الفاطمي أهميّة طبرقة التي كانت تقوم، بفضل موقعها الجغرافي، بدور الوساطة بين تجارتي الغرب والشرق الاسلامي. على أنّ هذا الميناء كانت تزاحمه بشدّة المراكز البحريّة الجديدة التي طوّرها الفاطميون غرب قلاع بنزرت مثل مرسى الخرز ودرنة. وممّا زاد الطين بلّة تطوّر النّزاعات بين خلفاء المغرب وبني أميّة منذ منتصف القرن العاشر وهو ما جعل طبرقة تستهدف عدّة مرّات، خاصّة سنتي 955م و956م، لغارات الأسطول الاسباني. وبحلول القرن الحادي عشر لم يعد لعاصمة خمير إلاّ دور عسكري وتجاري ثانوي، وقد أسهم في دعم هذا التقهقر تصدّع الدّولة الزّيريّة (إذ عمل بنو حمّاد على تحويل وجهة التّجارة نحو بجاية) واستقرار بني هلال بضواحيها.

وقد كان موقع طبرقة المتّصل بالمسالك البحريّة الأوروبيّة جعلها منذ القرن الثّاني عشر محلّ أطماع الجمهوريات الايطاليّة. فمن سنة 1134م أغار عليها أسطول بيزا ونهبها. ومنذ سنة 1140م حصلت هذه المدينة على حقّ صيد المرجان على طول الشريط السّاحليّ الممتدّ من رأس المنشار إلى عنّابة لكنّ الانتاج كان يصدّر خاصّة عن طريق ميناء تونس وهو ما يدل على تدهور التجهيزات البحريّة للمدينة التي سوف تنقرض نهائيا في القرن السّادس عشر. وقد اكتفى الأتراك طيلة العصر الحديث بتشييد حصنين (برج مسعودي وبرج الجديد) وأوكل إليهما دور مراقبة القرية الجديدة التي أحدثها الجنويّون سنة 1542م بالجزيرة. أمّا طبرقة السّاحلية فلن تعود إلى الوجود إلاّ بداية من سنة 1881.

إنّ الوثائق المتعلّقة بطبرقة في العصر الوسيط نادرة جدّا خاصّة أنّها لم تحتفظ بأي معلم مدني يعود إلى هذه الحقبة. وحسب المقدسى (ق.10م) الذي أكّد "خراب قصبتها" كان سكّان المدينة يسكنون أحد أرباضها ويشربون مياه الآبار (المقدّسي، ص 4 - 5) والقصبة هي دون شكّ المنطقة العليا من تبركا الرّومانيّة التي احتفظت بأطلالها في عصر البكري فقد ذكر أنّها قريبة من مصبّ واد (وادي عمر) تدخله السّفن حتّى باب المدينة (البكري، ص. 57) وهي نفسها الرّبض الذي تحدّث عنه المقدسى سابقا. ويتكون برج مسعودي من برج طوليّ مجهّز بباب مرتفع. وقد شيّد في عهد السلطان أبي فارس (ق. 15م) لمراقبة حركة السّفن القطلانيّة وحماية الخزّان الرّوماني الذي حوّل بدوره إلى حصن حوالي سنة 1668. أمّا البرج الجديد الذي يشرف على المدينة والميناء فيعود إحداثه إلى فترة علي باشا (1741م). ويشكّل المعلم بناية طوليّة تدعمها أبراج (بستيونات) دائريّة بنيت بالطّابية وهي تقنية عرفت ببلاد المغرب طيلة العصر الوسيط.

القرية الجنويّة[عدّل]

لقد اختار الفينيقيون خلافا للنّوميديّين الاستقرار بجزيرة طبرقة الحصينة حيث أسسوا (حوالي ق7. ق.م) مصرف أوبوا الذي يبدو أنّه انقرض بداية من الاحتلال الروّ ماني. على أنّ الحياة سوف تدبّ من جديد على أرض هذه "الصخرة المنفصلة عن اليابسة بعد رمي بندقيّة" لمّا تسلّمها شارل الخامس ملك إسبانيا مقابل إفراجه عن درغوث رايس أسيره في 1540 وسلّمها خليفته بصقلّية إلى شركة جنوية (عائلتي قريمالدي ولوملّيني) بموجب اتفاقيّة 1520 (توفيق البشروش، ص.112 ; S.Boubaker p.23-22). وقد سارعت هذه الشركة التي حصلت على احتكار صيد المرجان بالمنطقة بإقامة قرية محصّنة تتّسع لألفي ساكن مجهّزة بمرفأين ودار صناعة أوكلت حمايتها وتعهّد استحكاماتها إلى العامل الاسباني مقابل "لزمة سنويّة" قدّرت بعشر المحصول. ومنذ سنة 1695 أصبحت عائلة لومليني المالك الفعلي للجزيرة مقابل دفع 4000 قطعة ذهبيّة إلى باشا تونس و2000 لباشا الجزائر وتعهّد حامية برج مسعودي التي تراقب القرية. أمّا المعاهدات المبرمة بين الملك الاسباني والشركة الجنويّة فهي تؤكّد أنّ القرية تأسّست لأجل صيد المرجان ليس غير، إلاّ أنّ الطرف الايطالي اغتنم فرصة تفاقم الأزمة الغذائيّة في أوروبّا في بداية القرن السّابع عشر لتحويل الجزيرة إلى مركز لتصدير منتجات الفضاء الخلفي الزّراعيّة خاصّة الحبوب والحمص والفول والمواشي. وقد أصبحت هذه التّجارة تنافس بشدةّ الشركات التي أسسّ تها فرنسا للغرض نفسه برأس تامكرت (النيڨرو Cap Nègre) والقالة والرّأس الأشقر (Cap Roux) والبستيون (Bastion de France) وهو ما دفعها إلى محاولة الاستيلاء على الجزيرة خاصّة سنتي 1638 و1731م. وأدّى تنامي التهديد الفرنسيّ وتخلّي إسبانيا عن دورها الدّفاعي بداية من 1730م إلى تراجع نشاط المركز التجاري، وهو ما تؤكده هجرة 500 صائد مرجان إلى سردانيا، جزيرة القدّيس بيار، بمدينة كارلفورتي (Carlaforte), كما أن ّ عائلة لومليّ ني حاولت (منذ سنة 1733م) بيع الجزيرة دون استشارة السلط التّونسيّة. على أنّ علي باشا تفطّن إلى هذه المساعي وتعلّل "بتجاوز الجنويين للقدر المأذون لهم فيه بالبناء... وجهّز لها أربعة مراكب حربيّة مشحونة بالعسكر، وأمرهم أنّ يأخذوا مرساها والقرية". هذه الحملة التي قادها ابنه يونس باي أدّت (سنة 1741) إلى تهديم أغلب المباني وأسر تسعمائة نسمة يعود إلى المعتوقين منهم الفضل في تأسيس طبرقة الجديدة بإسبانيا.

وكانت القرية التي دمّرتها جيوش الباي منذ منتصف القرن الثامن عشر تشكّل تجمّعا عمرانيا متكاملا مجهّزا بدار صناعة وكنيسة ومستشفى والكثير من الأهراء والمواجل الضّخمة المعدّة لخزن الحبوب والزيوت ويطوقّ ها من كلّ الجهات سور مبنيّ بالحجارة المنحوتة مازالت بعض أبوابه قائمة خاصّة من النّاحية الجنوبيّة. ويحتلّ قصر العامل أعلى نقطة في الجزيرة وهو عبارة عن قلعة تدعم زواياها أبراج معدّة للمدفعيّة وبرج مراقبة مستدير ويحميه من النّاحية الغربيّة استحكام مثمّن الشكل. هذه القصبة التي يطلق عليها اليوم اسم الحصن الجنوي) هي المعلم الوحيد الذي أبقى عليه يونس باي بعد أن أوكل مهمّة المرابطة به إلى كتيبة من الانكشاريّة تتألفّ من مائة جندي. على أن ّ الترميمات الكثيرة التي أدخلت عليه منذ تلك الفترة لم تغيّر على نحو ملحوظ طابعه المعماري.