طاهر خير الدين

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث

[ 1875 - 1937م]

نشأته وتربيته وتدرّجه في المراتب العسكرية

ولد الوزير طاهر باشا ابن الوزير الأكبر والصدر الأعظم الجنرال خير الدين باشا في 5 فيفري سنة 1875 بتونس. وفي 6 ديسمبر 1878 تحوّل إلى الأستانه حيث التحق مع إخوته وسائر أفراد عائلته بوالده الذي عهد إليه السلطان عبد الحميد الثاني في 7 ديسمبر 1878 بخطة الصدر الأعظم للدولة العثمانية، ثم ما لبث أن استقال منها في جويلية 1879. والتحق طاهر خير الدين سنة 1880 بالمكتب السلطاني حيث تدرّب على اللغتين التركية والعربية بإشراف ثلّة من المدرّسين الممتازين، كما تدرّب على اللغة الفرنسية بالمكتب الخاص بأمراء البيت العثماني في "قصر يلدز" وارتقى من رتبة رقيب إلى رتبة ملازم في سنة 1884.

وبعد إتمام تلك الدراسة التمهيديّة التحق في سنة 1886 بالمدرسة الحربية الرسمية التي أنشأها السلطان لتدريب أبناء الأمراء والوزراء على الفنون الحربية، وحصل فيها على رتبة نقيب في سنة 1891 ثم ارتقى إلى رتبة قول أغاسي وتخرّج في تلك المدرسة سنة 1893 بعد أن نجح في شهادة ختم الدراسات العسكرية. فألحق في الحين بقصر يلدز للاضطلاع بمهامّ معين الحضرة السلطانية. "وقد أراد السلطان عبد الحميد باعتباره الوصيّ على أبناء الصدر الأعظم السابق ورئيس مجلس العرش، الجنرال خير الدين باشا إظهار ما يوليه من عناية بالغة إلى أبناء ذلك الخادم الشهير والأمين لمصالح الدولة العثمانية". وفي سنة 1894 عيّن طاهر خير الدين في رتبة مقدّم وسافر في فيفري 1895 إلى فيانا للتداوي ثم رجع منها بعد أن زار باريس للمرّة الأولى.

وفي شهر أفريل 1897 سافر إلى بلاد اليونان إثر إعلان الحرب التركية اليونانية للقيام بمأموريّة عسكرية بإذن من السلطان. وقد تمكّن الضابط الشاب من القيام بتلك المهمّة على أحسن وجه ممكن، واستحق بما أظهره من كفاية وحسن تدبير أن ينال ثناء مشيرين من قوّاد الجيش التركي وأن يحصل على رتبة قائ مقام، بإشارة من القائدين المذكورين، جزاء ما قدّمه من خدمات. وفي ديسمبر 1898 رجع من بلاد اليونان إلى إستانبول ثم غادرها بعد قليل متوجّها مع أخيه محمد الهادي إلى مرسيليا ومنها إلى الجزائر فبسكرة فتونس. وقد أتاحت زيارة تونس للمرة الأولى الفرصة للأخوين لاعادة توثيق عرى المودّة مع جميع أنصار والدهما والمعترفين بفضله على بلادهم أولئك الذين شملوا أبناءه بما كانوا يكنّون له من خالص الودّ والتقدير. وتجلّى ذلك في الاحتفالات والاستقبالات التي نظمها أعيان الحاضرة آنذاك على شرف ضيفيهما، للتعبير لهما عن وفائهم لروح رجل الدولة الذي خدم وطنه بإخلاص وترك من خلال تقلّده للحكم أثرا لا يمحى من شخصيّته الفذّة.

وفي جويلية 1899 غادر طاهر خير الدين تونس عائدا إلى الاستانة ولم يلبث أن التحق من جديد بالبلاط السلطاني واستأنف دراساته التي تخلّى عنها مدة من الزمن. وفي أفريل 1901 ارتقى إلى رتبة أمير ألاي (عقيد) ثم سافر إلى تونس للمرّة الثانية في ديسمبر من السنة نفسها وزار بعد ذلك إيطاليا ثم باريس للمرّة الثانية ورجع إلى الاستانة في مارس 1902, ثم سافر مرّة ثانية إلى فيانا للتداوي في جانفي 1904 وإثر رجوعه إلى الاستانة في ماي 1904 ارتقى إلى رتبة أمير لواء، وهي الرتبة التي خوّلته حمل لقب باشا. وإثر الثورة التي اندلعت في صائفة سنة 1908 وإعادة العمل بدستور مدحت باشا الذي ظلّ معطلا مدّة ثلاثين سنة خرج طاهر باشا خير الدين من خدمة السلطان وعيّن ضابطا في الحامية العسكرية بالاستانة في ديسمبر 1908.

وتسارعت بعد ذلك الأحداث السياسية، فاندلعت الثورة العسكرية بالعاصمة التركية في أفريل 1909, وخُلع السلطان عبد الحميد وأُبعد إلى سالونيك، وخلفه السلطان محمد رشاد (1909 - 1918). وعندئذ قدّم طاهر خير الدين استقالته من الجيش في أوت 1909 واقتحم الحياة السياسية والصحفية.

نشاطه السياسي في تركيا

"لقد كان عند دخوله إلى حياته الجديدة مزوّدا بثقافة سياسية وأدبية واسعة، إذ كان ضليعا في آداب اللغة التركية ومن كبار كتّابها، وأديبا في العربيّة والفارسية، مكينا في اللغة الفرنسية وآدابها، مشاركا في اللغتين الانڤليزية والألمانية، علاوة على ما أكسبته تجربته الطويلة من الخبرة السياسية، وما أكسبته مطالعاته التي لا تنقطع من الاحاطة بأحوال الأمم في الحاضر والغابر". والتحق في نوفمبر 1910 بالمكتب السلطاني لتدريس مادّة التاريخ، وانخرط قبل ذلك بشهر في سلك الصحافيين أولا في خطّة محرّر بجريدة "الاقدام" ثم في مهمّة مشرف على جريدة "شهراه" التي أسسها مع أخويه (محمد وصالح) "لمعارضة جمعية" الاتحاد والترقّي"المؤمنة بالمركزيّة وبضرورة تتريك رعايا السلطنة العثمانية عموما، أي جعلهم أتراكا في اللغة والثقافة والعادات".

وبعد ذلك ببضعة أشهر، وعلى وجه التحديد في نوفمبر 1911 انتخب نائبا عن أكبر دائرة من دوائر العاصمة التركية وأصبح من أبرز زعماء حزب "الحرية والائتلاف" الذي كان يؤمن باللاّمركزيّة يسعى إلى تأليف الأمم المنضوية تحت السلطنة العثمانية، بمنحهم ما يقتضي تأمينهم على أن الدولة لا تطلب منهم إلاّ أن يكونوا عثمانيين لا غير، مع بقاء لغتهم وعاداتهم وثقافتهم. وفي أوائل سنة 1912 غادر طاهر خير الدين تركيا، "بسبب اشتداد سياسة الضغط على الأفكار وخصوصا على الصحافة"، وزار على التوالي اليونان ومصر وتونس وفرنسا وبلغاريا. وما إن رجع إلى الاستانة في أوت 1912 حتى اندلعت الحرب التركية البلقانية في 8 أكتوبر وأفضت إلى انهزام الجيوش العثمانية في ديسمبر 1912.

وفي تلك الفترة بالذات عيّن طاهر خير الدين واليا على القدس الشريف في عهد وزارة كامل باشا. "ولئن لم تكن مدّة ولايته طويلة، فقد استطاع في أثنائها تسوية الخلافات الكثيرة التي تكوّنت بين الحكومة وعرب فلسطين من جهة، وبينها وإنڤلترا وفرنسا من جهة أخرى". واستقال من هذا المنصب في 29 جانفي 1913 إثر اقتحام الاتحاديين للباب العالي بقيادة أنور باشا وقتل وزير الحربية ناظم باشا وسقوط وزارة كامل باشا وتولي الاتحاديين الحكم برئاسة محمود شوكت باشا.

ولقد عرضت الحكومة الجديدة على طاهر خير الدين الاستمرار في الاضطلاع بمهامّه في فلسطين. لكنه رفض هذا العرض رفضا باتا، تضامنا مع الحكومة المتخلّية، فأكد قرار الاستقالة وغادر القدس الشريف في 10 فيفري 1913 ملتحقا بالاستانة "للعمل في الدوائر الحزبيّة المعارضة للحكومة والقيام بأعماله الصحفية". وفي 11 جوان 1913 وقعت حادثة اغتيال الصدر الأعظم محمود شوكت باشا عند خروجه من السراية، فحمّلت الحكومة مسؤولية الحادث حزب "الحرية والائتلاف" الذي كان طاهر خير الدين من أبرز قادته. واعتقلت عدّة أشخاص، كان منهم الداماد صالح باشا أخو طاهر خير الدين بتهمة المشاركة في المؤامرة وأحيلوا على المحاكم العسكرية، كما ألقي القبض على الأخوين طاهر ومحمد خير الدين وعلى عدد كثير من قادة حزب "الحرية والائتلاف"، واستنطقوا على الفور وأُبعدوا إلى بلدة سينوب على ساحل البحر الأسود. أما الداماد صالح باشا، صهر السلطان، وبعض المتّهمين الاخرين الذين اعتبروا من المدبّرين الرئيسين للمؤامرة، فقد أحيلوا على المحكمة الحربية التي حكمت عليهم بالاعدام، ونفّذ فيهم الحكم في 24 جوان 1913. وأطلق سراح طاهر خير الدين وأخيه محمد إثر تدخّل السفارة الفرنسية بالاستانة لدى الحكومة العثمانية التي اشترطت أن يغادرا حالاّ البلاد التركية، فتمّ ذلك فعلا في 9 أوت 1913، وتوجّه الأخوان رأسا إلى باريس حيث استقبلهما وزير الشؤون الخارجية الفرنسية ستيفان بيشون الذي كان قد تولى مهام مقيم عام للجمهورية الفرنسية بتونس من سنة 1901 إلى سنة 1907. ومن باريس تحوّل محمد وطاهر خير الدين إلى تونس، وكان وصولهما إليها في 2 سبتمبر 1913. "وأقام طاهر خير الدين كامل مدّة الحرب العظمى (1914 - 1918) في ضواحي تونس بين منّوبة وجبل المنار في ضيافة أقاربه وأصهاره من آ ل زرّوق".

ولما وضعت الحرب أوزارها وأبرمت الهدنة بين تركيا والحلفاء، سافر طاهر خير الدين إلى إستانبول وحظي بمقابلة السلطان محمد وحيد الدين (1918 - 1922) الذي عيّنه وزيرا للزراعة والتجارة في حكومة الداماد فريد باشا. "وسرعان ما لاحظ الوزير الجديد ما كان ينقص التشكيلة الوزارية من انسجام يعتبر ضروريا في كل آن وحين، لا سيما في أوقات الشدّة، ومن حرص على العمل الجماعي، وأحسّ من أول وهلة بالعوائق المعطلة لنشاطه، بسبب سوء التفاهم، بل قل الارتياب، الموجود بين الصدر الأعظم ووزرائه". فاضطرّ طاهر خير الدين إلى الاستقالة من منصبه في 11 سبتمبر 1919 وقفل راجعا إلى تونس، وقد كان وصوله إليها في 11 أكتوبر 1919، فاستقرّ بها نهائيا إلى أن أدركته المنيّة في سنة 1937.

تعيين طاهر خير الدين وزيرا للعدليةالتونسيّة

لقد اقتضت السياسة الجديدة التي انتهجتها الحكومة الفرنسيّة بالبلاد التونسية، إثر انتهاء الحرب العالمية الأولى، الاستجابة لبعض المطالب الوطنية التي عبّر عنها الحزب الحرّ الدستوري التونسي منذ تأسيسه في شهر جوان 1920، ومن تلك المطالب المستعجلة الفصل بين السلط الثلاث:التنفيذية والتشريعيّة والقضائية. وانطلاقا من هذه القاعدة الأساسية قررت حكومة الحماية إنشاء وزارة جديدة للعدلية التونسية في 26 أفريل 1921, وعيّنت على رأسها طاهر خير الدين الذي كان يتمتع بثقة الحكومة الفرنسيّة، بعد أن قدّم لها عدّة خدمات، ويحظى من ناحية أخرى بتقدير الأمّة التونسية باعتباره نجل أبي النهضة التونسية الأولى، الجنرال خير الدين. "وقد أقام في وزارة العدلية أربعة عشر عاما، خلع فيها على تلك الوزارة الناشئة من قيمته الذاتية ما أرسخ مقامها في الاعتبار إلى جانب المناصب التي توالت عليها الأجيال. وقام بتنظيمات مهمّة في المحاكم الشرعيّة على أساس الهيكل الذي شيّده والده. وقد كانت آثاره في إصلاح المحاكم الشرعيّة تكون أوفى وأكمل لو كانت الظروف مواتية لانجاز برامجه".

ولقد اكتشفت وثيقة على غاية من الأهمية في آخر سنة 1997 في مخلّفات الصادق الزمرلي أمين سرّ وزير العدلية التونسية الأول. وقد تضمّنت الملاحظات والاراء والخواطر التي دوّنها طاهر خير الدين في سنة 1935، أي بعد سنة من استقالته من الوزارة وقبل سنتين من وفاته في سنة 1937, حول ظروف انبعاث وزارة العدلية التونسية والصعوبات والعراقيل التي حالت دون إنجاز الاصلاحات التي كان يرغب فيها الوزير، "لأن السلطة الفرنسية، لما رأت التأثير السيء الذي حصل في الجالية الفرنسية، ندمت على ما أسسته، وحاولت قلب العدلية التونسية إلى شكل يرضي الجالية الفرنسية". وقد ندّد طاهر خير الدين بمواقف الأمراء والوزراء وكبار الموظفين وشيوخ الشرع الذين كانوا يقفون حجر عثرة في طريق إصلاح العدلية التونسية. وكان قد باشر مهام وزير العدلية في مدّة ثلاثة ملوك حسينيين هم على التوالي: محمد الناصر باي (1906 - 1922) ومحمد الحبيب باي (1922 - 1929) وأحمد باي الثاني (1929 - 1942). يقول في شأن الملك الأول: "... كان خفيف الارادة والعزيمة، شديد التأثّر، منقادا إلى إرادة زوجته الأميرة قمر الشركسية الأصل". ويصف الملك الثاني بقوله "كان ذكيّا فطنا له نوع من الذوق في الفنون الجميلة يستر به جانبا من جهله العميق بالعلوم والفنون الأخرى. نشأ في كفالة عمّه محمد الصادق باي (1859 - 1882) فكان يقلّده في الكبرياء والجبروت...". أما الملك الثالث فقد نعته بوصفين معبّرين فقال: "إنه أمير بسيط العقل، قليل الادراك...".

وانتقد انتقادا لاذعا الوزراء الكبار الذين زادوا الطين بلّة بقصورهم وسوء تصرّفهم. فكان الطيب الجلولي (1915 - 1922) "يرمى بالغلوّ في تسهيل مقاصد الحماية الفرنسية، وبالكبرياء والجبروت على كافة الناس". أما الوزير خليل بوحاجب (1932 - 1926)، "فكان آية في الجهل والكذب والأغراض والدسائس... وقد تفطنت الحماية إلى أن الرجل أفرغ من فؤاد أم موسى، لا تهمّه المصالح العامة لا طردا ولا عكسا، وأن دأبه الأغراض السافلة الشخصية". ولم يتردّد طاهر خير الدين في التنديد والتّشهير بشيوخ المحكمة الشرعية العليا بتونس الذين عارضوا إصلاحاته، ورفضوا إلحاق المحاكم الشرعية بوزارة العدلية، وفي مقدمتهم رئيسهم شيخ الاسلام أحمد بيرم الذي قال عنه: "إن لهذا الرجل خصالا، ولكن يغلب المذموم منها على الممدوح، إذ كان يستعمل ما يزينه فيما يشينه، كاستعمال الثبات والتجلّد في سفاسف الأمور، وحسن العهد والوفاء مع سقط المتاع، والشجاعة المدنية في غير محلّها". لكن هذا الرجل لم يكن فريدا من نوعه في عصره، فهو كسائر أعضاء المجلس الشرعي:"حالتهم الفكرية والأدبية مثل قيافتهم الرسمية (لباسهم)، أقرب إلى القرون الوسطى منها إلى قرننا هذا... وأغلبهم كان إما في درجة علمية بسيطة، أو مفتخرا بجهله لمقتضيات العصر". على أنّ طاهر خير الدين قد استثنى بعض الشيوخ الذين كانوا "حقيقة من أجلّة العلماء، ذوي فكر وقّاد وعفّة وديانة"، مثل شيخ الاسلام محمد الطاهر بن عاشور الذي كان "من أفذاذ الأمة، لعلمه المحيط وذكائه الوقاد وبعد نظره ومشاركته في العلوم العصريّة" والشيخ محمد العزيز جعيّط "لعلمه وعفّته وديانته وشجاعته الأدبية". ونظرا إلى كل هذه الصعوبات اقتصر الوزير طاهر باشا خير الدين على بعض الاصلاحات المحدودة لتحسين وضعيّة العدلية التونسية وبالخصوص المحاكم الشرعية "إلى أن يقدّر الله بالاصلاح المنشود، إن لم يقدّر بانهدام صرح المحكمة الشرعية العليا (الديوان) تماما، نظرا إلى جهل الأمراء، وتحاسد الوزراء، وتباغض العلماء، وانشقاق الخاصة، وجمود العوام، وصعوبة الأيام". وبناء على "اشتداد الصعوبة في الاستمرار على الخدمة"، قرّر طاهر باشا خير الدين الاستقالة من وزارة العدلية يوم 7 ماي 1934، فقبلت الحكومة استقالته في 16 ماي وعوّضته بعلي السقّاط، وتحوّل إلى باريس في 8 جويلية 1934، والتحقت به عائلته في سبتمبر من السّنة نفسها. "وبعد غياب دام سنتين رجع إلى تونس، فأقام بضعة أسابيع بالمدينة العتيقة ثم فرّ من ضجيجها واستقرّ بأعلى هضبة البلفيدير، مستغلاّ هدوءها للاستغراق على هواه في دراسة التاريخ المقارن والفلسفة الاسلامية التي كانت دوما وأبدا تستهويه. وهناك وافاه الأجل المحتوم في نوفمبر 1937، بعد تعرّضه لنوبتين قلبيّتين صغيرتين".