صناعة الفخار

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث

نشأت الصناعات الأولى عندما حَذق الانسان مهارة توظيف الموادّ الأوليّة المكوّنة لهذه الصّناعات. ولاشكّ في أنّه قبل أن يستغلّ مخزونها، عثر على مصادرها ومشتقّاتها هنا وهناك وشدّت انتباهه شيئا فشيئا، فرغب حينئذ في الوصول إلى منبعها. لقد كانت المحطّة الأولى مع الصّخور وتحديدا مع الحجارة القابلة للصّقل وتحويلها إلى أدوات يستعان بها في الحياة اليوميّة. هكذا انضوى الانسان داخل عصر الحجارة، عصر التكنولوجيات الأولى. وارتقى بفضلها إلى أولى حضارات ما قبل التاريخ. ولم تكد تنتهي الفترة الثّالثة المعروفة بالحجري الحديث حتى اكتشف الانسان الطّين، كما واكب توظيفه كلّ الحضارات منذ الحجري الحديث وشمل كل الفترات التّاريخية مرورا بعصر المعادن وهكذا لم يوجد عصر خاصّ ب "الطين". إنّ "الفلدسبات" أو ما يعرف كيميائيا بسليكات الألمنيوم مادّة موجودة تقريبا في 60% من الصّخور. وعندما تختلط هذه المادة بالماء في الطّبيعة تعطي الطّين. منذ لحظة انتقاء هذا الطّين من جملة ما يوجد في التّربة إلى مرحلة إنجاز الصّناعة الفخاريّة، يتدخّل الانسان في أثناء هذا المشوار بإضافاته وتقنياته واكتشافاته وخاصّة منها عنصر اللّهب ومن ثمّة التحكّم في درجات الحرارة. وقد وظّف هذا التدخّل في اختزال المواد المعدنيّة. اكتشف الانسان الطّين مبكّرا في البلاد التونسيّة. وأينما استقرّ تعاطى صناعة الفخّار أو الخزف دون انقطاع إلى يومنا هذا. وكلّ حضارة مرّت ببلادنا أضافت إلى هذا النّشاط ما لديها من خصوصيّات فنيّة وجوهريّة ووظّفته حسب حاجاتها وعملت في الان نفسه على تمرير هواجسها وعقائدها من خلال الأشكال والرّسوم التي تحملها الفخّاريات. إنّ أقدم الاثار الفخّارية في البلاد التّونسية إلى حدّ اليوم تعود إلى أواخر العصر الحجري الحديث، نذكر منها "مأوى القبصيين" في منطقة الرديّف قرب قفصة ومغارة "كاف العقاب" الّتي عاش فيها الحجري المتوسّطي ومحطّات أخرى واقعة بين مكثر وحفوز منها "دكّانة الخطّيفة" و"كاف القرية". هنا وهناك ترك لنا متساكنو هذه الأماكن الذين عاشوا بين 4400 ق.م و3300ق.م أوعية وصيَاغًا وقُنَيْنَاتٍ وكؤوس فخّار لا تخلو من الزّخرفة لأنّ الأدوات متوفّرة، على أنّ التحكّم في الشّوائب الموجودة في الطّين لم يحلّ بعد. وبحلول عصر المعادن تنقّل الأفراد أكثر فأكثر. وتنقّلت معهم المنتوجات والتّقنيات. والدّارس لهذه الصّناعة لابدّ أنه يفرّق بين المحلّي والمستورد. وهذا لا ينطبق على الفخّار فحسب وإنّما على كلّ الصّناعات وحتى على المواد الخام والأوليّة أيضا. وعصر المعادن في تونس هو عصر الفينيقيّين ومعاصريهم من اللّوبيين النّومديين وحتى المجموعات الجلمودية. لقد عرفت صناعة الفخار طيلة هذا العصر حركة كبرى وأسهمت المدن الفينيقيّة كقرطاج وكركوان وأوتيك في التّعريف بكلّ الفخّاريات السائدة آنذاك شرقيّة كانت أو غربيّة وفي رواج بعضها. فطيلة القرن الثامن ق.م بقي الفخّار في البلاد التونسيّة مُخْلصًا للأنماط القبرصيّة نظرا إلى قرب هذه الجزيرة من السّاحل السّوري اللّبناني نقطة انطلاق الجماعات الفنيقيّة إلى سواحل تونس.أمّا الانتاج الاغريقي فقد وصل تونس منذ النّصف الأوّل من القرن الثامن وإلى حدود أواسط القرن السابع، إذ ظلّ الفينيقيون يستوردون أغلب حاجاتهم من الفخّار مباشرة من المدن الفينيقيّة الشّرقية ومن بلاد الاغريق وبلاد الاتروسكا (آتروريا تقع على السّاحل الغربي الايطالي). ومن أشهر الفخّاريات المجلوبة. وفي أواخر القرن السّابع في أثناء القرن السّادس بدا هذا الانتاج المتميّز بلونه الأسود يُزاحم الواردات الكورنتية (بلاد الاغريق) إلى القرن الخامس وخاصّة الرّابع حين استورد الفخّار الأثيني بكمّيات كبيرة وعرف هذا الانتاج رواجا واسعا. أما الفخّار الاتيكي (نسبة إلى أتيك Attique في بلاد اليونان) فقد تحقّق له انتشار واسع في جنوب شرق آسيا في القرن السّادس ق.م وقلّدته ورشات قرطاج كذلك. أمّا الفخّار ذو الطّلاء الأسود القادم من صقلّية ومايوركة وروما فقد أخذ مكانه في العاصمة البونيّة قرطاج من أواسط القرن الرابع ق.م إلى بداية الحروب البونيّة عندما توقفت الواردات إلى حلول أواخر القرن الثالث ق.م، إذ أضحى الفخّار يستورد من ضواحي نابولي بإيطاليا. ونبقى دائما في إيطاليا، إذ بداية من 200 ق.م بدأت منطقة ب Campanie تصدّر فخّارها إلى قرطاج.وقد تنغلق بعض الحضارات على نفسها لتبقى في العصر الحجري الحديث، رغم إشعاع جماعات معاصرة لها أتت من الشّرق حاملة معها أشكالا جديدة وصناعات مستحدثة.

هذه الحضارات المنغلقة هي ما يسمّى الحضارات الجلمودية أو حضارات Dolmen نسبة إلى شكل مقابرها. ومواقع "ألاّس ومكثر" المؤرّخة في القرن الثالث والأوّل ق.م تعبّر عن انفراد هذه الحضارة بأشكالها التي نذكر منها مثلا الصّحفة والمشرب والحلاّب والقّلة. وهي أشكال غالبها مفتوح أو شبه مفتوح. ولعلّ ذلك سيكون نقطة ترسيخ للفخّار الرّيفي الذي تعيش على نمطه أريافنا إلى يومنا هذا. وبحلول العهدين الرّوماني والبيزنطي أصبح الفخّار ثابتًا من الثوابت الحقيقيّة للحياة اليومية. ومن أهمّ شواهده التي أثبتتها مواقع هذين العهدين. وعلى غرار الفترة الفينيقيّة البونيّة، واصلت المنتوجات الايطالية في اكتساحها للسّوق المحلّية. ففيما بين منتصف القرن الرابع والقرن الخامس انتشر القنديل المسيحي المصنوع من خزف رشيم. وفي القرن الخامس ظهر القنديل الفندالي الذي تواصل استعماله في العهد البيزنطي.ومن المشاهد التي كانت تحملها القناديل، مشاهد ميتولوجية وصور آدميّة أو حيوانيّة أو نباتيّة وأخرى هندسيّة وأدوات ورموز. والجدير بالذّكر أنّ حرفييّ القناديل عبّروا بأسلوبهم الخاصّ عن هواجس ومشاعر وأفكار تختلف عن حرفيي الفسيفساء أو الرّخام. تعدّ الجرار من أشهر الأواني التي استخدمها الرّومان للتّجارة البحريّة ونقل السّوائل كزيت الزّيتون والخمور. وكانت المنتوجات الايطالية كعادتها سائدة ابتداء من منتصف القرن الأول ق.م وأعقبتها الجرار الاسبانية.أمّا الجرار الافريقية فظهرت في أواسط القرن الّرابع بعد الميلاد وعمرت حتى نهاية القرن السادس. ولا يفوتنا أن نبرز أهمّية الفخّار الافريقي الرّشيم الذي صنعته إفريقيّة ابتداء من القرن الأوّل بعد الميلاد، إذ كان الانتاج مخصّصا في البداية للسّوق المحلّية ولكن سرعان ما تحوّل إلى بضاعة تصدّر إلى كامل البحر المتوسّط حتى القرن السابع.توجد مراكز الانتاج في شمال تونس وفي الوسط. ومن أهمّ المنتوجات التي تصدّر الصّحون والأكواب والأطباق والأوعية.

استعمل العرب أَكَاس يد المعادن لطلاء أوانيهم الفخاريّة وبلاطات زليجهم. ونذكر بالخصوص أكسيد القصدير الذي يعطي اللّون الأبيض وأكسيد النّحاس الذي يعطي اللّون الأخضر النّحاسي. ومنذ القرن التاسع الميلادي أي في عهد الأغالبة شاع الخزف ذو البريق المعدني في القيروان. وقد أثبتت ذلك مواقع العبّاسية وصبرة المنصوريّة. إنّ أبرز ما يختصّ به هذا الفخار هو استعمال الكتابات الكوفّية القديمة داخل الصّحن أو خارج الجرّة ورسم الحيوانات والأشخاص.وأسهم الفاطميون والصّنهاجيون في إشعاع هذا النّشاط. والتحقت مدينة تونس بالقيروان في هذا الشأن. وقد ذكر ابن حوقل هذه الصّناعة إذ قال: "يصنع بتونس فخار حسن الصّباغ وخزف حسن كالعراقي المجلوب" وفي عهد الموحّدين والحفصيّين ركّز حرفيو هذه الصّناعة على الأشكال الهندسية والنباتيّة. وابتعدوا عن الكائنات الحيّة.حمل الأندلسيون الوافدون على الشمال الافريقي فنّ الكويرا دي سيكا. وهي طريقة عزل الأكاسيد الملوّنة لكي لا يمتزج في بعضها ببعض في أثناء عملية الحرق. ويعدّ قاسم الجليزي أشهر من يجسّد هذا الفنّ. وقد شيّدت زاوية حول مقامه الذي أصبح مركزا وطنيا للخزف الفنّي. ولمّا قدم العثمانيون إلى تونس جلبوا معهم طريقة الجليز (القاشاني) ذي اللّون الأحمر القرمزي وخصّوا به المنازل والجوامع والزوايا. وقلّد التونسيون هذا الفنّ ونشروه إلى خارج الحدود (الجزائر وليبيا ومصر) في القرنين السابع عشر والثامن عشر، إذ حافظت مدينة تونس في هذه الفترة على مكانتها الأولى في إنتاج الخزف المطليّ. ومن أشهر نقاط الصّنع آنذاك حي القلاّلين.وأصبحت صناعة الفخّار في مجتمعنا الحديث تدرج ضمن الصّناعات التقليديّة. وهي تتفرّع إلى فخّار ريفيّ يدويّ يعتمد على القولبة بالأيدي ويستهلك على عين المكان. وهو من خصائص المرأة وربما كان موروثا مباشرة عن الحضارات التي لم تتمدّن وفخّار آلي متنوّع الوظائف والخصوصّيات وموجّه إلى الاستهلاك المحلّي والخارجي.