سلقطة

من الموسوعة التونسية
نسخة 10:33، 14 جانفي 2017 للمستخدم Bhikma (نقاش | مساهمات)

(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى: تصفح، ابحث

من "سلّكتوم" (Sullecthum) اشتقّ اسم "سلقطة". وتفسر الأحداث التّاريخية قديمها وحديثها التي مرت بها "سلّكتوم" أو سلّقطة مدى أهميّة هذه البلدة من ناحية الموقع الاستراتيجي الذي اختاره البيزنطيّون لبدء غزواتهم في مأمن من كلّ الأخطار والقوى المضادة، سواء أكانت بشريّة أم طبيعيّة. فسواحل سلّقطة تتّخذ شكل تجويفات مأمونة من الرّياح من ناحية، وصالحة لارساء الأسطول من ناحية أخرى. إنّ هذه الأهميةّ الاستراتيجيةّ الممتازة لسلّقطة هي التي جعلت الفرنسيّين، في الحرب العالميّة الثّانية، يقيمون بها حراسة عسكريّة، وجاء بعدهم الألمان. فنصبوا بها حامية مجهّزة بوسائل دفاعيّة مهمّة. لذلك لم تخسر سلّقطة شيئا من أهميّتها الّتي تمتّعت بها في العصور القديمة بل حافظت عليها، إلى حدّ بعيد، في العصور الحديثة.

فلا شك ّ إذن في أن ّ لسلقطة تاريخا عريقا، قبل الفتح العربي الاسلامي لكثرة آثارها الرّومانيّة والبيزنطيّة. فهي قد مرّت بعهود تاريخيّة متعاقبة حلّ بها الفينيقيّون الذين نشروا بها حضارة زاهية، وأسّسوا بها مرسى لا تزال آثاره باقية إلى اليوم. ثم استوطنها الرّومان ونشروا بها الكثير من معالم الحضارة، وأسّسوا بها الميناء الكبير واستخدموه لتصدير مختلف المحاصيل الزّراعيّة كالزّيوت والخمور نحو روما.

غار الضبع بسلقطة

ومماّ يذكر أنّ أهل سلقطة، قبل الميلاد، وإلى أوائل القرن الثّاني بعد الميلاد، كانوا وثنيّين ثم اعتنقوا النّصرانيّة. وتصدّت السّلطة الحاكمة، آنذاك، لمقاومة الدّين الجديد فاضطهد معتنقوه اضطهادا مروّعا حتّى عاين مسرح الجمّ مذبحة رهيبة... وإذ ذاك، بنى النّصارى الأوّلون بسلقطة المدافن وهي التي تسمّى الدّياميس، (جمع "داموس" المعروفة ب (catacombes) والتي تسمّى اليوم بغار الضّبع وهي الثّالثة من حيث الأهميّة، بعد مدافن سوسة وقرقنة، وبها كنيسة جميلة لها محراب. وقد استمرّ النّفوذ البيزنطيّ ردحا من الزّمن، ازدهرت طيلته المدينة أيّما ازدهار. ومن مآثر البيزنطيّين القلعة الّتي أقاموها لحراسة المرسى، وهي مغمورة بمياه البحر. وفي أعقاب عام 533م، أصبحت سلقطة تابعة للنّفوذ البيزنطي، حينما نزلت أساطيل القائد بليزار (Bélisaire) الذي اتّخذها منطلقا في زحفه نحو قرطاجنّة، وذلك حسب رواية بروكوب (Procope).

فسلقطة كلمة لاتينيّة مشتقّة من "سلكتوم" أي المكان المختار أو المفضّل، أو مكان الأخيار من القوم. والجدير بالذّكر أنّ سلقطة تقع على بعد 5 كلم من قرية قصور السّاف. ولها وضع جغرافي يمتدّ في شكل ثلاثة أهلّة متلاصقة أوّلها بدايته من بلدة الشّابة جنوبا وينتهي في نقطة من الأرض داخل البحر تعرف برأس البلد، وثانيها يبدأ من رأس البلد وينتهي عند نقطة أخرى تسمّى "رأس شبورو"، وثالثها يبدأ من "رأس شبورو" وينتهي برأس كبودة بمدينة المهديّة شمالا. وقد عثر، قرب شاطئ البحر، فيما بين 1962 و1963، على آثار رومانيّة ترجع إلى القرن الثّالث الميلادي. فهذه الحمّامات (thermes)، كانت تقوم مقام المقاهي والنّوادي، ففضلا عن الاستحمام كانت فضاء لتمارين الرّياضة البدنيّة، والمطالعة واللعب: كان الرّوماني أو الافريقي الأعزب أو المترمّل يقضي أوقات فراغه في الحمّامات هذه، ولا يعود إلى منزله إلاّ للنّوم.

ولقد عثر بأحد حمّامات سلقطة الرّومانيّة بمدخل حوض للسباحة على فسيفساء مرصّفة فيها أبيات من الشّعر تعلن الانتصار السّاحق على أنفيدس (Invidus) وقوّته الجهنميّة: فبعد نهاية الكدح والتّعب، يطيب الأوان للتنعّم بلذاذة المياه الدّافئة! وهذه هي الأبيات:

ها هي قد انقضت، بسرعة، لذّة الاستحمام اللّطيف!
وتموّجت المياه تحت أقدام الصّخور
بجهودنا، هزم الحسود هنا وقبر
فمن أحبّني من إخوتي
فليأت معي لننعم وننبسط.

إن ّ هذه الأبيات أشبه بكلمة تذكاريةّ لتدشين البناء وتخليده على ممرّ السنين. وهي، في الوقت نفسه، تعبير عن انشراح ورضى ضمير بعد عمل شاق مرير لكنّ الانتهاء من التّشييد والبناء لا يعني دوما زوال المشكلات، فهناك قوى الشرّ تتربّص بالبنّائين المخلصين، وخاصّة ما يضمره الحسود أنفيدس من حقد ورغبة في الانتقام.

هذا شأن سلقطة في عهود ما قبل الفتح الاسلامي، أمّا بعد الفتح، وخاصة في العهد الفاطمي فقد أصبحت من أرباض عاصمة العبيديّين (المهدية) ، واتّخذها أغنياء الفاطميّين منتزها ومصطافا، كما هو شأنها اليوم. وقد كشفت الحفريّات عن لُقى عدّة تعود إلى العهد الفاطمي منها الخزف الملوّن والمطليّ، والزّجاج المذهّب المصنوع بالمنصورة. وينقل لنا حسن حسني عبد الوهاب "لوحة فنيّة" عن سلقطة رسمها إبراهيم الرقيق في كتاب قطب السّرور... في العهد الصنهاجي: قال الرّقيق: "وتنزّهنا معه في أسفاره إلى المهديّة فبكّرنا يوما، ومعنا طيور وكلاب صيد وتوجّهنا إلى نحو سلقطة، فأخذت الأطيار حجلا وأرانب ونزلنا بكرم ظليل وأتينا بما اصطيد لنا من السّمك، فأمر غلمانه، فحفروا حفرة وأوقدوا نارا وجعلوا يشوون من صيدنا ويلقونه إلينا ويديرون الكؤوس علينا، ونحن في ألذّ عيش وأطيبه إلى أنّ غيّمت السّماء وأتت بطلّ ورذاذ، وكان الفصل ربيعا".