خير الدين التونسي

من الموسوعة التونسية
نسخة 09:07، 30 نوفمبر 2016 للمستخدم Akram (نقاش | مساهمات) (أنشأ الصفحة ب'[1238 - 1306هـ/1822 - 1890م] حين نتحدّث عن الحركة التحديثية في البلاد التونسية في القرن التاسع عشر، لا ي...')

(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى: تصفح، ابحث

[1238 - 1306هـ/1822 - 1890م] حين نتحدّث عن الحركة التحديثية في البلاد التونسية في القرن التاسع عشر، لا يمكننا أن نغفل عن الدور الفعال الذي اضطلع به خير الدين باشا في هذه الحركة، نظريا وفعليا، إلى درجة أنّه استحقّ عن جدارة لقب "أبي النهضة التونسية".

لم يكن خير الدين أصيل البلاد التونسية. بل اعتبر نفسه، مثلما يقول في مذكراته، تونسيا لحما ودما بالتبني. فقد وُلد فعلا في سنة 1822 في بلاد الشركس، جنوب شرقي جبال القوقاز.

وبسبب الكثير من الاضطرابات والحروب التي وقعت بالمنطقة، اختطف من أهله وهو صغير السنّ. واقتيد إلى استانبول حيث اشتراه تحسين بك في سوق الرقيق. وعند بلوغه السابعة عشرة من العمر، سنة1839، اشتراه مبعوث المشير أحمد باي (1837 - 1855) وجلبه معه إلى تونس ليعزّز به صفوف المماليك الموجودين في سرايا المشير.

لم يزاول خير الدين دراسته، على غرار غيره من المماليك، أمثال حسين ورستم، في المدرسة الحربية التي أنشأها الباي المذكور لاصلاح الجيش والادارة وتمكين البلاد من أسس التحديث. غير أنّ هذا لم يمنع خير الدين من الانكباب بمفرده على الدراسة، فأصبح يتقن التركية، فضلا عن كلا ًّ من اللغة العربية واللغة الفرنسية. وارتقى بسرعة، بحكم ثقة الباي فيه وفراسته، في سلم الرتب العسكرية، من رتبة بمباشي أي قائد الخيالة سنة 1840 إلى رتبة أمير الأمراء أي جنرال سنة 1852.

وبحكم علاقاته الوطيدة بالمشير أحمد باي اصطحبه في رحلته إلى باريس سنة 1846. وهو ممّا جعله يكتشف عن كثب العالم الغربي ومؤسساته. وتيسّر له فيما بعد العودة إلى العاصمة الفرنسية للمكوث بها مدّة أطول فيما بين 1853 و1856لمتابعة القضية المرفوعة لدى المحاكم الفرنسية ضدّابن عياد وفي الوقت نفسه يبيع بعض مجوهرات الباي قصد توفير الأموال الكافية لتجهيز العسكر الموجه إلى تركيا لمساندةالامبراطورية العثمانية في صراعها مع روسيا في حرب القرم.

لقد استفاد خير الدين من هذه الاقامةالباريسية. وذلك بأن تعرّف إلى أسس الحضارة الغربية الحديثة وخاصة قيام النظام السياسي على المؤسسات الدستوريةوالتنظيم الاداري المحكم. ولم تنقطع صلته بهذه الشواغل الفكرية، رغم تعيينه سنة 1857 وزيرا للحربية، كما شارك في أعمال لجنة شرح قانون عهد الأمان، الذي أصدره إمْحمد باي في سبتمبر من السنة نفسها. ثم تولى خير الدين رئاسة المجلس الكبير. وهو بمنزلة البرلمان الذي أقرّه محمّد الصادق باي في أوّل دستور صدر بتونس والعالم العربي - الاسلامي سنة 1861. ولكن رفضه لسياسة التداين والاقتراض التي سلكها الوزير الأكبر مصطفى خزنه دار، جعله يستقيل من مناصبه، مفضلا العناية بشؤونه الخاصة فيما بين 1862 و1869، بعد مصاهرته له بزواجه من ابنته جنيْنة. وانكب في هذه الفترة على مطالعة الكتب والجرائد التي كان يوصي بها وبمناقشة عدّة مسائل في منتدى فكري مع ثلة من رواد الاصلاح، مثل الجنرال حسين والجنرال رستم، والزيتونيين المستنيرين أحمد ابن أبي الضياف وبيرم الخامس وسالم بوحاجب. ولقد أفرزت تلك المناقشات الكثيرةكتابه الشهير، المؤلف بأسلوب صحفي أكثر منه الموسوم بأقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك الذي صدر سنة 1867 وقد ضمّنه الكثير من أفكاره الاصلاحية، إلى درجة أنّه اعتُبر بمثابة منزلة برنامج إصلاحي للنهوض بالعالمالعربي الاسلامي كلّه وتهدئته لدخول الحداثة دون التخلي عن مقوّماته الذاتية وهويته وعقيدته.ففي هذا الكتاب ذهب خير الدين إلى أنّه لا ضيرعلى البلدان العربيةالاسلامية من الاقتباس عن الغرب ودخول عالم الحداثة مع التمسك بمقوّمات الدين الاسلامي الحنيف. وذلك لأنّ التقدّم وحبّ الخير للمجموعة والاحتكام إلى العقل هي من المبادئ الأولية للاسلام فلا تتناقض معه ولأنّ الاسلام في نظره، يتأسّس على العقيدة والعقل معا.

وفي سنة 1869 عاد خير الدين إلى النشاط السياسي بإلحاح من الصادق باي، الذي كلفه برئاسة اللجنة المالية الدولية المفروضة من القوى الأوروبية، وخاصة من فرنسا وأنقلترا وإيطاليا بعد عجز البلاد عن إرجاع ديونها للخارج. وبوفاة زوجته سنة 1870 وانفصام الروابط العائلية مع مصطفى خزنه دار، دخل في صراع معه بسبب محاسبته على الأموال التي اختلسها من الدولة.وانتهى هذا الصراع بتعينه وزيرا أكبر سنة 1873 خلفا لمصطفى خزنه دار، خاصة أنّه نجح في تمكين الباي سنة 1871 من فرمان تعترف بمقتضاه الامبراطورية العثمانية بالحكم الوراثي للعائلة الحسينية على إيالة تونس.

عندما تولى خير الدين مهام الوزير الأكبر وجد البلاد على قاب قوسين أو أدنى من الانهيار التام، نتيجة لمخلفات الانتفاضة الشعبية بقيادة علي بن غذاهم سنة 1864. وقد تجسّدت في كثرة الديون المخلدة بذمّتها وللنقص الفادح في الموارد البشرية لتسيير شؤونها. فبادر بإعادة تنظيم الادارة وإصدار عدّة قوانين كفيلة بوضع لبنة متينة لمشروع إصلاحي. ومن هذه القوانين، قانون تنظيم إدارة الأوقاف وإصلاح التعليم الزيتوني وبعث مدرسة عصرية هي المدرسة الصادقية وقانون الفلاحة لتنظيم الفلاحة وبعث مؤسسة الأرشيف لحفظ وثائق الدولة وقانون عدول الاشهاد لضمان الملكيات. كلّ هذه القوانين التنظيمية صدرت في سنة 1875. وعمل أيضا على نشر الأمن والاستقرار داخل البلاد، إلى درجة أنّ المرأة، حسب ما أورده في مذكراته، أصبحت تتجوّل في الأرياف بكامل الحرية والأمان. واهتمّ أيضا بالتهيئة العمرانية للعاصمة.فبلّط بعض الأنهج. وأنار بعض الشوارع. ووضع مخّططا لمدينة حديثة ستعمل فرنسا فيما بعد على إنجازها في فترة الحماية.

ولكن الدسائس المتواصلة، التي كان مصطفى خزنه دار ومصطفى بن إسماعيل، الذي سيخلفه، يحيكانها ضدّه بإعانة قناصل الدول الأوروبية، جعلت محمّد الصادق باي يُقدم سنة 1877 على عزل خير الدين، حارما بذلك البلاد من إصلاح حقيقي، خاصة أنّ خير الدين استطاع في فترة وجيزة من مباشرته الوزارة الكبرى احترام تعهدات تونس المالية إزاء الخارج ووضع ميزانية للتصرف متوازنةودفع عجلة النموالاقتصادي.كانت أفكارخير الدين في أقوم المسالك معروفة شرقا وغربا. فقد كلّف، قبل توليه الوزارة الكبرى،صديقه أمير الأمراءحسين بترجمة كتابه إلى الفرنسية والانقليزية. وسعى إلى توزيعه أحسن توزيع. فوجد رواجا منقطع النظير، إلى درجة أنّ مكتبة الاسكندرية اقتنت منه خمسين نسخة.ونشر مسلسلا في جريدة "الجوائب" لصاحبها أحمد فارس الشدياق. وقد ترجمه سعادي أفندي إلى الفارسية. وشرع في نشر أجزاء منه في جريدته الصادرة بلندن باللغات العربية والتركية والفارسية، كما كان محلّ اهتمام من رفاعة الطهطاوي والمصلح العثماني مدحت باشا.وحاز هذا الكتاب أيضا اهتمام السلطان عبد الحميد الثاني. وهو ما جعله يأمر باي تونس بتركه يغادر البلاد للالتحاق على الفور بإستانبول، عندما علم بعزله، مقتنعا بأنّ الرجل يستحق الاسهام في الحياة السياسية للامبراطورية، وبأنّه قادر على إنجاز بعض الاصلاحات وحلّ بعض المشكلات التي كانت تتخبط فيها الامبراطورية نتيجة الحرب العثمانية الروسية ومخلفاتها التي تمخضت عنها سنة 1878 في مؤتمر برلين. فدعا عبد الحميد الثاني خير الدين إلى تولّي الصدارة العظمى من أواخر السنة نفسها إلى منتصف السنة الموالية. ورغم قصر هذه الفترة، فقد تمكّن من حلّ الكثير من النزاعات الحدودية مع روسيا واليونان وغيرها من الملفات وأسهم بعد استقالته من الصدارة العظمى في إبداء الرأي في عدّة قضايا، تخص مصر والبلقان، عندما دُعي إلى ذلك. وإذا لم يعمّر طويلا في الصدارة العظمى، فذلك يعود أساسا إلى اختلافه مع السلطان حول بعض التنظيمات الادارية الداخلية، التي ربما رأى فيها عبد الحميد مؤشرا مستترا لاعادة العمل بمشروطية 1876 المجمّدة آنذاك.

لقد ظلت هذه الجوانب مجهولة لدى عامة المهتمين بحياة خير الدين، ربما لأنهم ركزوا اهتمامهم على كتابه أقوم المسالك وبرنامجه الاصلاحي في تونس، مؤاخذين إيّاه على بيعه هنشير النفيضة الذي كان حصل عليه من باي تونس سنة1871، إلى شركة إيطالية، متّهمينه بأنّه سهّل بذلك عملية احتلال تونس سنة 1881 من قبل فرنسا. ولكن خير الدين برّأ نفسه في مذكراته من هذه التهمة، معتبرا أنّ عجلة الاستعمار آنذاك كانت متقدّمة في دورانها ولا يمكن لأحد إيقافها، وأنّه عرض على التونسيين شراء الهنشير المذكور بتخفيض لكن لم يتقدم أحد منهم لاقتنائه. ونستشف من مذكراته أيضا أنّه في سنة 1881 حاول لدى السلطان عبد الحميد الثاني درء الأخطار المحدقة بالبلاد التونسية لكن دون جدوى.

ولئن توفي خير الدين بإستانبول سنة1890، عن عمر يناهز السبع والسبعين سنة، فإنّ ذكراه في تونس بقيت راسخة إلى يومنا هذا. بل ظلّ لدى كلّ المصلحين والمناضلين ضدّ الاستعمار الفرنسي وضدّ التخلف رمزا للاصلاح والتطوّر السليم القائم على الجمع بين الاقتباس من الغرب والحفاظ على الهويّة الاسلامية. وهذا ما جعل كلّ من أتى من بعده ينهل من أفكاره وتجربته في إدارة شؤون البلاد. وتكريما له جلبت في نهاية الستينات من القرن العشرين رفاته من تركيا ودفن بتونس. كما طُبعت صورته على ورقة نقدية من فئة العشرين دينارا، وأيضا أصدر البريد عدّة طوابع موشحة بصورته.