حركة الشباب التونسي

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث

[1906 - 1912م]

حركة الشباب التّونسي تسمية لاحقة لطور من أطوار تاريخ الكفاح التّحريري التّونسي ضدّ الاستعمار الفرنسي الذي بدأ إثر إمضاء الصّادق باي معاهدة باردو في 12 ماي 1881 المقرّة تمركز "الحماية الفرنسية". والتّسمية ارتبطت بالنّشاط الذي كانت تقوم به نخبة من الشّبيبة التّونسية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين إلى انفراط عقدها بعد أحداث التّرامواي سنة 1912. ولم تكن هذه الحركة حزبا سياسيّا في الأوّل ولا مؤسّسة ثقافيّة تدعى بهذا الاسم بل إنّ ظروفا معينة دفعت مجموعة من المثقّفين الوطنيين إلى توحيد صفوفهم للدّفاع عن مصالح التّونسيين تجاه عسف سلط الحماية التي بدأت تضرب بشتّى الوسائل كلّ الكيان التونسي سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. وكما قالت جريدة الصّواب بتاريخ 6 سبتمبر 1907: "الأمّة إذا قدرت أن تقول قدرت أن تفعل".

لقد وجد نظام الحماية منذ تمركزه نخبة من خرّيجي المدرسة الصّادقية وجامع الزيتونة واعية بدورها، مرتبطة بالحركة الاصلاحيّة التي بدأها خير الدين التّونسي، مواصلا بذلك ما أسّسه بناة النّهضة الأوّل من أمثال محمود قبادو. وكانت هذه النّخبة تضمّ بالخصوص محمد بيرم الخامس ومحمّد السنوسي وأحمد بن أبي الضيّاف وسالم بوحاجب وعلي بوشوشة ومحمد بن خوجة ومحمد الطاهر ابن عاشور ومحمد النّخلي ومحمد شاكر وغيرهم وعددًا من المتكوّنين تكوينا فرنسيّا مثل عبد الجليل الزّاوش والبشير صفر.

وكان هذا التيار الاصلاحي مرتبطا بالاصلاحيين في المشرق العربي و"يمكن القول... بوجود تطابق بين التيارين الاصلاحيّين التونسي والمصري لا بوجود علاقة تبعية" (علي المحجوبي: جذور الحركة الوطنية ص 121) وهو ما أشار إليه أيضا شارل أندري جوليان في كتابه "المعمّرون الفرنسيّون وحركة الشباب التونسي" قائلا: "ولعلّ الشيخ محمد عبده استنبط مذهبه في تونس العاصمة أثناء إقامته الأولى بها (6 ديسمبر 1884 - 4 جانفي 1885) بعد المحادثات التي أجراها مع الزيتونيين المتفتّحين" وفي إقامته الثانية من 9 إلى 24 سبتمبر 1903. تحقّق التجاوب بين الزّيتونيين الاصلاحيين والصّادقيين ذوي التكوين العلميّ حسب عبارة محمّد الفاضل ابن عاشور، أملته ظروف معيّنة نابعة من عنصرية نظام الحماية الذي هيمن عليه المستوطنون الفرنسيون، ومرتبطة بأهداف هذه الحركة. "وبهذا التّجاوب المتلاقي الطرفين التحم الشّقّان بلحمة التعصّب للوزير خير الدين ومناهجه، وتقاسما العمل للنهضة بالبلاد من كبوتها، وأصبح الشقّ الصّادقيّ أبرز الشّقين في هذه الكتلة بما يمتاز به من نشاط الشّباب ومتانة الارتباط بين أفراده وانسجام مبادئهم الاصلاحية مع أصول تكوينهم العلمي".

وعند النظر إلى سيرورة هذه الحركة يمكن التّمييز بين طورين أوّلهما مرحلة النّضج والتّكوين وتوافق الاصلاح الثّقافي والاجتماعي الذي ميّز نهاية القرن 19 والآخر مرحلة الاعلان عن المبادئ والكفاح من أجل تحقيقها، وهي فترة تمتد من بين سنتي 1906 إلى 1912. نجح الفرنسيون أوّل الأمر في تصوير الوضع في صورة قدماء ومحدثين متشبّثين بالماضي أو داعين إلى المعاصرة. واختلفت المواقف حتى قيل إنّ مناوأة صريحة وجدت بين الخلدونيّة وقدماء تلامذة الصّادقية. ولكنّ البشير صفر الزّعيم الواعي والمستنير أفهم علي باش حانبه وغيره أنّ المعركة في الواقع ليست في هذا الانقسام بين الذين يعتقدون أنّ المعاصرة والثّقافة العصرية والاقبال على العلوم كفيل وحده بالخروج من الوضع الشائن الذي تتخبّط فيه البلاد وبين الذين يرون أنّ مجرّد التّشبّث بالماضي هو المنقذ ممّا أصاب الجميع وإنّما الرّهان الحقيقي هو في معركة الحفاظ على الذات والذّود عن الكيان.

ولقد تبيّن ذلك بممارسة الشّباب الصّادقي "للإدارة وأهلها فانكشف لهم من نوايا الاستعمار ما كان خفيّا عن أهل الادراك فضلا عن عامّة البسطاء". وكانت سلط الحماية خدعت النّاس فأوهمتهم بأنّ المحافظة على التّقاليد وعدم المساس بالمؤسّسات الدّينية هو من باب احترام مشاعر أهل البلاد. ولكن "تلويح الفرنسيين بأنّهم [أي الشّباب الصّادقي] إلى الفرنسيّين أقرب منهم إلى العرب المتأخّرين بدا في مزالق حديثهم وفلتات لسانهم بأنّ المستقبل للغرب وثقافته وأنّ القوميّة العربية التّونسية إلى زوال". ولم يكن مجال للمقاومة السّافرة في هذا الطّور لأنّ في ذلك الخسران وتشتّت الصّفوف والقضاء على كلّ الجهود أمام مستعمر مازال في نشوة انتصاره، وإنّما كان الرّكون إلى نوع من التقيّة وضرب من الولاء لسلط الحماية متفاوت الدّرجات ونحو الخلافة العثمانية والرّهان على ورقة الفرنسيين الأحرار في نطاق الحماية. لأنّ الحركة من هذه الوجهة الاصلاحية هي في نفسها "حداثيّة أساسا". ولكنّها تتمحور في الجملة حول عناصر بيّنة واضحة هي "الاتحاد الاسلامي، انتماء غير مشروط إلى مركز الخلافة، أخوّة دينيّة وسياسيّة عثمانيّة، التّحرر السّياسي.هذه إذن عناصر التّشابه في الحركة الفكريّة الاجتماعيّة والسّياسية بين الشّباب التّونسي والمنظّمات العثمانية الأخرى الموجودة في تلك الفترة" ومن هنا جاءت التسمية فيما بعد على غرار الشّباب التّركي. ومن تتبع أهداف هذه الحركة وجدها ترتكز أساسا على الشأن الوطني بمعانيه المتداخلة. ذلك أنّ النّاظر في بناء الوطنية التّونسية "يمكن له إبراز الآليات التي بها تكوّن وانتظم وانتشر الشأن الوطني، ويتسنّى له تدقيق ملامح الذّاتية التّونسية والقيام بعمل طويل النّفس لاستجلاء الضمير الوطني وذاكرته ورمزيته. ومن هنا نجد هذا التّراكب بين الوطن الأوّل الذي هو تونس والوطن الكبير، الأمّة العربية والوطن الأكبر الأمّة الاسلامية".

لذا تركّزت مجابهة هذه الحركة للنّظام الاستعماري على تأجيج الضّمير الوطنيّ، وإن "كان ظهوره بين السّكّان التّونسيين سَبَق الحماية. ويتعلّق الأمر بالاشتراك في الأرض واللّغة والثقافة والدّين الذي ميّز البلاد التّونسية قبل سنة 1881". لكنّ هذا الضّمير الوطني تكيّف خاصّة أمام ما لمسته هذه النّخبة المثقّفة من أصناف المهانة التي كان يلحقها بهم المعمّرون والتجّار والإداريون الفرنسيون. وخدمة لهذه الأغراض، أصدروا جريدة عربية اللّسان أسبوعية غير رسمية تحمل اسم "الحاضرة" "حظيت بتنظيم قانوني محكم وبدعم حكومي" وتمتّعت بشيء من الحرّية لأنّ سلط الحماية غضّت الطّرف في أوّل الأمر واعتبرت أنّ هؤلاء يروّجون في الواقع للثقافة الغربية فهم ينتقدون مجتمعهم الذي أخلد إلى الماضي وازورّ عن العلم ومآتي العصر. وصدر العدد الأّول من هذه الجريدة في 24 ذي القعدة 1305هـ/2 أوت 1888م وصدر آخر عدد منها يوم 7 نوفمبر 1911 يوم أحداث الزلاّج. كان مدير الجريدة علي بوشوشة و"ساعده في توجيهها وتحريرها طائفة من رجال النهضة أشدّهم اتّصالا بالعمل صديقه البشير صفر" الذي يعدّ الأب الثّاني للنّهضة. ووجد المساندة من الشّيخ سالم بوحاجب والشّيخ محمّد السّنوني ومحمد القروي وعلي الورداني وغيرهم.

وفي المقابل كان التّفوّق الأوروبي بل التبجّح به ضمن كل الاتّجاهات الايديولوجية التي كانت تسيطر على الجالية الأوروبية والفرنسية بالخصوص. وهذا "اليقين كان يسيطر فعلا على موقف الاشتراكيين ووجد أيضا في الكتابات الماركسية. فهو ينسب إلى المآتي الحضارية والثّقافية الغربية تفوّقا لا مطعن فيه على كلّ الحضارات الأخرى. فلا بدّ للمثل الأعلى اللاّتيني من أن ينتصر في كلّ مكان في العالم".لم يشذّ اللّيبيراليون عن القاعدة، فما بالك بالمستوطنين الغلاة. فقد جاء في جريدة "تونس الاشتراكية": "إننا غربيون ومن الواجب انتصار المثل الأعلى اللاّتيني في أرض إفريقيا ضدّ الحماقة المتزمّتة". كلّهم متّفقون على سياسة بموجبها يدمج الأهالي ويلحقون بفرنسا ضاربين صفحا عن كلّ سياسة أساسها التّعاون والتّحرر في نطاق الحماية. وليس غريبا أن نقرأ في جريدة "تونس الفرنسية" ما يلي: "إنّ ما يحتاج إليه العربيّ في الرّيف هو وجود المعمّرين، فكلّما ازداد عدد الضّيعات حول دوّاره تزايد عدد الصّناعيين بالقرى وتكثف استغلال الأرض من قبل الأوروبي وازداد العربيّ تمدّنا، وحسّن في ذات الوقت من وضعه". وتردف قائلة: "كلاّ إنّ العربيّ ليس في حاجة إلى تعلّم لغتنا في المدرسة. وهو لا يرى في التّعليم الدّواء الشّافي... ولا يرى في ذلك الوسيلة التي تمكّنه من الأكل حتى الشبع عندما يصبح بطنه خاويا.

ونقول أكثر من ذلك إنّ التعليم الذي يريدون تلقينه سيزيد وضعه الماديّ سوءا" وهو أمر يكذّبه الواقع إذ أنّ التونسي معروف حتى في ذلك الوقت بشغفه بالتعلّم بشهادة كثير من الفرنسيين. ولقائل أن يقول إنّ انسداد الأبواب في وجه هذه الجماعة أمام تألّب كلّ الجهات الفرنسيّة على تعدّد اتّجاهاتها ضدّهم ربما يجدون في ممثّل السّيادة التّونسية موئلا. ولكنّ الباي وإن احتفظ في الظّاهر بسلطاته لأنّ السّلطتين التّشريعية والتّنفيذية كانتا ممثلتين في شخصه فإنّه لم يبق له في الواقع إلا ختم الأوامر العلية من دون أن يستشار أو يؤخذ رأيه. وأكثر من ذلك فإنّ سلط الحماية قد أحكمت قبضتها على كلّ دواليب الحكم، "من أعلى مستوى إلى أدناه".

فعلاوة على جهاز الدّولة التّونسية المتجسّد في الوزير الأكبر وبعض الوزراء والقياد والكواهي والخلفوات ومشايخ التّراب والصبايحيّة كان هناك جهاز آخر مواز وهو المقيم العام المنتصب في أعلى مستوى وكاتب عامّ للحكومة وهو في الواقع بمثابة الوزير الأكبر الفعلي ومراقبين مدنيين في الجهات وجندرمة منبثّة في كامل الايالة يؤازرها الجيش الفرنسي. وعلى هذا النحو خرج الحكم الفعلي من أيدي الباي وبقايا المماليك والموالين له وأصبح حكمهم صوريا. وبهذا "انتقلت السّلطة إلى ممثّلي نظام الحماية من الفرنسيين الخاضعين لمشيئة الجالية الفرنسيّة وغيرهم". فسنّت الحماية نظام مراقبة لا يخضع لأيّ مراقبة. وهو مبنيّ على النّفاق في إيهامه الجميع بأنّه حريص على المحافظة على تقاليد البلاد وإبقاء ما كان على ما كان. ونتج عن هذا الوضع بعد عقدين تدهور ملحوظ في حياة التّونسيين اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. ولم تجد هذه الحركة أمامها هذه القوى العاتية في صلب نظام الحماية بل كان المحافظون التّونسيون حجر عثرة في سبيل تطوّر هذه الحركة "فهم بالاضافة إلى عدائهم للأفكار الاصلاحية وروّادها وولائهم لسلط الاحتلال والضّلوع معها كانوا يقابلون تحرّكات الوطنيين بالمناهضة والاستنكار". وأكثر من هذا كان بعض العلماء من المحافظين لا يألون جهدا في إضفاء الشّرعية الدّينية على السّياسة الاستعمارية في المجال الزّراعي وهو ما مكّن المعمّرين من استغلال مساحات شاسعة من أخصب الأراضي في البلاد التّونسية ولم يبخل بعض هؤلاء العلماء على نظام الحماية بمساعدته بشتّى الطرق للوصول إلى غايته.

ولمّا تبيّن لجماعة الشّباب التّونسي أنّ نظام الحماية بدأ ينفّذ مخطّطاته لاغتصاب ثروات البلاد ولابقاء الشّعب التّونسي في حال من الفقر والجهل والانهيار وإدماجه في البوتقة الفرنسيّة دون مراعاة لحضارته ولا لثقافته كان ردّ الفعل متناسبا مع الأحداث متطوّرا من العمل الثّقافي إلى الاحتجاج إلى المعارضة السّافرة والالتحام بالشّعب. وانطلاقا من شعور الجماعة العميق بضمير وطنيّ أخذ يتبلور بمرور السّنين شرعوا في كفاحهم ضدّ ممارسات سلط الحماية بوسائل عدّة. بدأت بالكتابة في الجرائد والمجلاّت ثمّ بالعمل ضمن الجمعيات التي أسّسوها وبالاشتراك في المؤتمرات المنعقدة بفرنسا جلبا للرّأي العام فيها وخاصّة الأوساط اللّيبرالية. وأخيرا رأوا أنفسهم مضطرّين إلى الاندماج في الشّعب والانصهار في النّضال السّياسي بتعديد شبكات الاتصال في الدّاخل والخارج. وعبّرت هذه النّخبة بوضوح عن مطالب التّونسيين فكتب مثلا عبد الجليل الزاوش في جريدة "التونسي" ما يلي: "يتمنّى التّونسيون أن تضع الحماية حدّا لهذا الوضع وأن يمنحوا دستورا يضمن لهم الحرّية الفردية وحرمة المسكن ويوطّد حرّية الصّحافة في إطار القانون ويعلن أنّ جميع المواطنين سواسية أمام العدالة". ولم يفت هؤلاء ما كانت تقوم به فئات من الشّعب التّونسي من معارضة لقرارات سلط الحماية تصل في بعض الأحيان إلى التمرّد مثل احتجاج عدد من أعيان العاصمة على إسناد لزمة تزويدها بالمياه لشركة فرنسية سنة 1885 وتظاهر مئات من التّونسيين أمام قصر الباي بقيادة هؤلاء الأعيان. وكان ردّ فعل المقيم العامّ عنيفا "فنَفيَ مدير الغابة إلى الكاف وشيخين من مشايخ الزّيتونة بقابس وعزل شيخ المدينة وعددا من سامي الموظّفين بوصفهم متعصّبين ومناهضين للحماية" كما تمرّدت بالقصرين وتالة سنة 1906 جموع من الأهالي نتيجة للخصاصة والاستبداد وقتلوا معمّرا وزوجته وأحد العملة، وعقبت ذلك محاكمات واضطهادات كبيرة. ولمّا رأى جماعة "الحاضرة" أنّ النّشاط الصّحافي غير كاف للتّعريف ببرنامجهم الطّموح قرّروا سنة 1896 تأسيس جمعية سمّوها الخلدونيّة. ولم يكن للتّونسيين عهد بالجمعيات. وهي "مؤلّفة من مسلمين... قد مكنّتهم معرفة اللّغتين وكيفيّة تربيتهم من المشاركة في التمدّن وكان الغرض الأصلي من هذه الجمعية بثّ أفكار تقرّب من أفكار الوزير خير الدين رحمه اللّه، وذلك بأن تتعاطى الجمعية المذكورة محادثات علميّة وترجمة كتب وتحرير رسائل وتخريج معلمين قادرين على نشر أصول المعارف الأوروباوية باللّغة العربية كتابة ومشافهة عند اجتماع أعضائها بغيرهم".وكان لهذه الجمعيّة تأثير بالغ خصوصا في خرّيجي جامع الزيتونة. فلقد تخرّج فيها جيل له ثقافة تعتمد معرفة التاريخ والجغرافيا واللّغة الفرنسية والاقتصاد السّياسي والعناية بالصّحة والفيزياء والكيمياء والعلوم الطبيعيّة. وعلاوة على التعليم فقد نظّمت هذه الجمعيّة محاضرات في جميع الفنون. وكتب أحد غلاة الاستعمار: "إذا قدّر أن تندلع ثورة في البلاد التّونسية فإن هيئة أركان ثوّارها ستكون قد تخرجت في الخلدونيّة". ولم تقتصر جماعة الشّباب التّونسي على هذا النّشاط بل تجاوز صيتهم البلاد التونسية وأصبحوا يتمتّعون بصيت عالٍ في الأوساط السّياسية بفرنسا. فكانت لهم صداقات مهمّة وكانوا محلّ تقدير وعناية من بعض الأحزاب. ودعما لهذا العمل واستكمالا لما تقوم به جمعية الخلدونيّة بين طلبة جامع الزّيتونة من نشر للثّقافة العصرية أسّس ثلّة من هذه الحركة جمعيّة قدماء تلامذة المدرسة الصادقية. وليس بخاف أنّ شقّا من أقطاب هذه الحركة أحسّوا بضرورة العناية بالعدد الكبير نسبيا من خرّيجي المدرسة الصّادقية الذين كانوا في حاجة ماسّة إلى نشاط الخلدونية وإن أسهموا فيها بالتأطير والتدريس، زيادة على عدم رضا الأوساط الاستعمارية وتخوّفها من خرّيجي الخلدونية. فلم تر إدارة الحماية مانعا من التّشجيع على تأسيس جمعيّة أخرى ظنّت أنّها ستكون أقرب إليها من الجمعيّة الأولى. وكان الرّاعي الأوّل لجمعية قدماء تلامذة الصّادقية علي باش حانبه المحامي الشّاب الذي ألقى في الجلسة العامّة الأولى خطابا باللّغة الفرنسية "وكان بارعا في الجدل، مقتدرا على التّفكير النّظري المنهجي ومناضلا جمع بين الشّجاعة والثّبات على المبدإ". وقد اقترح علي باش حانبه في خطاب الافتتاح أن يكون نشاط الجمعية مستمدّا من الأهداف التي رسمها الجنرال خير الدين للمدرسة الصّادقية عند تأسيسها سنة 1875 مشيرا إلى الثّورة التي أحدثها ذلك الوزير المصلح. "ولم يقصد علي باش حانبه وأصدقاؤه معارضة نظام الحماية بل كانت غايتهم، من جهة، تغيير عقليّة التّونسيين لتمكينهم من العيش مع مختلف الأجناس التي وفدت على بلادنا، ومن جهة أخرى، إزالة الاحترازات المسبقة التي تفرّق بين التّونسيين والفرنسيين وإحلال التّقدير المتبادل مكانها".وانتخب على رأس الجمعية خير اللّه بن مصطفى، وهو رجل علم وذو نفوذ أدبي كبير، وتكوّنت من أحد عشر عضوا، وانضمّ إلى الهيئة المديرة إثر الجلسة المنعقدة في 28 أكتوبر 1906 بصفة أعضاء علي باش حانبه والبشير صفر وعبد العزيز الحيوني والهادي بن طاهر. وغلبت على نشاط الجمعيّة في أوّل الأمر الصبغة الفرنسيّة إلاّ أنّه سرعان ما انضمّ إلى النّشاط العنصر الزّيتوني فألقيت محاضرات باللّغة العربيّة.

إنّ كلّ هذا العمل الثّقافي والاجتماعي شحذ الضّمير الوطني في الرّأي العام التونسي الذي أصبح يتطلّع إلى هؤلاء الذين أبدوا حماسا في الذّود عن الذّاتية التّونسيّة والدّفاع عن مصالح التّونسيّين. وبمرور الزّمن وانكشاف نوايا الاستعمار تحوّل عمل هذه الجماعة الثقافيّ إلى عمل سياسيّ مقنّع يتجسّم في مطالب اجتماعيّة. فكان خطاب البشير صفر رئيس جمعيّة الأوقاف في 20 مارس 1906 بمناسبة تدشين "التكيّة" وهي مأوى العجّز، كان ذلك الخطاب تحوّلا كبيرا في مسار هذه الحركة إذ وصف وضع التّونسيّين البائس وحلّل تدهور أحوالهم المادّيّة وعرض مطالبهم بكلّ دقة وجرأة. وكان حضور المقيم العام "ستيفان بيشون" (S.Pichon) المعتدل والمتفهّم لحال التّونسيّين فرصة للمعمّرين وغلاة الاستعمار لشنّ حملة لا هوادة فيها على المقيم العام الذي سرعان ما أطاحت به، وعلى هذه النّخبة وكلّ التونسيّين. ولكنّ هذه الحملة لم تفتّ في همّة الشبّان التّونسيين بل وجدوا في الأوساط الفرنسية آذانًا صاغية. وحضر محمّد الأصرم نيابة عن الجماعة المؤتمر الاستعماري المنعقد بمرسيليا من 5 إلى 9 سبتمبر 1906 وحلّل الوضع في تونس في ميادين التعليم والاقتصاد والاجتماع. وكان لذلك وقع شديد في الأوساط السّياسية الفرنسيّة. وأدّى كلّ هذا إلى إكساب الجماعة شيئا من الوثوق بالنّفس وهو ما جرّهم إلى دخول الميدان السّياسي من بابه العريض. فكونوا سنة 1907 جريدة تدعى "التّونسي" وهكذا تطوّرت نظرة الجماعة من الاقتصار على الحاضرة إلى التّفكير على صعيد الوطن بأكمله.كانت الجريدة أسبوعية يديرها علي باش حانبه وكان أبرز محرّريها عبد الجليل الزاوش والصّادق الزمرلي ومحمد نعمان وحسن قلاتي وأحمد الصّافي. ولم يكن مشروعهم ليرقى إلى المطالبة بالاستقلال لأن الوعي الوطني للتونسيّين لا يزال محدودا ولأنّ أغلب عناصر النخبة مقتنع بسياسة التّعاون مع فرنسا للخروج من مجتمع تقليدي تخيّم عليه رواسب العهود القديمة من فقر وجهل ومحافظة متحجّرة إلى مجتمع تسوده الحداثة والتفتّح على العصر. ولكنّهم رغم هذا متمسّكون بالشّخصية التّونسيّة والحضارة الاسلاميّة وإن كانت مواقفهم متفاوتة في هذا الباب. وكان لقرار إصدار نسخة عربية للجريدة سنة 1909 أثره في الرأي العام التونسي. واضطلع بهذه المسؤولية عبد العزيز الثعالبي المعروف بمقاومته للمحافظين من مشايخ الزّيتونة وبآرائه الاصلاحية فيما يتعلّق بالدين الاسلامي، وهو ما كان سببا في دخوله السّجن في أولى خطواته النّضالية. وكان الصّادق الزّمرلي أبرز من تولّى ترجمة المقالات المنشورة في النّسخة الفرنسية بصياغة أخيرة لعبد العزيز الثعالبي الذي كان لا يحسن الفرنسية.ورغم اعتدال جماعة الشّباب التّونسي في مواقفهم وكتاباتهم فانّ سلط الحماية لم تر فائدة في تعيين عدد منهم في الجمعية الشّورية (La conférence consultative) التي كانت تتضمّن 39 فرنسيا بإضافة ستّة عشر تونسيا أغلبهم أميّون لا ثقافة لهم إلاّ المحامي اليهودي فيتوسى وعبد الجليل الزّاوش الذي انتقد لقبوله التّعيين وأغضب لذلك علي باش حانبه. وشنّت الصّحافة الاستعمارية حملة شعواء على الحركة بأجمعها.

ولم تدم تجربة الجمعيّة الشّورية سوى عامين نظرا إلى تصلّب الجانب الفرنسي. لكنّ الجماعة وجدت في المؤتمر المنعقد في باريس بالمدرسة الحرّة للعلوم السياسية من 6 إلى 8 أكتوبر 1908 مجالا لعرض مطالبها. وتمكن محمد بالخوجة وخير اللّه بن مصطفى ومحمد الأصرم والبشير صفر وعبد الجليل الزّاوش والصّادق الزّمرلي من إبداء آرائهم في عدّة ميادين تتعلّق بوضع التّونسيين في ظلّ نظام الحماية.

كان تألّق جماعة الشّباب التّونسي في هذا المؤتمر شديدا إذ مكنهم من تقديم اقترحاتهم في موضوعات عدّة. وظهروا بمظهر الممثّلين الأكفّاء لكلّ التّونسيين مع تمسّكهم بحضارتهم وهويتهم. وأثار كلّ هذا حفخة المعمّرين الذين تصدّوا في المؤتمر لمقترحات هذه الجماعة سواء فيما يتعلّق بالتّعليم أو الجباية أو العدالة أو غيرها من المسائل الشّائكة. وكان الصراع كبيرا بعد هذا المؤتمر في الجمعيّة الشّورية رغم وجود عناصر موالية لسلطة الحماية غير منتمين إلى الحركة. واغتنم علي باش حانبه إضراب طلبة جامع الزيتونة سنة 1910 ليقرر تضامن الحركة معهم، وذلك في اجتماع شعبي انتظم ببطحاء الصّادقية يوم 13 ماي 1910 تناول فيه الكلمة عدد من زعماء الحركة الاصلاحيّة التّونسية ومنهم عبد الجليل الزّاوش والصّادق الزمرلي وعبد العزيز الثعالبي الذي تكلّم باسم باش حانبه. وبهذا دخلت الحركة مرحلة جديدة من النّضال الشّعبي. ولئن لم تكن ضالعة في أحداث الزّلاج يوم 7 نوفمبر 1911 التي أبانت لنظام الحماية أنّ شعلة المقاومة لم تنطفئ فإنّ المعمّرين حمّلوا زعماء الحركة هذا الغضب الشّعبي. فرفع دي كرنيار أشدّ المعمّرين كرها للجنس العربي قضيّة في الثّلب ضدّ عبد الجليل الزّاوش. ورغم حكم المحكمة بعدم سماع الدعوى فقد حكم على الزّاوش بدفع المصاريف القضائيّة وكأنّه في الواقع مدان. وتبيّن عند ذلك لزعماء الاصلاح أنّ طبيعة النظام الاستعماري لا يمكن لها أن تنصفهم. وفي 9 فيفري 1912 ساندت الحركة إضراب التونسيين عن ركوب الترمواي وكانت شركة إيطالية أخذت اللّزمة ولم توف العملة التونسيين حقوقهم في مطالبتهم بالزيادة في الأجور علاوة على العداء الذي كان يشعر به التونسيون ضد الايطاليّين نظرا إلى احتلال ليبيا. ورأت سلط الحماية في ذلك تحديا لها، رغم أنّ الأمر لا يعني الفرنسيّين، فقضت في 13 مارس 1912 بمقتضى أمر عليّ بنفي علي باش حانبه وقلاتي ونعمان والثعالبي خارج الايالة. وتمكّنوا من الرجوع إلى تونس بعد بضعة أشهر إلاّ باش حانبه الذي قرر مقاومة الاستعمار من الخارج. وهكذا أسدل الستار على هذه الحركة وخيّم على البلاد جو من الاضطهاد والقمع.

وخلاصة القول إنّ هذه النخبة "عرفت كيف توظّف مشاعر الضيم والرّفض الناشئة عن التناقضات التي ولّدها الاستعمار، وعن المظالم والعنصرية السافرة المتجسدة في كلّ مظاهر الحياة اليومية، وعن وجود أجانب متفوقين وهيمنة ثقافية غريبة عن معظم فئات المجتمع". ولم يذهب عمل هذه النخبة جزافا فما إن وضعت الحرب العالمية أوزارها حتى ألقى الرئيس الأمريكي ولسن خطابه الذي بعث الأمل في الشعوب المستعمرة إذ أعلن عن حقّها في تقرير مصيرها فأعادت النخبة التونسية القديمة والجديدة الكرّة لتدخل، ملتحمة بالشعب، في نضال لا هوادة فيه إلى حين القضاء علىالاستعمار