جغرافية البلاد التونسية

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث

الجغرافية الطبيعية

الجغرافية الطبيعية

تمتدّ البلاد التونسيّة على الجزء الشرقي من المغرب العربي وهو الطّرف الشمالي للقارّة الإفريقيّة. وتفصلها عن إفريقيا السّوداء الصحراء الكبرى التي تؤثّر بدرجة عالية في خصائصها المناخيّة والجغرافيّة الحيويّة والمائية، لا سيّما في الجهات الجنوبيّة والوسطى من البلاد. ويحيط البحر الأبيض المتوسّط بتونس شمالاً وشرقًا، مُخفّفًا من حدّة التأثير المناخيّ الصحراويّ، وذلك بالزيادة في كمّيات الأمطار السّنويّة ورطوبة الهواء وبالتّنقيص من التّفاوت الحراريّ. على أنّ الحواشي المتوسّطية تختلف هيئتها اختلافا شديدا من شمال البلاد إلى شرقها. أمّا في الشمال، فهي مكفّفة بسهول ساحليّة صغيرة (سهول نفزة وبنزرت وتونس وقرمبالية) تعلوها تلال وجبال قليلة الارتفاع (من 200 إلى 300 متر). ويعضّ البحر على هذه السهول مُخلّفا بحيرات (بنزرت) وبحيرات شاطئيّة (تونس، إشكل) وسباخاً (السيجومي)، ومحتلا ًّ أحيانا قعر المنخفضات. أمّا في الشرق، فتجسّد الحواشي السّاحليّة امتدادا للسّهول الشاسعة في السّباسب السفلى بالوسط وفي الجفّارة بالجنوب. وتنبسط السواحل سويّا، تعلوها في الشّمال تلال قليلة الارتفاع (تلال ساحل سوسة) وتنتشر بها سباخ عدّة. ويختلف مناخ الحواشي الساحليّة اختلافا شديدا أيضا من الشمال إلى الشرق. ففي الشمال تتعرّض هذه الحواشي لرياح الشمال الغربي المُمطرة، فهي رطبة ومخضرّة (يبلغ المعدّل السنوي لتساقط الأمطار 2,949 مم بطبرقة و626 مم ببنزرت و461 مم بتونس). أمّا الجبال المتاخمة والمستصلحة بكثرة فإنهّا مكسوّة بالأشجار أحيانا، وفي القليل النادر بغابات أعيد تشجيرها في الغالب. وفي الشّرق، تُسجّل بالعكس تساقطات سنويّة ضعيفة، تنخفض كمّياتها انخفاضا ملحوظا من الشّمال إلى الجنوب. ولمّا كانت السهول الساحليّة بمعزل عن رياح الشمال الغربّي الرطبة، فإنّ مناخها سباسبيّ في الوسط (يبلغ معدّل الأمطار السنوّي 2,333 مم بسوسة و1,234 بصفاقس) وصحراويّ في الجنوب (9,211 مم بقابس و9,238 بجرجيس) حيث تمتدّ في كلّ مكان سباسب الشّيح الأبيض والشيح الحقليّ والحلفاء.

المناطق الجغرافيّة

يمكن تبيّن ثلاث مناطق جغرافية كبرى خلف الحواشي السّاحلية. في الشمال منطقة التلّ التي تحدّها من جهتها الجنوبيّة الظهريّة التونسيّة. إنّها جهة جبليّة أساسًا، وهي الطرف الشرقيّ للأطلس الصحراوي الجزائري. وتتّجه الجبال فيها عمومًا من الجنوب الغربيّ إلى الشمال الشرقيّ ولا ترتفع كثيرا، إذ لا تتجاوز إلاّ نادرًا 1000 متر. وغالبًا ما تتجلّى وُعورة التضاريس بجروف صخريّة كلسيّة أو حثيّة الأصل، مقدودة في طبقات الجوارسيّ (جبل زغوان 1298م) أو الطباشيريّ (جبل صمامة 1314م) أو الأيوسيني (جبل كسرى 1174م). وتُشرف هذه السفوح المتحدّرة في أغلب الأحيان على سهول محفورة في الصخور الليّنة للمحدّبات المنحوتة أو في طمْي الحياض الانهيارية (سهول مجردة العليا أو الوسطى، سهل سليانة، قعفور، الخ...). ولئن كانت التضاريس التلّية في جملتها جبليّة، فإنها تتخلّلها سهول تكوّن مناطق فلاحيّة رائقة مثل سهول جندوبة وغار الدماء وبوسالم وباجة، الخ... لكنّها خاضعة لتعرية شديدة يساعد عليها انتشار الصخور الليّنة بكثرة واقتلاع الغابات واستثمار فلاحيّ غير منطقيّ.

إنّ منطقة التلّ هي أكثر جهات البلاد رطوبة. وتُسجّل أكثر كمّيات الأمطار في جهة خمير الجبليّة (يبلغ المعدّل السنوي بعين دراهم 9,1482مم) وينخفض معدّل هذه الكمّيات علي نحو ملحوظ من الشمال الغربيّ إلى الجنوب الشّرقيّ، فلا تتلقّى نابل إلاّ معدّل 369 مم سنوياًّ. وتوجد في جبال الشمال الغربي الرطبة (وخاصّة جبال خمير) أجمل غابات البلاد، وهي غابات البلّوط والفلّين (مع تَفرات غزيرة) والكشريد والعرعر، الخ... وتخترقها روافد الضفّة اليسرى لنهر مجردة بمياهها القليلة الملوحة (أقلّ من 1غ في اللّتر) : واد الليل، واد الكسّاب، واد بوهرثمة، وقد أقيمت السدود عليها جميعا. وتمتدّ جنوبيّ سهول مجردة العليا والوسطى مجموعة ثانية من الجبال أقلّ رطوبة من سابقاتها وأكثر استصلاحًا ونحتًا وهي جهة التّل الأعلى.

وتنخفض كمّية المطار السّنويّة من الشمال الغربي (معدّل الكاف 533مم سنويًّا) إلى الجنوب الشرقي (7,451 مم بسليانة). أمّا الغابة التي تبقّت فيها مناطق معزولة من البلّوط وصنوبر حلب والعفصيّة - وهي هضبة كسرى قرب مكثر - فقد عوّضها في كلّ مكان تقريبًا أشب متدهور جدّا من جرّاء الرّعي المفرط واقتلاع الأشجار. وتتخلّل الجبالَ سهول عدّة هي سهول سليانة وقعفور والسرس. وتخترقها وديان كثيرة. ومن التلّ الأعلى تنبثق أهمّ روافد الضفّة اليمنى لنهر مجردة وهي واد ملاّق، واد تاسة المحمّلة بأملاح أكثر مّما في روافد الضفّة اليسرى إذ تتجاوز 2غ في اللتر بسبب وجود الجبس الترياسي بكثرة. ومن شأن هذه الأملاح المذابة أن تزيد في نسبة الملوحة لنهر مجردة ذاته، الذي ينبع من الجزائر ويخترق سهول غار الدماء وجندوبة وبوسالم وباجة وتونس. ويبلغ متوسّط منسوبه في مجاز الباب 29 م3/ث، وهو منسوب لا يتوقّف إلاّ على تغييرات كمّية الأمطار السنويّة والموسميّة، فيرتفع في الشتاء (7,91م 3/ث في فيفري) وبالأخصّ من جراء فيضانات عارمة عنيفة أحيانًا وينخفض انخفاضًا ملحوظًا في الصّيف (2,3 م3/ث).

أمّا الظهريّة فهي الحدّ الجنوبي للتلّ وبها جبل الشعانبي، أعلى قمّة في تونس (1544م) شماليّ القصرين. وتتكوّن من سلسلة من الكتل الجبليّة (جبل طيواشة، جبل بربرو، جبل السرج (1357م)، الخ... مُتجهة من الجنوب الغربيّ إلى الشمال الشرقيّ ومُشرفةً بسفوحها الوعرة غالبا على السباسب العليا والسفلى بالوسط التونسي. وتتكوّن السباسب العليا من سهول وهضاب تتخلّلها أودية عدّة وسلاسل جبليّة صغيرة مقطّعة (جبل مغيلة). المناخ هنا قاسٍ، حيث سُجّل أعلى مدى حراريّ في تالة (الفوارق المطلقة تبلغ 30 درجة) وفي كامل هذه المنطقة تقريبا يقلّ معدّل الأمطار عن 300 مم (سيدي بوزيد 4,273مم). وتسود في هذه السهول والهضاب الحلفاء والشيح والسدر، وغيرها... وتتعلّق بالسفح الشماليّ للظهريّة بعض غابات البلّوط وصنوبر حلب. أمّا مجاري الأودية (واد تكّة) فهي في أغلب الأحيان بلا ماء، ولا تُخفّض إلاّ عند الفيضانات التي تضيع مياهها في عدة سباخ من السباسب السفلى. وتُعدّ السباسب السّفلى امتدادًا نحو الشرق للسباسب العليا. أمّا السهول والتلال مثل ساحل سوسة فيحدّها شاطئ البحر شرقًا. وتحتلّ السباخ كبحيرة الكلبيّة، سبخة سيدي الهاني، وغيرهما... مساحات شاسعة وتتلقّى مياه فيضانات واد زرود ومرق الليل... التي تخترق مجاريها جهة القيروان. والمناخ هنا أقلّ قساوة منه في الغرب، لكنّ الأمطار ليست أغزر بكثير ففي القيروان يبلغ معدّل الأمطار سنويًّا 6,302مم.

وفي السباسب العليا والسفلى يُعوّض نقص الأمطار بوفرة المياه الجوفيّة التي تمكّن من ريّ مساحات شاسعة من الأراضي منها خاصّة سهول القصرين والقيروان وسبيبة وحاجب العيون، وغيرهما... وفي المنطقة شبه الصحراوية من البلاد التونسية، تتجلّى جنوبيّ السباسب السفلى مشاهد طبيعيّة كثيرة التنوّع: ففي الغرب تمتدّ جهة الشطوط خاصّة شطّ الجريد، وشطّ الفجاج نحو الجنوب بمجموعة كبرى من الكثبان تُسمّى العرق الشرقيّ الكبير. وفي الجنوب تمتدّ هضبة الظاهر التي تشرف بجرف وعر هو جبل مطماطة على سهل الجفّارة الشاسع الذي يحدّه شرقًا خليج قابس حيث تبرز جزيرة جربة. ومن جرّاء الممطاريّة السنويّة الضعيفة جدّا - ففي توزر مثلا يبلغ المعدّل السنويّ 4,100مم وفي قفصة 7,173مم وفي قابس 9,211مم - تنعدم النباتات الغابيّة والفلاحيّة المطريّة. إنّه عالم الواحات بتوزر ونفطة وقفصة وقابس وغيرها تلك التي يتوقّف وجودها على المياه الجوفيّة الغزيرة. وتتقوّر المنطقة الجنوبية الشرقية من البلاد التونسية في خليج قابس فتستفيد من وجود البحر الأبيض المتوسّط الذي يعدّل قيظ الصيف فترتفع درجة بخار الماء في الهواء وتغدو زراعة الأشجار دون ريّ ممكنة مثل زياتين جهة جرجيس. ولكن في الغرب يقسو المناخ بجهة الشطوط ويرتفع المدى الحراريّ ارتفاعا كبيرا ويصبح الهواء شديد الجفاف، فتُسقى جميع الزراعات وتسود النّخليّات وخاصّة النخيل الذي لا يسقى إلاّ بالمياه الجوفية العميقة.

التعمير

إنّ تعمير تونس ناتج عن واردات عرقيّة مختلفة جدّا، متوسّطيّة المصدر خاصّة. أمّا الأصل العرقيّ، فهو بربريّ أساسًا ثمّ أضيفت إليه في العصور القديمة عناصر أتت تارة من البحر الأبيض المتوسط الشرقيّ كالفينيقيّن وطورًا من البحر الأبيض المتوسط الغربي: كالرومان من شبه الجزيرة الايطاليّة ومن الجزر ومن الجزائر وهم الوندال الذين لم يخلّفوا إلاّ آثارًا قليلة. وفي الواقع، كان عدد هذه العناصر الدخيلة ضئيلاً بالقياس إلى العناصر ذات الأصل العربيّ.ولقد كان الفاتحون الأوائل الوافدون على تونس (647 - 700) قليلين نسبياًّ، وكانوا جنوداً وصنّاعًا وتجّارًا استقرّوا أساسًا بمدينة القيروان التي أسّسها عقبة بن نافع. لكنّ الزحف الهلالي في القرن الحادي عشر هو الذي غيّر واقع تونس العرقيّ، إذ انتشرت في كامل البلاد قبائل برمّتها من البدو القادمين من المشرق ومن الجزيرة العربيّة، فأسهموا في تعريبها تعريبًا شبه كامل. وفيما بعد، اقتضت بعض التقلّبات التاريخيّة قدوم مجموعات متفاوتة الأهميّة من المهاجرين الوافدين من البلدان المجاورة : من الجزائر خاصّة بعد احتلالها من قبل الفرنسيّين سنة 1830 ومن ليبيا والمغرب وكذلك من بلدان أبعد، منذ انتصاب الأتراك - العثمانيين في القرن السادس عشر والسابع عشر ومنذ مغادرة المسلمين للأندلس في القرنين السادس عشر والسابع عشر. وقد زاد استقرارهم بالبلاد في ترسيخ الطابع العربيّ الاسلامي بها. ولم تبق اللغة البربرية إلاّ في بعض المناطق المعزولة مثل جبل مطماطة وجنوبيّ جربة. لكنّ مجموع السكّان في هذه المناطق يتكلّمون العربية والبربريّة.

التّعمير الرّيفيّ

كانت الأغلبيّة الساحقة من السكّان التونسيّين الذين تفوق نسبتهم 80% تعيش في الأرياف. وكانت تعيش أساسًا بفضل الفلاحة وتربية الماشية. وكانت هذه التربية تؤدّي دورًا رئيسا في اقتصاد الأرياف، خاصّة في جهات الوسط والجنوب، ومن جرّاء الجفاف كان دورها أهمّ بكثير من دور الفلاحة. وكان السكّان في هذه الجهات يعيشون على مقتضى النظام القبليّ القائم على العروش وكانوا شبه رُحّل، يسكنون الخيام في الغالب. أمّا في جهات التلّ الأكثر رطوبة، فقد كانت تربية الماشية تستمدّ أهمّيتها من انتشار البور. ولئن كانت للسكّان مساكن ثابتة فإنّ القطعان كانت تتنقّل بحراسة الرّعاة عبر مراع كانت تحتلّ المجال الأوفر من الفضاء.فقد أدّى تطوّر وسائل استثمار الأرض، نتيجة للاستعمار الفرنسي وانتشار الآليّة الفلاحيّة والازدهار الديمغرافي وسياسة التثبيت في الأرض التي سنّتها السلط الاستعمارية ثمّ واصلتها السلط العموميّة في تونس المستقلّة، إلى استقرار المربّين داخل الفضاء التونسيّ بأكمله تقريبًا. وتجلّى هذا الاستقرار في التخلّي عن الخيام في كلّ الجهات واتّخاذ أكواخ من طوب، ثمّ في الفترة الحديثة في بناء منازل بموادّ صلبة.

لكنّ أبرز مظهر من مظاهر تعمير الأرياف الذي تلا هذا الاستقرار - وقد اقترن بعمليّة خوصصة الأراضي الزراعية - هو تشتّت السكن الريفيّ. فلقد تجلّى التثبيت في الأرض بجميع الجهات وخاصّة في وسط البلاد بتناثر عشرات الالاف من المجموعات السكّانيّة في الفضاء الريفيّ، حيث تتألّف كلّ مجموعة من "دوّار" به مساكن من طوب لاسيّما في مجردة العليا والوسطى وسهول التّل الأعلى أو من موادّ صلبة، على غير نظام واضح ودون وجود بنايات ذات صبغة جماعيّة، إلاّ فيما قلّ وندر. ويُعدّ التقليد القرويّ من خصائص الجهات الساحلية أو وادي مجردة الأسفل أو بعض المناطق الجبلية ذات التعمير البربريّ العربيّ كما في كسرى بالتلّ الأعلى وتوكابر والشوّاش في جهة مجاز الباب. ففي الجهات الساحلية الشماليّة ووادي مجردة الأسفل، لا شكّ في أن الهجرة الأندلسيّة كانت الدافع الأصلي على إحداث عدد من القرى أصبحت اليوم مُدنًا حقيقيّة، في ساحل بنزرت مثل ماتلين ورفراف ورأس الجبل وعوسجة. وفي الوطن القبليّ مثل سليمان وفي وادي مجردة الأسفل مثل تستور والسلوقيّة وقلعة الأندلس.

وفي ما يخصّ تعمير ساحل سوسة فإنّ بنيته القرويّة هي إحدى الخصائص الجغرافيّة الأساسيّة في هذه الجهة. ويبدو أنّها ارتبطت بتأثيرات قديمة، بونيّة الأصل فرومانيّة فبيزنطيّة ثمّ عربيّة، كما ارتبطت باقتصادات تأسّست منذ البداية على زراعة الزيتون والصناعة التقليديّة والتجارة. ومنذ الاستقلال، أدّى تنويع المناشط في الأرياف وتطوير المبادلات بين الجهات على أوسع نطاق كما أدّى الازدهار الديمغرافي إلى تجمّع أشدّ فأشدّ للسّكن الريفي في جميع الجهات، فأصبحت بعض الدساكر (الدشر) قرًى كبرى عبر كامل البلاد، في حين أصبحت بعض القرى المتفاوتة القدَم مُدنًا حقيقيّة.

التعمير الحضريّ

كانت تونس دومًا بلادًا تعجّ بالمدن، وذلك منذ العهدين البونيّ والرومانيّ. ففي أغلب الفضاءات، سواء في السباسب العليا أو السفلى، تنتشر آثار المدن القديمة: قرطاج، Hadrumete (سوسة (Thysdrus)،الجم (Ammedarae)، حيدرة (Suffetulae)، سبيطلة)، الخ... وفيما بعد أسّس العرب على أنقاض ما وجدوه مدنا جديدة في السباسب السفلى مثل القيروان والمهدية ومثل تونس في التلّ. وهو ما ساعد على الزيادة في تعمير المدن الموجودة من قبل وخاصّة منها المدن الساحليّة. أمّا مدن الساحل الشمالي مثل بنزرت وتونس... فقد تزايد تعميرها ونشاطها بتوافد المهاجرين الأندلسيّين عليها، وهو ما ساعد على ازدهارها وتنمية فضاءاتها المبنيّة. ولقد اضطلعت المدن التونسية مثل القيروان وتونس والمهديّة بدور مهمّ في انطلاق الحضارة الاسلاميّة وتطوّرها.

وتسارع نسق التحضّر منذ قيام الحماية الفرنسيّة بتونس سنة 1881. وكان يوجد في تونس سنة 1954 حوالي 250 ألف أوروبّي من الفرنسيّين والايطاليّين أساسًا منهم 146 ألفا في العاصمة وحدها، وكان 86% من هؤلاء الأوروبّيين يعيشون في المدن. ولم تلبث المدن العربية المنشإ أن أصبحت مزدوجةً بتجاور أحياء جديدة تختلف هيكلتها وهندستها المعماريّة تمامًا عن المدن العتيقة. وهو ما يتجسّد في أنهج متقاطعة وعمارات عدّة الطوابق مُقسّمة إلى شقق ومعالم عموميّة ضخمة ومنتزهات وحدائق صغرى داخل المدينة. وكان لا يسكن هذه الأحياء إلاّ الأوروبيّون تقريبًا، وكذلك اليهود الذين غادروا بأعداد وفيرة أحياءهم الخاصّة بهم وهي الحارات وأقاموا بالأحياء الجديدة التي كانوا يملكون أغلب أصولها التجاريّة. وبعد الاستقلال غادر البلاد التونسية الأوروبيّون ثمّ اليهود واحتلّت الأحياء الأوروبيّة شيئا فشيئا أغلبية من السكّان التونسيّين.

وغداة الاستقلال تسارع التحضّر بنسق مرتفع وحدث انفجار حضريّ حقيقيّ بدافع النموّ الديمغرافيّ وتزايد عدد النازحين من الأرياف وإحداث بلديات جديدة واتساع رقعة المساحات البلديّة. ويعيش اليوم في المدن أكثر من 61% من السكّان التونسيّين وقد كانت نسبهم 7,24% سنة 1936. وفي سنة 1980، بلغ معدّل النموّ السنوي للسكّان الحضريّين نسبة 5% وانخفض منذ ذلك التاريخ ليصل إلى حوالي 3%. وانتقل عدد التجمعات السكنيّة من 55 سنة 1931 إلى 193 سنة 1980. وتجلّى هذا الانفجار الحضريّ أيضًا في تكاثر المدن المتوسّطة والتزايد المطّرد لسكّان تونس العاصمة التي تضمّ حوالي 33% من مجموع السكّان الحضريّين، كما حصل تزايد كبير في عدد سكّان المدن الساحليّة مثل بنزرت ونابل وسوسة وصفاقس وقابس.

أضحى الانفجار الحضريّ يتناقض مع البطء النسبيّ للنموّ الديمغرافيّ، إذ لم يبق تزايد السكّان التونسيّين على وتيرة الفترات التي سبقت الاستقلال. فالنموّ الطبيعي - الذي بلغ سنة 1966 نسبة 2.6% - لم يعد يبلغ إلاّ نسبة 1.19% سنة 2008, ومردّ ذلك إلى تراجع مشهود في نسبة الولادات التي كانت تتجاوز 40% غداة الاستقلال والتي لا تكاد تبلغ اليوم نسبة 18% (17.7% سنة 2008). إنّ هذا التراجع في نسبة الولادات ناتج عن سياسة التخطيط العائليّ (الذي اتّسعت رقعته منذ السبعينات) وعن التحضّر وانتشار التعليم وتأثير الوسائط السمعيّة والبصريّة وناتج أيضا عن مشاركة المرأة مشاركة فعّالة في النشاط الاقتصادي الوطنيّ بجميع قطاعاته. وبسبب التراجع الملحوظ في نسبة الوفيات وكذلك تراجع نسبة وفيات الأطفال وذلك بفضل النموّ المشهود للبنى التحتيّة الاستشفائيّة والصحيّة في المدن والأرياف، حافظت تونس في الأثناء على حركيّة ديمغرافيّة مرموقة، إذ ارتفع عدد سكّانها الجمليّ من 4.524.000 نسمة في سنة 1966 إلى 10.323.000 نسمة في سنة 2008. لقد سمح تحسّن مختلف الثوابت الصحيّة والوقائيّة والغذائيّة والسكنيّة وغيرها بارتفاع في معدّل الأمل في الحياة سنة 2005 إلى 71 سنة بالنسبة إلى الرجال و 75 سنة بالنسبة إلى النساء (مقابل 60 سنة في 1960). وهكذا قاربت مختلف المؤشّرات الديمغرافيّة في تونس - وبصفة ملحوظة - مؤشّرات البلدان المتقدّمة، وذلك بفضل نموّ البلاد الاقتصاديّ والاجتماعيّ والثقافيّ عند الاستقلال. لكنّ التوزيع الجغرافيّ للسكّان مازال متفاوتا جدّا، كما كان في الماضي، بل ازداد التباين منذ الاستقلال، إذ يبلغ معدّل الكثافة بالنسبة إلى كامل البلاد 45 ساكنا في الكيلومتر المربّع (مقابل 28 ساكنا/كلم2 سنة 1966). غير أنّ تكاثف الفضاء التونسيّ لا يتعلق بكامل هذا الفضاء. في خريطة التوزيع الجغرافيّ للسكّان التونسيّين يتّضح التباين بين الأقاليم الساحليّة ذات الكثافة السكانيّة المرتفعة (يتجاوز معدّلها 90 ساكنا/كلم2، بل يبلغ 220 ساكن/كلم 2في ولاية المنستير و 400 ساكن/كلم 2 في ولاية تونس الشمالية و 120ساكن/كلم2 في ولاية سوسة) وبين الأقاليم الداخليّة الأقلّ كثافة سكّانيّة بكثير (من 30 إلى 60 ساكنا/كلم2).وأمّا الأقاليم الصحروايّة الواقعة جنوبيّ خطّ تعادل الأمطار (100 ملّيمتر سنويا) فإنّ كثافتها السكّانيّة ضعيفة جدّا لا تكاد تبلغ 10 سكّان/كلم2، باستثناء التجمّعات السّكنيّة في الواحات.

لقد كان النموّ الاقتصاديّ المشهود منذ الاستقلال في الأقاليم الساحليّة الشرقيّة (أقاليم تونس والوطن القبليّ والساحل وصفاقس) ومستوى أقلّ في الأقاليم الشماليّة (التلّ الشماليّ)، كان هذا النموّ دافعا لحركة هجرة قويّة انطلقت من الأقاليم الغربيّة الجنوبيّة غير المحظوظة على المستوى المناخيّ والاقتصاديّ في اتّجاه الأقاليم الساحليّة الأكثر تحضّرا شرقيّ البلاد، وفي اتّجاه شمالها الشرقيّ بالخصوص. إنّ التخفيف بشكل ملموس من حدّة الاختلال والتفاوت الاقتصاديّ والديمغرافيّ بين الأقاليم الداخليّة والأقاليم الساحليّة يمثّل أحد أهمّ التحدّيات التي يتعيّن على جميع القوى الحيّة في البلاد، الاقتصاديّة منها والسياسيّة، أن تتصدّى لها خلال العقود المقبلة.