تونس في العهد الروماني

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث

من المعلوم أن قرطاج أحرقها أعداؤها ودمروها، فأرضها التي أصبحت إقليما رومانيا قد مسحت وقسّمت إلى أسهم طول ضلع كلّ واحد منها 710م مكوّنا تربيعا مساحته خمسون هكتارا. إنّ قوّة الأثر الذي خلّفه التربيع الروماني على الأرض التي تحمل طابع التملّك العقاري من قبل الفاتحين جعلته يبقى ظاهرا بعد أكثر من عشرين قرنا من تعاقب الامتلاكات المختلفة. ورغم هذا لم يؤدّ النفوذ العظيم على البلاد إلى إقصاء الحضارة التي أقامتها قرطاج على أرضيّة إفريقية بحتة. وفي الواقع لا يعني اعتبار أحداث سنة 146ق.م. انقطاعا سياسيا واضحا عن الماضي بل هو امتداد للظاهرة الثقافيّة التي شهدت استمرارية واضحة. وحتّى التطوّر العمراني للامبراطوريّة المتقدمة (Haut empire) الذي يقدّم غالبا على أنه صنع روماني ذو لون خاص يتماشى في المستوى نفسه والاندماج والرومنة، فهو يظهر في آخر الأمر تطوّرا عاديا منبثقا من موروث بوني - نوميدي.

ولكن إذا رأينا أنّه من الواجب بعد الآن رفع القناع عن الإرث قبل الروماني الذي بقي طويلا مجهولا، يليق كذلك أن لا نحطّ من قيمة الاسهام الإيطالي الروماني. فعندما أعيد بناء قرطاج قرنا بعد تدميرها من الذين دمّروها أنفسهم، لتسترجع ازدهارها بسرعة، كان ذلك بفضل سيطرتها القديمة على البحر وعلى التجارة وبفضل ثراء تقاليدها الصناعيّة والزراعيّة التي بقيت حيّة في البلاد وكذلك بفضل العوامل الجديدة التي وضعها الرومان والتي ساعدت على التبادل في كنف هذه الإمبراطوريّة العظيمة ذات الموارد المتكاملة.

على كلّ حال تطوّرت المكاسب قبل الرومانية بفضل السلم والأمن وأشغال تنمية الأرياف والمدن. وبجانب شبكة الطرقات المدهشة مازالت تحمل أرض تونس بأكملها آثار هذه التنمية المذهلة من جسور وسدود وأشغال ريّ وقنوات وخزّانات للماء ومزارع ومعاصر. أمّا من جانب آخر فالتمدّن الشديد الذي بدأ مع القرطاجيّين والبربر قد اتّسع اتساعا لافتا مع الرومان. فكانت لتونس في أوج الامبراطوريّة ما لا يقلّ عن مائتي مدينة مزدانة بأجمل البناءات وموفّرة إطار عيش مترف وإمكانات مدهشة لرقيّ نخبة من المواطنين الرومان أو ممّن ترومنوا. هكذا تمكن الكثيرون منهم من الارتقاء إلى أعلى المسؤوليات مسهمين ب15% من شيوخ وفرسان وسلالة كاملة من قياصرة حكموا العالم الروماني قرابة نصف قرن. بفضل هذا النمو الفريد من نوعه تمكّن الإقليم من إظهار مقاومة أكبر أمام التفتّت والرجّات التي هزّت الامبراطوريّة في أواخر العصور القديمة.

ولقد تزامن الارتقاء الاجتماعي والسياسي للبلاد مع النمو الفكري والفني المدهشين. كان هناك فعلا ازدهار حقيقي بفضل وجود مفكرين ورجال قانون وشعراء حتى إنّ الإقليم كان يعتبر الأرض المعيلة للمحامين. فالقدّيس أوغسطينوس Saint Augustin وترتيليانوس Tertullien وأبوليوس Apulée هم نخبة من أشهر أسماء أدب إفريقي امتدّ إشعاعه إلى كامل العالم الروماني. إنّ التراث المعماري والفني لم يكن أقلّ قيمة. فمجموعة الفسيفساء كانت في غاية الثراء إلى حدّ أنّه قيل إنّ كلّ البلاد كانت مطليّة بها. يمكن مشاهدة هذه الفسيفساء إمّا في المتاحف أو خارجها في المواضع الأثريّة لمدن مشهورة كقرطاج و[[أوتيكا|أوتيك] ودقّة وتوبربو مايوس Thuburbo Majus وبولاّريجيا والجم وسلّقطة. في البداية كان الفسيفسائي يكتفي بطرق موضوعات كلاسيكيّة، ولكنّ بداية من نهاية القرن الثاني ميلادي نشهد ولادة مدارس وورشات محليّة يتعاطى فيها الفنّانون فنّهم الخلاّق بكلّ طلاقة.

فسيفساء في متحف باردو

هذا ما جعل التلاميذ يصبحون أساتذة حقيقيين فكان هذا عهد العصور الذهبية للفسيفساء الإفريقيّة. وأخذت النماذج المثاليّة والميثولوجية تعوّض شيئا فشيئا بمشاهد مستوحاة من الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة تقدّم في أسلوب خلاّب يعكس نوعا من الخيال المبدع. هذه الاتجاهات دامت قرابة قرن لتفسح المجال لتيار شعبي يتميّز من جهة بنزوعة إلى التجريد ومن جهة أخرى بالبحث عن الروحاني والرمزي والعقلاني. فمن هذا التيار الشعبي انبثقت في وسط القرن الرابع الفسيفساء المسيحيّة لافريقيا باتجاهيها: الأوّل نصبي وأرستقراطي أو على الأصح كلاسيكي والثّاني شعبي دون منازع. ففي هذا القرن الرابع أشعّ الفن الإفريقي للفسيفساء مرّة أخرى خارج الحدود. وقد ثبت الآن جليّا انتقال الموضوعات من إفريقيا إلى صقليةّ وإسبانيا وأن ّ التأثير الافريقي عرف في عدّة جهات من المتوسّط.

اتبعّ فنّ الخزف في تطوّره مسارا يشابه مسار الفسيفساء. والجدير بالتذكير أن ّ البلاد كانت دائما منتجة للخزف، وخاصّة في الفترة البونيّة، وعلى نطاق واسع. هذا الانتاج المكثّف كان يستعمل أساسا لتغطية الحاجات العاديّة في حين كانت المنتوجات الكماليّة تستورد غالبا. هذا وقد تعدّدت في القرنين الثاني وخاصّة الثالث الورشات لا لتلبية الطلب المحلّي بالمنتوج العادي والكمالي فقط بل لفرض هذا المنتوج الجيّد في كلّ الامبراطوريّة الرومانيّة من قناديل وأطباق مستديرة ومستطيلة وبلاطات وأوان ونصيبات.

في ميدان النّحت نشهد وجود فنّ روماني رسمي يغلب عليه الطابع السياسي ويخصّ أساسا الأوساط الحضريّة والبرجوازيّة، وذلك إمّا باسترداد الأعمال الفنيّة اليونانيّة الرومانيّة أو بمنتوج المبتكرين المستقرّين في البلاد. لكنّ حسب قول ج بيكار( G.Picard) كانت للنحاتين المحليين ابتداء من نصف القرن الثاني القدرة على التصدّي للمنافسة الأجنبيّة. هذا الفن الحضري لم يكن من وحي يوناني - روماني فحسب بل كان غالبا يستوحي من أصول شرقيّة. لكنّ الظاهرة التي تسترعي الاهتمام بوجه خاص تبقى النصر الباهر الذي حققه التيار الفني الشعبي الأصيل الذي تغذّى بالتراث ما قبل الروماني المتجذّر بعمق في البلاد.

ومن الشهادات الأكثر تمثيلا لهذا التيّار القوي ما توفّره آلاف النصب الجنائزيّة وخاصّة النذريّة منها وأشهرها نصب الغرفة. هناك عدّة قسمات تميّز هذه النصب عن التقنيات والنماذج الرومانيّة البحتة : كالبروز المنبسطة والجبهيّة وإرادة الاختزال وعدم مراعاة الأبعاد. والتأثير الروماني داخل هذا التيار كان ضعيفا جدّا ينحصر في بعض الجزئيات الخارجيّة الملازمة للزخرفة والثياب. إنّ إهمال الأشكال الخارجيّة وغياب التوازن بين الصورة والمشهد يعطيان شكلا غير موفّق لهذه اللوحات. هذا الأسلوب التمثيلي الساذج قد حكم عليه بعض العلماء بشدّة لكنّه استرعى انتباه الأغلبية منهم الذين وجدوا في هذا الفن نوعا من الواقعية المفرطة وفي الوقت نفسه حيويّة وطرافة وهو ما جعله لا يقلّ قوّة أو جمالا عن فن البرجوازيّة والطبقة الحاكمة.

إنّ بعض الظواهر الفنّية المهمّة تستحقّ أنّ يقف المتأمّل عندها، منها تأكيد حفظ التقاليد قبل الرومانيّة وحيويّتها وخاصّة الافاق المستقبلية الواسعة التي فتحت في إطار الامبراطويّة أمام الحيويّة الخلاّقة للبلاد. كلّ هذه العوامل أدّت إلى انقلابات مذهلة في التيّارات الخاصة بالميادين الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والفنيّة. فمن مورّدين أصبح الأفارقة مصدّرين ومن محكومين أصبحوا حكّاما ومن تلاميذ فرضوا أنفسهم في بعض الأحيان أّساتذة. لخّص بيكار هذه التحولات في مختصر رائع لمّا قال: هكذا أرجعت إفريقيا إلى روما بقدر ما استوفت فكانت قادرة على استغلال ما اقترضته في عقليّة لا تدين للاغريق ولا للشرق بشيء.

ببليوغرافيا

  • Aounallah S, "Castella et cvitates dans la Carthage romaine", L’Africa Romaine,Carthage15-18 décembre 1994, Sassari,1995,p1505-1512
  • Atlas des centuraition romaine de la tunisie ,Paris,1965 ,éd A .Caillemer et R.Chevalier,1956.
  • Atlas préhistorique de Tunisie,Rome,Ecole française de Rome, Institut national de patrimoine.
  • Belkhodja Kh,"L’Afrique byzantine :La fin du VI é et le début du VII é s",Revue de l’occident Muslman et de la méditerranée,1970,pp55-65
  • Beschaouch Ezzeddine,"Une nouvelle cité d’Afrique proconsulaire:Cuttilula" ,B .C.T.H ,nouv.Série,no25,1987-1989-1992
  • Beschaouch Ezzeddine,"De l’Africa latino –chrétienne à l’africa arabo-musulmane :Question de toponymie",C .R.A.l,juillet –octobre,Paris,1986,pp530-549
  • Diehel H, l’Afrique Byzantine,Histore de la domination byzantine en Afrique(533-709),Paris,1896
  • Ferjaoui A,"Urbanisation et urbanisme de l’Afrique romaine",A.N.R.W,II,10,2,1982,pp321-378 et planches
  • Foucher L,"César en Afrique:autour d'Aggar",C.T,no31,1960,pp11-18
  • Projet s d' enquête sur les ports de Byzacène au début duIIIème siècle,C.T,no45-46,Tunis,1964,pp39-44
  • Gascou J, La politique municipale de l’empire romain en Afrique proconsulaire de Trajan à septième Sévère,Rome,1972
  • Gaukler P,Enquête sur les installations hydrauliques romaines en Tunisie,Tome 2,tunis,1902
  • Lassere JM, Ubique Poplus,peuplement et mouvements de populaton dans l'Afrique Romaine de la chute de Carthage à la fin de la dynaste des sévères,Paris,1977
  • M'Charek A, De Zama à Kairouan:La Tusca et la Gamonia,frontières et limites géographiques de l’Afrique du nord antique,Hommage à Pierre Salama,études réunies par Claude Lepelly et Xavier Dupuis,Paris,1999,pp139-183
  • Civitas Fasvtianesis en Byzacène:un ancien domaine de Q.Anicius Fautus,historie des Hautes steppes:Antiquité-moyen âge,actes du colloque de Sbeïtla,session 2001,pp27-29
  • Kalaat Senane/Bulla Mensa:une forteresse-refuge de l'Antiquité aux temps modernes,Pallas,no56,2001,pp83-92
  • Identification d'une domaine impérial dans le secteur de Rohia-Bargou,Revue tunisienne d’administration publique,'Actes du colloque sur les fondements historico-juridique de la propriété foncière de l’Etat en Tunisie',Tunis19-20dec1994,no21,3e trm1996,pp15-27
  • Un itinéraire inédit dans la région de Mactar:tronçon de la voie augustéenne Carthage Ammaedar,B.C.T.H,1987-1989,pp153-167
  • Mahjoubi Ammar,Villes et structures urbaines de la province Romaine d’Afrique,Centre de publication universitaire,Tunis,2000
  • Pringle D, the defense of Byantine Afirca from Justinian to the Arab Conquest,Oxford,1981,2vol
  • Salama Abbas,les voies Romaines d’Afrique,Alger,1924
  • Saumagne Charles,la centruiation rurale de l’Afrique,C.T,no37-38-39-40,1962,pp207-212
  • Note sur plusieurs inscription de Carthage de Musti et de Kairouan,BCTH,1928-1929,pp363-371
  • Tissot Ch,Exploration scientifique de la Tunisie,Géographie comparée de la province romaine d’Afrique,1884-7,2tomes
  • Tissot M, Géographie comparée de la province romaine d’Afrique,Paris,1887
  • Toutain j,Les cités romaines de la Tunisie,Essai sur la colinisation romaine dans l' Afrique de nord,E.Thorin,Paris,1895
  • Trousset P,"Thiges et civitas Tgensium,Afrique Dans L’Occident romain",Mélanges de l' Ecole Française de Rome,Palais Farnèse,1990,pp143-167