تستور

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث

أسس اللوبيون قديما في موقع تستور، على وادي مجردة وعلى بعد 77 كلم عن تونس العاصمة، قرية فلاحية سموها تيكيلا (Tichilla) فازدهرت في العهد الفينيقي باعتبارها محطة على طريق قرطاج تبسة، وقد انضم أهلها إلى حنبعل في حروبه ضد الرومان. وبانهزام يوغرطة أصبحت تيكيلا مدينة رومانية فنمت فلاحتها واتسع عمرانها بانتشار القرى والقلاع والضياع والجسور حولها مثل كوريفا (Coreva) وعين طنقة (Tignica). وفي عهد الإمبراطور بروبوس (Probus) أول ق 2م ارتقت إلى مصافّ البلديات قبل أن يُخرّبها الوندال وتستمرّ الحروب بين البيزنطيين والبربر حتى الانتشار الاسلامي فلم تحظ إلاّ بانتعاش نسبي في العهود الأغلبي والفاطمي والصنهاجي. ولم تحيا حقا إلا بفضل الأندلسيين المهاجرين سنة 1609م إثر مغادرتهم لمستقرّهم الوقتي القريب: خروفة.

ولم يبق من الفترة القديمة غير ما ذكره قيران (Guérin) عند زيارته لها سنة 1860م إذ قال: "... أما السور الذي كان يحيط بها في زمن مضى فقد اندثر، ولكن من الممكن مع ذلك تتبع آثاره. ويخترق تستور شارع طويل ينتهي ببابين أحدهما بني من جديد واستعملت في بنائه بعض الأحجار الأثرية. وفي عهد الرومان كان هناك جسر يربط ضفّتي مجردة لا تزال آثاره باقية وخاصة قواعد أعمدته". وقد نقل بايسونال (J.A.Peyssonnel) وقيران ما وجدا من نقائش.

موطن أندلسي

تشير أدلة كثيرة إلى أن الموريسكيين الذين قدموا إلى تونس وتستور بالخصوص جاؤوا من الأندلس. وهو ما نستنتجه من أدب الرحلات كرحلة توماس داركوس (Thomas d'Arcos) الذي زار تستور عام 1631م وكذلك من الأشكال المعمارية في الجامع الكبير وجامع سيدي عبد اللطيف وتزويق المحراب بالاجر البارز، وكلّ هذه الأشكال تذكّر بطليطلة وسرقوسة وتدلّ على عمق تأثير الأراغونيين في الجامع الذي بني سنة 1630م ولا غرابة فبانيه - واسمه محمد تاغارينو - ينسب إلى حي التغرين بتستور أي الثغريين سكان الحدود بين الأندلس المسلمة وشمال إسبانيا المسيحي. ومن الثغرّيين من جلب معه قصيدة مخطوطة بالاسبانية نظمها في أراغون سنة 1603م محمد ربضان دي رويده، وضمن مخطوطات الجامع الكبير نسخة من صحيح البخاري كتبها أحد أحفاد الثغريين من بلنسية هو محمد بن محمد بلنسين (valencia=valence) الطّغري (tagarino=tagarin). ومن أقوى الأدلة الناثر والشاعر الإسباني خوان بيريث (Juan Perez) واسمه العربي إبراهيم التيبلي الذي ولد في طليطلة حوالي سنة 1580م وكان يعيش في تستور عام 1637م. إنّ أسماء العائلات الأندلسية الموجودة بتستور أو المندثرة تحيلنا على موطن الأندلسيين الأصلي وما تعرّضوا إليه فيه من محاولة التنصير رغم ثورة البشرات خلال 1569 - 1571م، من ذلك ألقاب أليكانتي (Alicante) وتاغارينو أو الطغري وبلنسين.

لغة المهاجرين

يشير جورج مارسي(Georges Marçais) إلى أن أولئك اللاجئين لم يكونوا يتكلمون غير اللهجات القشتالية والبلنسية والكتالونية، وخير دليل على ذلك قصيدة التيبلي التي تحتوي على 4608 أبيات بالإسبانية مع بعض التعاليق بالعربية في الدفاع عن الإسلام والردّ على النصارى. وتواصل استعمال الإسبانية مدة لا تقل عن قرن، يؤكد ذلك قول القس الإسباني فرانسيسكو خيماناث (Francisco Ximenez) الذي أقام بتونس من سنة 1720م إلى سنة 1735م وزار تستور: "إنه قضى مع عدة أشخاص هناك سهرات يتسامرون فيها باللغة الإسبانية ويتجادلون في أشياء اعتاد الحديث عنها في بلاده حتى إنّه شعر وكأنه موجود في قريته بإسبانيا..."، ويذكر الأب فيشرا (Vicherat) قصة شيخ يهودي قد كان يغني أغنيات شعبية إسبانية لاطراب الجنود الإسبان ضمن محلة باي تونس المعسكرة قرب تستور سنة 1746م ربما بدافع الحنين إلى أرض الأجداد، على أنه لم يبق من الإسبانية اليوم إلا بعض أسماء الأشياء والأمكنة وعبارة "يسبّ ويقشتل" المشيرة إلى القشتالية.

إنّ المهاجرين بحكم حملة التنصير (قشتالة سنة 1502م وأراغون سنة 1525م) وتتبّعات محاكم التفتيش فقدوا لغتهم العربية شيئا فشيئا. فقد ذكر المنتصر القفصي في كتابه "نور الأرماش في مناقب سيدي أبي الغيث القشاش" أن مشايخ الأندلسيين عرضوا عليه مكتوبا بالعربية من الشيخ حاميهم لقراءتها عليهم، لهذا أصبح استعمال لهجة الألخميادو متنفسا للثقافة العربية الاسلامية وأداة للدفاع عن العقيدة المحمدية في محيط أندلسي تلاشت فيه العربية وعمت فيه الإسبانية فضلا عن كون قداسة الحرف الحامل للغة القرآن لم يعد له مبرر في المنفى، ولذلك ترك الموريسكيون استعمال الحروف العربية في إنتاجهم الثقافي وكتبوا بالإسبانية صراحة إلى أن أقبلوا من جديد على تعلم العربية لغة ورسما.

تأسيس تستور

لئن ذكرت المراجع التاريخية أن المهاجرين قد أسسوا تستور إبان وصولهم إلى وطنهم الجديد حتى أصبحت من "أعظم بلدانهم وأحضرها" بشهادة المؤرخ ابن أبي دينار بعد أن كانت آثارا مهجورة فإن الرواية الشفوية المتداولة في تستور تشير إلى أن الأندلسيين الذين وفدوا ضمن الجالية الأولى قد استقروا أوّلا بخروفة، لكن وفرة إنتاجهم بحكم خصوبة الأرض وحسن استغلالها جعلت الباي يضاعف المجبى فاستمهلوا رسوله شهرا اقتلعوا فيه مغروساتهم وانتقلوا إلى مكان تستور تاركين تحت قصعة الجامع حمامتين إحداهما منتفة ومعهما ورقة كتب عليها:

"المتنقلة على شبوب أيامها

يلحقها المنى وتعيش

واللي قعدت على رسوم ديارها

لالها بالصحة ولالها بالريش.

ولئن كنّا نستبعد أن تكون هذه الرواية قديمة لعلمنا بجهل الأندلسيين الأولين بالعربية فإن المصادر التاريخية تؤيد مضمون الرواية لا لغتها أو تفاصيلها ولا تذكر خروفة وإنما تشير فقط إلى خلاف نشأ حوالي سنة 1613م بين أندلسيي تونس وشيخهم من جهة وبين الداي والباشا من جهة أخرى وذلك عندما تراجع يوسف داي في الامتيازات التي منحها عثمان داي للأندلسيين تشجيعا لهم على الاستقرار والإنتاج. وعلى كلّ فمغزى هذه الرواية أنّ الأندلسيين فقدوا الثقة في السلطة وفضلوا حريتهم على الثروة. وإذا كنّا لا نعرف أصل تسمية المكان الجديد بتستور فإن بعض المخطوطات أثبتت الاسم على هذه الصّورة: تاستور، وذلك من منتصف ق 17 إلى أوائل ق 19م، ويرجح أنه تحريف لتسمية إسبانية: تاساتور(Taçator) حسب التيبلي سنة 1628م أو تاساتور (Tassator) حسب داركوس سنة 1631م، وهي أقرب صيغة من معنى: الشهود، في الإسبانية في تفسير س.م. زبيس، ولقد عثرنا على قرية محصنة في الأطلس الأعلى المغربي تسمى: تازنتور.

الجامع الكبير بتستور

وفي تستور عمرت الجالية الأندلسية الأولى الحي المعروف اليوم بالرحيبة (تصغير رحبة بمعنى سوق) ثم التحقت بها الجالية الثانية بعد عشرين سنة قادمة من المغرب حيث لم تستطع الاستقرار فعمرت حي التغرين. وكان التطور العمراني حسب تخطيط مسبق إذ أسست الجالية الأولى الجامع الكبير في أعلى الربوة وحوله ديار صغيرة متشابهة منخفضة السطوح، في حين بنت الجالية الثانية وقد تأكدت نية الاستقرار بالجامع الأكبر المشهور مساجد أخرى تتخلل النسيج العمراني بحي التغرين، فاتسعت المباني وارتفعت متلاصقة حسب أنهج خالية من الأزقة مستقيمة متقاطعة في شكل شطرنجي وفق طابع أندلسي مميز لفن العمارة المدجنة الذي ترفع بمقتضاه السقوف على أعواد السرداوي وتغطى السطوح بالقرميد الأحمر المصنوع في أفران الفخار على وادي مجردة، وتحتوي فضلا عن المرابض الخلفية للدواب المعروفة بالكرّان (تحريف corral) على مخازن علوية للمؤونة ومقاصير للماعون وساحات جوفية ينفذ إليها من سقيفة، وتتوسطها أشجار النارنج وتحيط بها البيوت العربية المبنية بالتربة والجبس والآجر فيما يعرف بالطابية، والمزينة شبابيكها بأفنان الياسمين والفل والعطرشاء التي اعتاد الأندلسيون تقطيرها، على حين تزيّن دور الأثرياء بالجص المنقوش وتكسى جدرانها بالجليز وتفرش بالرخام وقد تتوسط الفناء نافورة.

وبهذا المظهر الطريف ما فتئت تستور تحظى باهتمام الباحثين وتثير إعجاب زوارها، فهذا الرحّالة بايسونال يصور منظرها العام سنة 1724م بقوله: "تستور قرية يسكنها الموريسك الأندلسيون، وهي منفتحة ومشيدة على طراز القرى الأوروبية، لمنازلها شبابيك تطل على زقاقها، وسقوف بيوتها مغطاة بالقرميد كما في منطقة بروفنس"، وهذا شاو (Shaw) يقول سنة 1727م: "تستور مدينة جميلة مزدهرة بإحكام، يسكنها عرب الأندلس". وقد انتبه ح. ح. عبد الوهاب سنة 1917 إلى تزيين الأبواب بالصليب المسماري على عادة الاسبان في تمييز منازلهم عن المسلمين. ولقد أعجب محمد المقداد الورتتاني بالساعة المعكوسة فقال سنة 1932 (رمل) :

"عج بتستور وذاك الجامع

رسمت ساعته أعلى المنار

أبدعت فيها يمين الصانع

سيرها يأتي يمينا لليسار"

مجتمع منغلق

حافظ الأندلسيون في تستور وفي مثيلاتها من القرى، باستثناء العاصمة، على نوع من الاستقلال الداخلي إزاء السلطة المركزية وعلى نوع من الاستعلاء تجاه السكان الاخرين، فلقد لاحظ خيماناث سنة 1724م الطابع الإسباني في تنظيم السلطة، فهناك القوبرنادور (Gobernador) أي الحاكم بالإسبانية والقوازيل (Alguazil) أي الوزير، كما لاحظ الورثيلاني وجود شيخ للبلد سنة 1768م. وتصوّر زاوية سيدي علي العريان المعروفة في تستور والمسجلة في شعر ابنها إبراهيم الرياحي (ت 1850م) علاقة أخرى مع السلطة المركزية. واستطاعت تستور المحافظة على الأسوار التي تحميها من كل غزو خارجي بفضل أوليائها الصالحين الذين يحيطون بها في حزامين، ولا تخفى أهمية الاعتقاد الديني لدى من تركوا أملاكهم وفروا بدينهم.

ثقافة متميزة

وبحكم انطواء تستور على نفسها سياسيا واجتماعيا فقد استطاعت المحافظة على تراث متميز بالتأثير الأندلسي الإسباني، لا في هندستها المعمارية الموفقة بين الوظيفة والجمال فحسب، بل في مختلف مظاهر حياتها. ومن أبرز ما يتباهى به أندلسيو تستور أنواع من الأطعمة والحلويات يتطلب إعدادها حذقا كبيرا وانفاقا كثيرا لا تقدر عليه إلاّ العائلات الميسورة، كالكيسالس (quisalech) والبناضج (empanadas) والمقرونة (macarona) والعجة (olla) وعين السنيورة (in assignora) (والتّسمية المتداولة في تونس هي عين السبنيورة) والإسفنج، إلى جانب أنواع أخرى مشتركة بين القرى الأندلسية كالطاجين والملبّس وكعك الورقة والمرقة الزعراء بالزعفران.

لقد كان أندلسيو تستور محافظين على تميزهم بارتدائهم الزي الاسباني الذي فرض عليهم في إسبانيا، وتوجد منه صور في مجموعة إيطالية، وكلما تدرجوا في الاندماج ارتدوا لباس أبناء البلاد. ولئن نهضت آثار المصنع على بقايا الجسر الروماني شاهدا على وجود صناعة الشاشية بتستور فإن تعدد صناع الجبة والقشابية والبرنس اليوم ينبئ بتواصل إنتاج هذه الملابس واستعمالها. على أنّ براعة الأندلسيين تتجلى في المفروشات الثمينة التي تنسجها الفتيات ويطرزنها إعدادا لجهازهن وتعرف بالمرقوم، وكذلك في ألبسة الحرير للمرأة والعروس خاصة، حيث يتفاعل الذوق الأندلسي المغربي والذوق التركي الشرقي في الشكل والزينة. وقد صادف وجود البلاد تحت تأثير رافدين حضاريين في فترة واحدة إذ تزامن مجيء الأندلسيين الأخيرين مع حكم العثمانيّين. ومن مظاهر هذا التثاقف دخول حرفة النسيج بشعر الماعز إلى تستور خدمة للفلاحة إلى هذا اليوم على الرغم من تراجعه الشديد وكذلك صناعة الفخار التي كاد يقضي عليها انتشار المواد المستوردة، ومثلهما صناعة النجارة وخاصة الناعورة التي عوّضتها المضخات. على أنّ بعض الأندلسيين ممن فضلوا خدمة الثقافة الاسلامية ونشر المذهب المالكي بين أحفاد المهاجرين احترفوا نسخ المخطوطات العربية بمجرد أن حذقوا اللغة، فدلوا بذلك على وجود فئة من متوسطي الثّقافة في مجتمع تستور الفلاحي أساسا، تلك الفئة التي عاشت في ظروف نفسية وفكرية ساعدت على استرجاع هويتها الأصلية المغمورة. ذلك أن الأندلسيين المهاجرين كانوا لا يعرفون من اللغة العربية ولا من مبادئ الاسلام إلا ما تعلموه سرّا سواء بالعربية شأن محمد بن عبد الرفيع وأحمد بن قاسم الحجري، أو غالبا بلغة ألخميادو (aljamiado) ولكنّهم كانوا يشعرون شعورا مرهفا بانتسابهم إلى الاسلام واللّغة العربية فأقبلوا بلهفة وحماس على تعلمها. ولئن أسهم إخوانهم المقيمين بالمدن الساحلية في تأسيس القواعد الحربية وصناعة المراكب وتدريب الناس على المدفعية وركوب البحر للقرصنة انتقاما من أعدائهم النصارى فإن أندلسيي تستور قد وجهوا خبراتهم إلى بناء المساجد تعميقا للشعور الديني لدى أبنائهم وتحريرا لمشاعرهم المكبوتة، متنافسين في تخريجها من ديارهم، معتزّين بتخليدهم أسمائهم عليها حسب ما احتفظت لنا به رواية شفوية طريفة حول مسجدي متينش وبوتريكو، حتى بلغت قبيل الحرب العالمية الثانية أربعة عشر مسجدا لم يبق منها الان إلاّ خمسة. وازدهر بتستور التصوف فانتشرت طرق العيساوية بدرجة أولى والرحمانية والقادرية والتيجانية في مقام ثان وتعددت الزوايا لتحفيظ القرآن وإنشاد الأوراد والمدائح حتى بلغت عشرين زاوية أروعها زاوية سيدي ناصر القرواشي المبنية سنة 1146هـ/1733م. وقد كان يؤمها طلبة منهم من يقيم بكفالة الأجوار والجمعية الخيرية، ويدرّس بها أو بديارهم بالتداول فقهاء أمثال علي الكوندي (ت 1119هـ/1708م) ومحمد البشير التواتي (ت 1311هـ/1894م) ويتخرج منها أعلام أمثال الشيخ محمد العنابي (و1095هـ/1684م) والشيخ إبراهيم الرياحي، ممن واصلوا الطلب في تونس وعادوا إلى التدريس بها وإمامة الجامع الكبير. ولعلّ بعض العادات قد ابتدعها الأندلسيون لتذكير أبنائهم باعتداء النصارى عليهم أثناء قيامهم بعبادتهم. من ذلك هجوم الفتيان قبيل صلاة العشاء ليلة القدر على الجامع الكبير حين يطرقون الأبواب ويعبثون إلى أن يطردهم المؤذن. ولئن ذكّرت "ليلة الدردك" هذه بمهرجان فيلا خويوزا الاسبانية الممثل لانتصار الأهالي على الغزاة رمزا لحروب الاسترجاع، فإنّ تقمص الأدوار ليلا يذكّر ببعض العروض المسرحية التي كانت تقدم بالإسبانية في تستور في القرن 17م، فلعلها كانت تمثل ظروف الاضطهاد وتنتقم من النصارى فنيا، وتحسس الأندلسيين المولودين في الوطن الجديد، الذي لم يسلموا فيه من الأذى مرة أخرى، بانتسابهم إلى ثقافة متميّزة وهوية مغايرة لهويّة أبناء البلد، ولهذا يظهرون في بعض الاحتفالات أصلهم الاسباني، من ذلك ما أشار إليه خيماناث سنة 1724م من استمرار الاحتفال بمصارعة الثيران في البطحاء. وقبيل ذلك بخمس سنوات سجل مورغن (Morgan) على المخطوط الذي اشتراه في تستور حفلات يغني فيها الرجال والنساء معا مصحوبين بالعزف على آلات العود والقيثارة كامل قصيدة محمد ربضان التي يحويها المخطوط بالاسبانية، وموضوعها تمجيد الاسلام، وهذا يذكّر بالشيخ الذي كان يغني للجنود الاسبان في منتصف القرن 18م. على أنّه بقدر تقدم أجيال المهاجرين الأندلسيين في تعلّم العربية والتشبع بالاسلام واندماجهم التدريجي في المجتمع التونسي ويأسهم من العودة إلى الأندلس عزف أندلسيو تستور عن الكوريدا والقيثارة وكل ما يذكّرهم بالاسبان بما في ذلك اللغة، وأتلفوا مفاتيح ديار أجدادهم في الأندلس التي احتفظوا بها عدّة سنوات، وعوّضوا تلك الاحتفالات بخير بديل مميز لثقافتهم الأصلية ومعبّر عن همومهم، هو تلك الموسيقى الأندلسية المعروفة بالمالوف التي أقبلوا على حفظها وتناقلها ببعض الأخطاء الدّالّة على ضعفهم في العربية. وقد نسجوا حولها الحكايات الغرامية لتشويق النّاشئة التي تتعلمها في الزوايا نفسها التي يتعلمون فيها المدائح الدينية وعلى أيدي شيوخ الطرق الصوفية والمالوف في الوقت نفسه، إذ يعتبرون أن الأوراد الصوفية ونوبات المالوف شيء واحد في لفظه وشكله، فظاهره لهو وباطنه ورع، ولا أدل على ذلك التداخل من المثل المعروف "المالوف الأندلسي في الجد والهلس" وإنّما يفرق المقام والمناسبة، ولا غرابة فزاوية أبي الغيث القشاش (ت1031هـ/1622م) مستقبل المهاجرين الأندلسيين أولى الزوايا التي كان ينشد فيها المالوف. إنّ حرص أندلسيي تستور على تميّزهم تجاوز المعمار والتقاليد والفنون ليتشخص في عقلية الاعتزاز بشرف الأصل والحذر في التعامل معها خاصة في الفترة الأولى من حضورهم.

فلاحة متقدّمة

ولا شكّ في أنّ أهمّ خاصّية يمتاز بها الأندلسيون هي التّغيير الكبير الذي أحدثوه في البيئة إذ أحاطوا قراهم بأحزمة خضراء بعد أن كانت مناطق مهملة بسبب الانحدار الديمغرافي وعدم الاستقرار اللذين تزامنا مع قدومهم نتيجة الأوبئة والحروب. ولأنّ جلّ الوافدين على تستور من الصنف المتكوّن من سكان الأرياف الاسبانية فقد جلبوا معهم أيضا أساليب فلاحية متقدمة بالنسبة إلى زمانهم. من ذلك تمهيد الطرقات وحفر القنوات وإقامة الجسور واستعمال الكريطة للنقل والطاحونة لرحي الحبوب وعصر الزيتون والناعورة لاستخراج مياه الابار وإقامة السدود على وادي مجردة لريّ الأجنّة في البرقين حيث غرسوا أنواعا جديدة من الأشجار والخضر والبقول للاستهلاك المحلي أساسا في نطاق انغلاقهم على أنفسهم وللاصطياف. ولم يفكروا في التصدير إلاّ في مرحلة ثانية. وقد لاحظ الورثيلاني في سنة 1768م أنّ تستور "ذات بساتين ومزارع كثيرة، وفواكهها قليلة الوجود". وذكر ديفونتان (Desfontaines) بعض شواغل أندلسيي تستور الفلاحية سنة 1783م قائلا: "وهم يمارسون زراعة الزعفران والتوت الأبيض الذي بواسطته يربون دود الحرير" ومضيفا بشاعرية نادرة أنهم يزرعون الخشخاش والمصطكا والحنّاء والرند والياسمين والبرتقال والرمان... إلخ. ولا غرو أن يبوح قيران سنة 1860م بإعجابه بحذقهم للفلاحة السقوية وتصريف المياه عبر السواقي إذ قال: "زرت الأجنّة الرئيسة، ومستوى الزراعة لا بأس به" وهو ما عبّر عنه بليفير (Playfair) سنة 1876م... ولا شك في أنّ وراء هذه المهارة خبراء يرجع إليهم بالنظر أو تنسب إليهم بعض التجارب، كما أنّ وفرة المحاصيل مجلبة لمطامع الباي التي ستتسبّب في تقلّص الانتاج.

تطوّر البنية الاجتماعية والاقتصادية

إنّ هذا الازدهار العمراني والاقتصادي لتستور يرجع إلى تضافر العناصر الاجتماعية المكوّنة لسكانها في نطاق انسجام تدريجي، وليس إلى الأندلسيين بمفردهم. إنّ كشوف سجلاّت المجبى تعطينا أسماء الجماعات الرئيسة الموجودة بتستور في القرن 19م ابتداء بتفريق علي باشا للوسلاتيين ومجيء وفد منهم إلى تستور في نهاية القرن 18م حتى أصبحوا يمثلون مع المانسيين 55% من مجموع السكان، تليهم جماعة الأندلسيّين بنسبة 15%، يليهم اليهود والحنفيون والزواويون. ويمثلون جميعا حوالي 2500 نسمة حسب تقدير بليسيي (E.Pélissier de Reynaud) سنة 1848م وقيران سنة 1860م وأرقام سجلات المجبى للسنة نفسها قبل أن ينقص العدد بسبب وباء سنة 1867م. وكان من الطبيعي أن يحدث تنافس وخلافات بين هذه الطوائف حول المسؤوليات الحساسة والمؤثرة في المجتمع كالإمامة بالجامع الكبير والقضاء الشرعي والمشيخة والقيادة والخلافة. وطبيعي أيضا أن تحاول كل عائلة وكل جماعة تقوية نفوذها السياسي والديني ثم الاقتصادي سواء بالاستناد إلى طريقة صوفية أو بالتحالف مع سلطة البايات المركزية أو مع انتفاضة علي بن غذاهم وثورة علي بن عمار، أو حتى بالتحالف مع السلطة الاستعمارية، أو بالانخراط في الحزب الجديد. وكان نتيجة لهذه الصراعات أن تبدّلت علاقة تستور بالخارج وتقلّصت عزلتها وتأثر نظامها الاقتصادي فتحوّل من اقتصاد عائلي يهتمّ فيه الرجل بالانتاج والمرأة بتصنيع الانتاج للاستهلاك إلى اقتصاد رأسمالي استعماري بعد الحرب العالمية الأولى أثّر في بناء تستور الاجتماعي الذي ظلّ ثابتا ما بين 1860م و1910م. ثم زال هذا الانقسام الداخلي وحلّ محلّه اتحاد لمواجهة الاحتلال في إطار الحركة الوطنية استفادت منه فئة من أصحاب السوق ومن البرجوازية الصغيرة حوّلت وزنها السياسي إلى قيمة اقتصادية عند توزيع أراضي المعمرين، ونسج أتباعها على منوالها.