تحديث الجيش النظامي التونسي

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث

تميزت العقود الأولى من القرن التاسع عشر في تونس بمحاولة البايات الحسينيين الاستغناء عن الهياكل العسكرية القديمة من جنود الانكشاريّة، وذلك بإيجاد بديل لها من فرق أخرى غير نظامية ذات طابع محلي.وتلمس بعضهم الطريق لاحلال التونسيين محلّ تلك الفرق المشاغبة وغير الناجعة. وتطوّر الأمر في عهد حسين باي (1824 - 1835) إلى حلّ فرقة الانكشاريّة دفعة واحدة سنة 1829 والشروع في تركيز جيش نظامي من أبناء البلاد حتى أن تسمية الجند النظامي في تونس تعود إليه أساسا، ولكن دون حسم ووضوح. واستمرّ الحال كذلك إلى عهد خلفه مصطفى باي (1835 - 1837) غير أن هذا الباي اصطدم بمعارضة سكّان العاصمة عندما حاول تجنيد أبنائهم، فعدل عن الفكرة وأوقف المحاولة نهائيا. لكن عهده لم يطل، وسرعان ما أعاد الكرّة ابنه وخليفته في الحكم المشير أحمد باي الذي بدأ معه التغيير الحقيقي بشكله النظامي التونسي لحما ودما وانتماء. وقد ترتّبت على هذا المولود الجديد نتائج ذات بال سلبية وإيجابيّة في المجالات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، جعلت لعهده أهميّة خاصة في تاريخ تونس الحديث.

ظروف إحداث الجيش النظامي

كانت الحامية العسكريّة العثمانية، منذ انضمام تونس إلى الحكم العثماني، القوة العسكريّة المكلّفة بحماية الولاية. وهي في الوقت نفسه الحلقة الرابطة بين الحكم في تونس والسلطان العثماني. يتوافد أفراد هذه الحامية على تونس باستمرار كلما دعت الضرورة لحفظ أمن الولاية العثمانيّة. وقد شعر عدد من بايات الأسرة الحسينيّة الحاكمة في تونس منذ أواخر القرن الثامن عشر بضرورة التقليل من الحامية وإدخال بعض التغيير على أفرادها بالاعتماد على عناصر محلية بفرق غير نظامية. لكن تلك المحاولات اتّسمت بالارتجال وباءت بالفشل ولم يبدأ التغيير الجذري الا في عهد أحمد باي في العقد الخامس من القرن التاسع عشر حين أخذ شكله الواضح الجاد. فما هي دوافع التغيير وظروفه؟ وما مراحله وإشكالياته؟ وصل أحمد باي إلى الحكم في فترة طرأت فيها على الأمبراطوريّة العثمانيّة تغييرات مهمّة في الميدان العسكري على يد السلطان محمود الثاني وكان لهذا صداه الواسع في تونس. وكان أحمد باي قد عاش تجربة عمه ثم والده المتعثّرة في انتداب الجنود التونسيين، وأحس مثلهما بالقلق من أفراد الحامية العاجزة عن القيام بواجبها، مستفيدا من التجربة السابقة في عمله.لكن أهمّ ما ميّز عمل أحمد باي هو قيامه بحركة إصلاحية عامّة، ووضوح توجّهاته في بناء دولة لها مؤسساتها المستقلّة عن التبعيّة التقليديّة للسلطان العثماني مبتدئا بتكوين قوة عسكريّة محلية يطمئن إليها تكون أساسا للدولة التي يودّ إبرازها على المستوى الدولي. وبالرغم من أن أحمد باي لم يكن من أفراد الجند، فإنّ توليته لقيادة الجيش في أواخر عهد أبيه جعلته يعيش ظروف الجنود عن قرب ويتعرف إلى مشكلاتهم ومطالبهم الملحّة. وهو أوحى إليه مبكّرا بالاصلاح وعزّز لديه فكرة التغيير، كما أن احتلال فرنسا للجزائر عام 1830 وإعادة احتلال العثمانيين لأيالة طرابلس سنة 1835, دفعاه إلى بعث جيش قوي. وفوق هذا لم يعوزه الطموح الشخصي في بناء قوّة عسكريّة متأثرا بالخصوص بتجربة محمد علي المهمّة بمصر في الميدان العسكري في تلك الفترة. وشجعت هذه الظروف أحمد باي للخروج من التردّد الذي وقع فيه والده بالخصوص، ونفّذ ما عجز عنه أسلافه، متصوّرا البديل عن الهياكل العسكريّة القديمة في إنشاء جيش نظامي، وبرز عمله في العناصر التالية:

  • انتداب الجنود من التونسيين
  • فصل الفرق العسكريّة بعضها عن بعض وتطوير التجهيزات
  • بعث التعليم العسكري

المرحلة الأولى من تكوين الجيش النظامي

انتداب الجنود من التونسيين

بدأ أحمد باي في إثبات أفراد الجند النظامي ابتداء من سنة 1838. وعرف الجيش الجديد بالنظامي ويقصد به ذلك الجيش المحترف الذي يعمل أفراده تحت السلاح ويقيمون بالثكنات ويتقاضون رواتب قارة، ويقومون بحراسة الأبراج والقشل، وتحت قيادة ضباط مباشرين وذلك خلافا للفرق غير النظامية التي لا تستدعى إلا عند الحاجة. وكان أحمد باي يرسل لانتداب الجنود النظاميين الضباط إلى المناطق الحضريّة خاصّة إلى مدن الساحل وقراه، فيثبتون من يرونه صالحا للجنديّة حتى الاكتفاء. وهذا الاكتفاء لم يكن ثابتا ولا معروفا من قبل باعتبار أن الجندية فرض كفاية. والجديد في الموضوع أن الجنود الجدد تونسيون من قرى ومدن تونسيّة لم يعرفوا هذا العمل من قبل وهو ما سيترتّب عليه ظهور مفهوم جديد للجنديّة، إلا أن ما يؤاخذ عليه أحمد باي أنه لم يتّخذ قاعدة ثابتة لانتداب الشباب ولم يحدّد مدّة العمل العسكري، فكانت العمليّة تتحقّق على نحو اعتباطي تبعا لمزاج الباي والضباط. فكانت هذه الطريقة إحدى العلل في فشل الاصلاح العسكري باعتبارها غير مستندة إلى قانون ولم تعدل بين المناطق السكانية لأنّها تتّجه إلى منطقة دون أخرى من البلاد. ومهما روعيت فيها العوامل الانسانيّة للأيتام والأرامل والشيوخ، كما كان متبعا في هذه الطريقة، فإنها ظلّت مصدر قلق وخوف وهو ما أدّى في النهاية إلى تراجع الباي نفسه عنها والتخفيف بعض الشيء في عمل الجنود الذين طالت مدة عملهم، واستبدّ بهم القلق حتّى ملّوا الجندية ولجؤوا إلى الهروب. وذلك باعتماد التعويض، وهو تعويض شخص بآخر مكانه ولكن الطريقة السابقة نفسها وهي تجنيد المعوّض من جهته. وقد ترتّب على عمل الباي هذا فقدان بعض المناطق لليد العاملة الفلاحية النشيطة خاصة وعدد سكان الايالة كان محدودا (أكثر بقليل من المليون ساكن) كما أن المناطق المختارة للتجنيد مناطق حضرية مستقرّة تعتمد على سواعد أبنائها في العمل الفلاحي بالدرجة الأولى.

فصل فرق الجيش الجديد عن بعضها وتطوير التجهيزات

يتكوّن كل جيش عادة من عدد من الفرق وكل فرقة تختصّ بسلاح معيّن، غير أنه في تونس حتّى ولاية أحمد باي كانت فرق الجيش التقليدي غير منفصلة بعضها عن بعض، ولم يوجد بها سلاح خاص بالخيالة. لذلك حرص أحمد باي في نطاق التنظيم العسكري لتسهيل الاعداد والتدريب وتوازن الفرق على تلافي هذا النقص بين الفرق الجديدة في إصلاحاته طبقا لنوع السلاح المعروف.

  • كوّن فرقة الخيالة من ألف فارس سنة 1839 ولم يكن هذا النوع موجودا قبل تولّيه الحكم وجعل إقامتهم في منوبة تحت إمرة ضابط برتبة أمير آلاي.
  • اهتمّ بسلاح المدفعية، وكان هذا النوع قبل ذلك مختلطا بالمشاة ليس له تمييز عن غيره ولا ضابط ولا قشلة. فكوّن منها فرقتين تقيمان بالعاصمة بعدد أربعة آلاف جندي ومنح الباي هذا السلاح عناية خاصة بحكم التطوّر الحاصل في سلاح المدفعية وازدياد أهميته في تلك الفترة.
  • قسم سلاح المشاة إلى 5 آليات موزّعة على الأماكن المهمّة في البلد وهي: تونس، سوسة، المنستير، القيروان، غار الملح. وكان يتولّى أمر آليات المشاة ضابط برتبة فريق. ثم تطوّرت إلى 7 فرق.

وفي نطاق التجهيزات بنى أحمد باي عدّة قشل للجيش الجديد مثل قشلة باردو وقشلة غار الملح وقشلة الطبجية.

  • أقام مصنعا للباس العسكري بطبربة بحكم تغييره للباس الجند على الشكل الفرنسي.
  • أقام مصنعا للجلد بقصر المحمدية لاستعمال الجيش.
  • أقام مصنعا للبارود بالقصبة وكذلك مصنعا لصب المدافع بالحفصية.
  • وفّر المخابز والمطاحن والمعاصر لتمويل الجند.

أمّا جنود البحرية وهم جزء من الجند النظامي فكانوا يقومون بحراسة السواحل التونسيّة في مراكب بحرية لم يستطع الباي أن يحدث فيه شيئا ذا بال نظرا إلى تكاليفه الباهظة ورغم اهتمامه بالمراكب والموانئ، ولم يتجاوز عدد المراكب 20 وعدد جنودها 600 أو 800 يقيمون بقشلة حلق الوادي.

بعث التعليم العسكري

إن أهمّ عمل قام به أحمد باي في مجال بناء الجيش النظامي التونسي، بعث نواة للتعليم العسكري، سمي مكتب الحرب، بهدف تخريج الضباط المتعلمين للجيش الجديد وذلك في مارس سنة 1840 وهذا المكتب تطوير لمدرسة عسكريّة أسّسها حسين باي عام 1831 ويعتبر هذا العمل أهم إنجازات أحمد باي في هذا الميدان، وتعود أهميته إلى كونه الجانب العلمي الذي لا بدّ منه لتعليم الجيش وتدريبه، وهو جديد على نمط الحياة العسكريّة في البلاد.وقد كتب لهذا الانجاز التأثير والدوام أكثر من غيره لفترة أطول نسبيا. وكانت هذه المدرسة أول نافذة للاتصال العلمي الحقيقي بين تونس وأوروبا.

وقد مرّت المدرسة بمرحلتين مختلفتين ومنفصلتين:

  • المرحلة الأولى: من سنة 1840 إلى 1854, وكانت تحت الادارة الايطالية ممثلة في شخص المستعرب الايطالي "كاليقاريس")(Calligaris).

المرحلة الثانية: من سنة 1855 إلى 1869, وكانت تحت الادارة الفرنسيّة وتولاها على التوالي ضابطان فرنسيان هما: الرائد كمبنون والعقيد دي تافارن. على أن المرحلة الأولى هي الأهم نظرا إلى اهتمام أحمد باي بها شخصيا لأنه كان حريصا على الهدف الذي أسست من أجله. ثمّ هي مرحلة الحماس والاندفاع في تكوين الجيش وإطاراته. وأكد أحمد باي حرصه على التعليم العسكري بإصداره منشورا للضباط والجنود على مختلف رتبهم يحثهم فيه على التعلم وأهميته. وأبرز في المنشور المكانة الممتازة التي يحتلّها الجنود في الدولة دينيا وعسكريا باعتبارهم حماة الدين والملك. وكان يزور التلاميذ ويشجّعهم مؤكدا أن لا جيش دون تعلم. ولذلك حدّد للمدرسة الأهداف التالية:

  • تنمية الشعور بالواجب العسكري
  • الحرص على اللياقة البدنية
  • تزويد التلاميذ بالثقافة العامة
  • تزويد التلاميذ بالمعلومات والفنون العسكرية الضرورية;
  • تنمية الكفاية القيادية وإعدادهم لتحمل المسؤوليات

إلا أن المدرسة أغلقت أبوابها لسوء الظروف المادية للدولة بعد 14 عاما من العمل المتواصل.

المرحلة الثانية من تكوين الجيش النظامي

إيجاد الأطر القانونية

دبّ الاهمال في عملية تكوين الجيش النظامي منذ أواخر عهد أحمد باي لعوامل متعددة لعلّ أهمها الوضع المالي للدولة وعدم اتّباع القوانين العسكرية. وازداد الاهمال بعد وفاته بسبب اختلاف موقف خلفه محمد باي من كثرة الجند. لذلك سرّح معظم الجنود، وكفّ يده عن السّخاء السابق في الانفاق والتجهيز كما كان يفعل سلفه. وقد تراجع الاهتمام حتى في مسألة التدريب والتعليم بعد إغلاق المدرسة لفترة قصيرة. لكن في المرحلة الثانية حدث تطوّر مهمّ تجسّد في إحداث الأطر القانونية التي جاء بها عهد الأمان سنة 1857, ودستور 1861 والقوانين الأخرى المختلفة. وقد أسهمت هذه القوانين في تنظيم الحياة العسكريّة وعملية انتداب الجنود وضبط التدريب والتجهيز. وهذا عمل له أهميته لأنه يدعم عمليّة بناء الجيش على أسس قانونية لو كتب لها الاستمرار والتطبيق الجيّد، ومن شأنه أيضا أن يحسّن ظروف العمل بالجندية باعتباره يضمن المساواة لكل السكان في الانتداب ويوضّح الحقوق والواجبات لكل ذي رتبة. وقد أتاح الفرصة لمشاركة مختلف الفئات السكانية التونسيّة وهو ما افتقر إليه العمل في عهد أحمد باي الذي تغافل عن اتباع القوانين العسكرية رغم وجودها في أوروبا والعمل بها في عاصمة الدولة العثمانية. وقد اشتملت القوانين الجديدة المنبثقة في عهد الأمان على كل ما يهم الجيش نذكر منها:

  • قانون وزارة الحرب.
  • قانون وزارة الطبجية
  • قانون خدمة العسكر في السفر
  • قانون القضاء العسكري
  • قانون المسرحين من الخدمة العسكرية
  • قانون الجرائم والعقوبات العسكريّة وتشير هذه القوانين إلى تحوّل مهمّ في الحياة العسكرية التي كانت تفتقر إلى أبسط قواعد التنظيم القانوني وتبرز التطوّر الحاصل في هذا المجال. وسنكتفي هنا بإلقاء نظرة على التجنيد لأهميته في تعزيز بناء الجيش النظامي باعتباره القاعدة التي ينطلق منها البناء العسكري.

قانون التجنيد أو القرعة

يعتبر هذا القانون أهمّ عمل جاء به عهد الأمان في موضوع انتداب الجنود الجدد. وقد صدر في ستّة أبواب وخاتمة سمي: "المصباح المفسّر في إثبات دخول العسكر"، ويقصد بالتجنيد كما تفسّره الموسوعة العسكريّة إلزام المواطن بالخدمة العسكريّة، غير أن الدولة بقيت حتى عند تطبيقه تعتبره فرض كفاية بالرغم من أن القانون يسمّيه واجبا وطنيا. وذلك لأنها لا تأخذ للجندية إلا من وقعت عليه القرعة من الشبان البالغين سنّ الثامنة عشرة حتّى الثلاثين سنة. وهذه الطريقة تتبع عادة عندما يكون عدد المطلوبين للجندية أكبر من العدد اللازم فعلا أو عندما لا يسمح الوضع الاقتصادي للبلاد باستيعاب كل من بلغ سن الجندية وهو ما كان ينطبق على تونس في تلك الفترة. والقرعة هنا تصيب فئة معيّنة من المواطنين القادرين. وقد اشتمل القانون على إعفاءات كثيرة لعدد من الشباب كطلبة جامع الزيتونة وأصحاب الخطط الشرعية والسياسية والعلمية والدينيّة وأبناء العلماء إلا من حاد عن طريق سلفه، وكذلك الذي لم يحفظ القرآن حتى سن الثامنة عشرة. وإضافة إلى هذا أوجد القانون فكرة العوض لمن وقعت عليه القرعة وهذا التعويض على نوعين: تعويض شخص بآخر، والعوض بالمال. وهو ما سماه القانون "خدمة الوطن بالبدن أو بالمال".وفي فترة لاحقة عدّل القانون ووحّد العوض المالي طبقا لأداء المواطن الجباية. وعيّنت في الوقت نفسه وجوه في صرف أموال التعويض، وأهمها صرفها على حاجات العسكر الذي تحت السلاح. لكن هذا العوض كانت له عيوب أهمها أنه أضرّ بالجنود الذين كانوا ينتظرون التسريح لأنه لا يوجد من يحلّ محلّهم ومن ثمّة عدم تجديد عناصر الجيش. وبهذا يمكن أن نقول إن القوانين الخاصة بالحياة العسكرية لم يتيسّر لها التطبيق إلا على نحو مقتضب ولمدة قصيرة، وتعرضت للاهمال ثم دخلت طيّ النسيان، وتبخّر الأمل الذي كان للمجنّدين زمنا. ولكن لا يمكن أن نقلّل من أهميّة التجربة في تطبيق القوانين العسكريّة وخاصة قانون القرعة الذي سوّى بين أغلب الفئات الاجتماعيّة وأوجد الشعور بالواجب الوطني على المدى البعيد.

نتائج إحداث الجيش النظامي

ترتّبت على تكوين الجيش النظامي عدّة نتائج على أصعدة كثيرة، غير أن ما يهمّنا هنا ما كان له تأثير مباشر في الحياة العسكريّة وما ارتبط بها. فبالرغم من توقّف الاصلاحات العسكريّة أو فشلها بعد فترة طويلة وما احتوت عليه من سلبيّات كثيرة عند التنفيذ لأسباب داخليّة وخارجية كالتكاليف المرهقة للميزانيّة أكثر من اللازم واهتمامها بالكم أكثر من الكيف وسوء التطبيق لقوانين التجنيد والعوض وعدم شمولها لكل السكان، بالرغم من هذا كلّه فإن ميلاد الجيش النظامي في تونس كان حدثا مهمّا في حد ذاته.

تكوين نواة جيش وطني وإبراز الدولة

لأول مرّة في تاريخ تونس الحديث يتكوّن جيش نظامي من الشباب التونسي لحما ودما.وهو ما عزّز الشعور بالارتباط والانتماء لدى سكان الوطن الواحد. وأصبح الجنود والضباط أوثق صلة بأفراد المجتمع بالنسبة إلى ما كان عليه الأمر أيام الحامية العثمانيّة. وبرز للعيان جيش وطني أسهم في تثبيت اسم الدولة وبلورة هياكلها السياسية والعسكريّة، وذلك بفضل تركّز المؤسسة العسكريّة على نحو واضح بأسمائها الحديثة باسم وزارة الحرب لها علمها وقوانينها وإدارتها ويتولى أمرها وزير الحرب برتبة عسكريّة تمنح من باي البلاد وليس من السلطان، هي رتبة فريق، وأصبح بالامكان الحديث عن دولة بعد أن تأسّس جيش نظامي ينحدر أفراده من فئات المجتمع التونسي المختلفة. ومن نتائج تكوين الجيش أيضا أن حلّت في مرحلة أولى اللغة العربيّة محلّ التركية وأصبحت لغة الجنود في التدريس والتدريب والمراسلات.وهو ما أعطى للجيش هويته العربيّة التونسيّة.ومن ثمّ أدرجت المصطلحات العربيّة في صلب الجيش إلى جانب استمرار بعض المصطلحات التركية الموروثة، والفرنسية الدخيلة مع المدرسين الفرنسيين. ولقد كان لحركة التعريب عن التركية والفرنسيّة في مجال الكتب القانونية والتعليميّة بالمدرسة والجيش نشاط ملحوظ على يد ضباط الجيش وإطارات مكتب الحرب وقام بهذا العمل ضباط تونسيون تخرجوا في المدرسة أشهرهم الجنرال حسين والرائد محمد بن الحاج عمر الذي كان له النصيب الأكبر في تعريب الكتب العسكريّة والقوانين عن اللغة الفرنسيّة وكذلك المقدم أحمد المورالي الذي ألف عددا من الكتب التعليميّة العسكريّة للتلاميذ الضباط. وفي مرحلة ثانية وقع التخلي عن التدريس باللّغة العربيّة في المكتب الحربي لصالح اللّغة الفرنسيّة

ترسيخ فكرة الجندية وتكريس العمل بقانون القرعة

من نتائج إحداث الجيش النظامي ووضع القوانين العسكريّة موضع التنفيذ أن تغيّر المفهوم القديم للجنديّة عند التونسيين ذلك الذي كان يعتبر الجندية حرفة للأتراك فحسب دون غيرهم. وتغيّرت فكرة أن الذاهب إلى الجندية كالذاهب إلى السجن أو القبر وذلك بفعل امتداد الجندية إلى فصائل المجتمع المختلفة في المدن والقرى. لذلك فإنه بالرغم من صعوبة الحياة العسكرية بسبب تدهور الأوضاع المالية للدولة وتراجع الحماس في الاهتمام بالجيش وتجهيزه، ورغم زهد الجنود في تلك الحياة بوجه عام فإن الكثيرين من الجنود والضباط استفادوا من الانضباط والتربية العسكريّة في حياتهم وتعلموا منها الكثير، وفتحت أمامهم آفاقا من المعرفة وفهم الحياة كخبرة السلاح وخشونة العيش والتعود على القوانين العسكريّة والاختلاط بالغير مما لا يجدونه في محيطهم الاجتماعي الضيق. وأهم من ذلك أن الجنديّة أصبحت وسيلة للارتقاء الاجتماعي لعدد من الجنود والضباط.وربما بدت وظيفة الجنديّة بالرغم من تأخر الرواتب أو انقطاعها أحيانا عند بعضهم هدفا يصبو إليه. وقد حدث فعلا أن أقبل بعض المواطنين طواعية على الجندية وطلبوا الانضمام إليها خاصة عندما كان عملهم قريبا من مناطق سكناهم. أما قانون القرعة الذي استمرّ العمل به لفترة أطول وهو القاضي بدعوة الشباب إلى خدمة الوطن باعتبارها واجبا، بالبدن أو بالمال، بحيث أصبح من التقاليد العسكريّة التي استمرت منذ ذلك الوقت في المجتمع التونسي إلى اليوم مع اختلاف الطريقة والظروف.