المهدية

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث

المهديّة مدينة بالبلاد التّونسيّة استمدّت اسمها من مؤسسها عبيد اللّه المهدي (سنة 297322هـ/909 - 934م). وتقع هذه المدينة على ساحل البحر، على مسافة 200 كيلومتر جنوبي مدينة تونس. وهي مركز لولاية بلغ عدد سكانها 378.700نسمة في إحصاء سنة 2004.

تأسيسها

بنى الفاطميون مدينة المهديّة بداعي الاستجابة إلى حاجة ملحّة حصل الشعور بها منذ أواخر الدّولة السابقة، وهي دولة الأغالبة.فقد كان الأمراء على آخر عهد هذه الدّولة قد غادروا القيروان فعلا وانتقلوا إلى مدينة تونس.وكان عبيد اللّه المهدي، إمامُ الشيعة الاسماعيلية، في أثناء ارتياده ساحل البلاد انطلاقا من مدينة تونس - التي لم تصادف هوى في نفسه ووصولا إلى الموقع الذي اختاره لاقامة عاصمته الجديدة، يخضع للدوافع نفسها، بالاضافة إلى اهتمامه بأمور أخرى لها علاقة بضمان الأمن. وقد نسب إليه في زمن لاحق التنبّؤ بحدوث ثورة أبي يزيد النّكّاري وزحفته العارمة الهوجاء التي لم تحطّمها إلاّ أسوار المهديّة وحصونها. وقد حمل ذلك أنصار الامام على اعتبار هذه النبوءة المعجزة سببا في تأسيس المدينة، إلاّ أنّ الدوافع والشواغل الحقيقيّة التي كانت تسيطر على فكر الامام كانت أقرب من كلّ ذلك وأوكد. فبصرف النّظر عن الاعتبارات المتعلّقة بانتشار الصيت وعلوّ الشأن بين الملوك وعن حرص مؤسّسي الدّول والممالك عبر مختلف مراحل التّاريخ الاسلامي على تجسيم قيام كل ّ نظام سياسي جديد ببعث عاصمة جديدة للحكم، كانت غاية المهدي العاجلة إقامة سدود منيعة تتميّز بما ينبغي من بُعد الشّقّة ومن حصانة الموقع، لتكون حاجزا دون عاصفة محتملة تقوم بها جموع أهل السنّة الذين يقفون ضدّ الشيعة بكلّ ما أوتوا من ثبات وإصرار. وهذه الزوبعة لا يمكن أنّ تنطلق أعاصيرها وموجاتها إلاّ من محور مركزيّ هو القيروان. أمّا خطر الخوارج فقد كان أبعد من أن يُتوقع آنذاك.

وكان الموقع الذي اختير يتميّز بضمانات أمنية مثالية بالنسبة إلى دولة تملك أسطولا بحريّا قويّا ورثته عن دولة الأغالبة. فلقد أُقيمت المدينة فوق نتوء صخري داخل في البحر بنحو 1400 متر لا يمكن الجواز إليه إلاّ عبر ممرّ ضيّق، (المقدسي، أحسن التقاسيم)، وهو ما يجعل منالها عن طريق البرّ أمرا مستحيلا. وإنّ في ذلك ما يفسّر اختيار عبيد اللّه المهدي الذي فشل في تحقيق مطامحه في الدخول إلى مصر فلم يسعه إلاّ تأمين قواعده بإفريقيّة إلى أجل غير مسمّى.

وتوجد علامات عدّة من النقوش والكتابات ومن الاثار تشير إلى أنّ تعيمرًا قديمًا بونيّا ورومانيّا قد سبق الفاطميّين في الارتكاز بتلك الجهة. وقد احتفظت النصوص العربيّة بذكرى "جُمة" التي يذهب الباحثون إلى أنّها مدينة "قُمّي". لكنّ ليس هناك ما يسمح بالاعتقاد أنّ شبه الجزيرة الداخلة في البحر "قد كانت محلاّ لتجمّع عمراني قبل القرن 10م".

قام عبيد اللّه المهدي إذن في سنة 300هـ/912 * 913م. (ابن عذاري، البيان، ج. 1, ص 169) بارتياد موقع بكر، وعند الفراغ من أشغال بناء المدينة دشّن عاصمته الجديدة يوم 8 شوال من سنة 308، الموافق 20 فيفري سنة 921. (ابن عذاري، البيان، ج 1، ص 184; والقاضي النعمان، الافتتاح، وتح. فرحات الدشراوي، تونس، 1975, ص 327 - 328). كانت مدينة المهدية إذن مخبأ وملجأ. فحُصنت وأحيطت بسور ذي كثافة غير معهودة (8 أمتار و30 سنتيمترا) مساير لساحل لا تزال آثاره ماثلة للعيان في جزء طويل منه بناحية الشمال. وكان يسدّ مدخل البرزخ المؤدّي إلى المدينة من جهة البرّ سدّ طوله 175 مترا مسبوق على مسافة 40 مترا بسور تمهيدي متقدّم. وكان الجواز إلى المدينة من باب حديديّ تزينه صور أسود من النحاس الأصفر عبر رواق معقود السقف طوله 33 مترا وعرضه 10,5 أمتار. ولم يبق اليوم قائما سوى هذا الرواق المسمّى "السقيفة الكحلاء".

وكانت المدينة تحتوي على قصر خاص بالامام المهدي، وقصر آخر لابنه وولّي عهده القائم، وعلى مبان إداريّة ومخازن تحت الأرض لادّخار الحبوب، وعلى آبار ومواجل للمياه. وكان بها مسجد جامع، وقد نخره البحر فيما بعد وأبلاه، وشوّهته البناءات الطفيليّة التي علقت به عبر السنين، فأصبح خرابا. وقد رُمّم هذا الجامع مؤخّرا - خلال سنوات الستين - بإشراف الباحث ليزين، كما جُهّزت العاصمة الجديدة بدار صناعة للسفن، وأقيم بالناحية الجنوبيّة منها ميناء داخلي محصّن ومحميّ. وهو ليس بالضرورة، كما ذهب إليه بعضهم، بناء قديما أعيد استعماله، لكنّه مستوحى دون شكّ من مثال ميناء بوني محتفر ومحصّن.

تاريخها

المهدية مدينة ملكية وقلعة حصينة محصورة في نطاقها الضيّق داخل أسوارها. فهي لم تكن يوما تعجّ بالسكّان. أمّا جمهرة الأهالي فقد استقرّوا بمناشطهم الاقتصاديّة في ربض زويلة. وعمد الخليفة القائم (322 - 334هـ/934 - 946م) إلى إحاطة هذا الربض بخندق. وفي سنة 332هـ/943م، قامت ثورة أبي يزيد الخارجي النكّاري، الملقّب بصاحب الحمار. وبعد أن استولى هذا الثائر عنوة على مدينة القيروان، انتقل فضرب الحصار على المهدية (من جمادى الثانية سنة 333 إلى صفر سنة 334/جانفي - أكتوبر 945). وقد كانت أسوار المهديّة وتحصيناتها سببا في نجاة الفاطمييّ ن من هلاك كان يبدو محققّ ا، إلا ّ أنّ الخليفة إسماعيل المنصور (334 - 341هـ/946 - 953م) قد تخلّى، بعد القضاء نهائيا على الثّورة، عن مدينة المهديّة التي فقدت بذلك منزلتها من حيث هي عاصمة، واستقرّ في أواخر صفر من سنة 337/سبتمبر 948، بقاعدته الجديدة "المنصوريّة" التي أقامها بجوار القيروان "في المكان نفسه الذي انتصر فيه على صاحب الحمار" (فرحات الدشراوي، الدّولة الفاطميّة بالمغرب، تونس 1981, ص 217).

ولم تسترجع المهديّة دورها باعتبارها عاصمة لاخر مرّة إلاّ بعد الانتشار الهلالي الذي دفع بالأمير المعز بن باديس إلى اللجوء إليها والتحصّن بها. ومنذ ذلك الحين أصبحت المدينة عاصمة مهدّدة بالأخطار المحدقة بها من كلّ صوب، بل حتّى من البحر أيضا. ففي سنة 480هـ/1087م، استولى على المهديّة وزويلة جماعة من رجال مدينتي "بيزا" و"جنوة" ونهبوا ما فيها وأحرقوها. (ه. ر. إدريس، الدولة الصنهاجيّة باريس، 1962, ج. 1, ص 288). وفي سنة 517هـ/1123م. هاجم النورمان المدينة دون طائل. وفي سنة 529هـ/1134م تعرّضت المدينة إلى هجمة بني حمّاد برّا وبحرا. وأخيرا فرض النورمان الحاكمون في صقليّة شروطا قاسية على مدينة المهديّة بمعاهدة سنة 536هـ/1140م.فكان ذلك تمهيدا لاحتلالها من روجار الثاني ملك صقليّة (في 2 صفر 543 / 22 جوان 1148). وقد كانت تلك نهاية الدولة الصنهاجيّة.

وفي 12 رجب 554 / 30 جويلية 1159 ضرب أسطول عبد المؤمن بن علي وجيوشه الحصار على المدينة بحرا وبرا، فلم يكن بوسع النورمان غير الاستسلام يوم 10محرّم 555 / 21 جانفي 1160. وسمّى الموحّدون واليًا لهم على المدينة.وبعد ذلك بأربعة عقود من السنين تحالف محمد بن عبد الكريم الرّجْراجي الكومي - وهو من قبيلة عبد المؤمن بن علي - مع بني غانية، فاستقلّ بأمر المدينة في أوائل خلافة الناصر (595 - 610هـ/1199 - 1213م)، وتلقّب بالمتوكّل على اللّه، لكنّ الخليفة الموحّدي استرجع المهديّة وكامل إفريقيّة سنة 602هـ/1205م ورمّم تحصيناتها.

وفي عهد الدولة الحفصيّة، وفي سنتي 685 و686هـ/1286 و1287م، دمّر قائد البحر روجير دي لوريا (Roger de Lauria) الموفد من قبل مملكة أراغون الكثير من مدن الساحل بما في ذلك المهدية ثمّ استقلّ بها من سنة 718 إلى سنة 723هـ/1318 - 1323م أبو ضربة أحد أبناء اللّحياني. وفي سنة 739هـ/1338 - 1339م.استولى على المهديّة رجل يدعى ابن عبد الغفّار. وفي سنة 761هـ/1360م أُدخلت ترميمات جديدة على أسوارها وحصّنت بعناية ابن تفراجين وزير الدولة الحفصيّة. وفي سنة 1390م وبين يوم 20 جويلية ويوم 20 سبتمبر تعرّضت المهديّة إلى حملة قامت بها عساكر جنوة يساندهم فرسان فرنسا وانڨلترا. وصمدت المدينة في وجه المغيرين لكنّها اضطرت أخيرا إلى دفع جزية حتّى تتمكّن من رفع هذا الحصار.

وفي آخر أيام الدّولة الحفصية تنازع الأتراك والاسبان مدينة المهدية بشدّة وعنف. وعمد الاسبان إلى محاصرتها سنة 1509, ثمّ ركّزوا بها حامية قارّة سنة 1539 بعد استيلاء شارل الخامس (Charles Quint) امبراطور إسبانيا على مدينة تونس.

لكنّ القائد درغوث استولى على المهديّة في السنة الموالية. وقد أُجلي بعد ذلك مؤقتا عن المدينة. ثمّ عاد فاستقرّ بها من جديد إلى يوم 8 سبتمبر 1550, تاريخ تغلّب قائد البحر أندريا دوريا على هذا الموقع المحصّن والاستيلاء عليه باسم شارل الخامس المذكور الذي أمر بتخريبها وهدم تحصيناتها قبل مغادرتها والتخلّي عنها نهائيّا.

وفي سنة 1740 غادرها أهلها وهجروها بسبب ما أصابهم من قسوة علي باشا عليهم عقابا لهم على وفائهم لعمّه ومناصرتهم إيّاه. وفي سنة 1848 أصبح عدد السكّان المسيحيّين بالمدينة من الأهميّة بحيث استوجب تركيز كنيسة خوْرنيّة. وبالرغم من تحسّب أهل المدينة واحتياطهم في أثناء انتفاضة سنة 1864 التي قامت بسبب مضاعفة ضريبة المجبى بالبلاد، فإنّ المهديّة، باعتبارها مدينة مجرّدة من الأسوار، قد تعرّضت إلى نهب سكان القرى المجاورة (ج. غانياج J.Ganiage, أصول الحماية الفرنسيّة بالبلاد التّونسيّة (1881 - 1861), باريس، 1959, ص 228) وتردّت إلى حالة من الافلاس المالي، كما كان شأن منطقة الساحل كلّها، بسبب التأثيرات المزدوجة لحملة الوزير زرّوق من جهة، ولتشدّد أصحاب الديون والمرابين وشططهم في المطالبات من جهة أخرى. وإثر انتصاب الحماية بالبلاد التّونسيّة، افتتحت أوّل مدرسة فرنسيّة بالمهديّة في سنة 1884, وأصبحت المدينة مركزا إداريا لعامل أو "قايد" سنة 1885. ولم تلبث المهدية أنّ أسهمت بقسط وافر في الحركة الوطنيّة. ففي 6 مارس 1906 جرت بها مظاهرة للاحتجاج على غلوّ الأسعار آلت إلى أعمال عنف وشغب. وفي 21 مارس 1925 استجابت المهديّة إلى تعليمات الاضراب العام الذي أعلنه حزب الدستور في كامل أرجاء البلاد احتجاجا على إصلاحات اعتبرت غير موفية بالغرض، كما دارت بها من 18 إلى 20 أفريل 1933 مظاهرات أخرى لمنع دفن التونسيّين المتجنّسين بالجنسيّة الفرنسيّة داخل المقابر الاسلاميّة.

وقد خضع تطوّر شكل المدينة وعمرانها بطبيعة الحال لما عاشته ومرّت به من أطوار وتقلّبات عبر تاريخها. فقد آل الأمر بربض زويلة إلى الاندثار شيئا فشيئا، فيما برز اسم قرية هيبون شمال المدينة. ثمّ أخذت ملامح المدينة تتغيّر تماما ابتداء من القرن السادس عشر بسبب تأثير العنصر التركي وهو جند الحاميات العسكريّة الجديدة بالمدينة. وقد أضيف إلى هذا العنصر، انطلاقا من سنة 1609 عنصر الأندلسيّين المهاجرين من إسبانيا. هذا وإنّ نسبة تساوي 60 بالمائة من العائلات البرجوازيّة من أهالي المهديّة اليوم تنحدر من "الكُولُوغْليّة".

وهذه أعلى نسبة بالبلاد التّونسيّة في هذا الباب، وهو ما أدّى إلى تأثير واضح ومحسوس في الأسماء والعادات والتقاليد.

وأهمّ ثروات المهديّة هي زراعة الزيتون والصيد البحري. وقد ازدهرت الصناعات المتّصلة بالزيتون والصيد البحري وخاصّة تصنيع سمك السّردين على نحو لافت ونتج عنها تركيز تجهيزات حديثة في مجال صناعة الزيوت وتكريرها وصناعة الصابون وصناعة التصبير وغير ذلك.

أمّا اليوم فإنّ المدينة قد تجاوزت حدود برزخها الأصلي الضيّق وتوسعت في اتجاه الطريقين الرئيستين نحو مدينة صفاقس وخصوصا نحو مدينة سوسة.