المكتبة العتيقة وسوق الكتبية

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث
المكتبة العتيقة في الصحافة

لقد ارتبط انتعاش المكتبة العتيقة وازدهار سوق الكتبية في تونس بالشيخ علي العسلي الذي كانت ولادته سنة 1911 وقد حرص والده الشيخ صالح العسلي الذي كان يدرس بجامع الزيتونة تطوّعا ويشتغل ببيع الكتب بمكتبته "المكتبة العتيقة" التي أسسها سنة 1895 بسوق الطيبيين أوّلا ثمّ بسوق الصوف عدد 13 على تحفخه القرآن الكريم بكتّاب سيدي بوسعيد على يدي مؤدبه الشيخ القروي بزنقة الوليّ، بتربة الباي قرب بيتهم، فحفظه بكامله عن ظهر قلب وسنّه لم يتجاوز الثانية عشرة. وكان يذكر من زملائه في فترة الكتّاب الشيخين الفاضلين الشاذلي النيفر ومصطفى محسن، والقاضي محمود العنّابي والطيب بن مامي المحامي.

وبعد ذلك رأى والده أن يلحقه بالجامع الأعظم لمتابعة حلقات الدروس ولكنّ سنه مازال مبكّرا ولم يكن حافظا للمتون وهي من الأمور الأساسيّة للالتحاق بالجامع المعمور فشرع في تحفخه ذلك بنفسه في البيت. وكان يلزمه تكرير نصيب من القرآن كلّ ليلة وألحقه بإحدى دولات قراءة القرآن بالجامع الأعظم كلّ يوم بعد صلاة الفجر وكانت نوبته يوم الاربعاء فجرا. وحتى لا يركن الفتى طوال النهار إلى الفراغ ويتعوّده، أراد له والده تعلّم صنعة من الصناعات الرائجة في ذلك الوقت ريثما يلتحق بالجامع الأعظم. فاختار لنفسه صنعة الشاشية التي اعتنى بها وأعجب بها إلى درجة أنها ألهته عن الحفظ لفترة من الزمن. وبعد سنتين من الانقطاع، حال المرض دون تمكينه من متابعة تلقّي العلم وتعذّر عليه بعدهما استئناف الدراسة. ففتح له والده سنة 1930 مكتبة إلى جانب مكتبته بسوق الصوف عدد 11 سمّاها ""مكتبة التوفيق" وهكذا أخذت حياته منعطفا جديدا.

شرع علي العسلي في مزاولة مهنة الوراقة والكتبيين فحالفه التوفيق وبدأ منذ ذلك الوقت يكتشف أسرار هذه المهنة الجديدة التي لا تخلو من متعة وتعب في آن واحد، متعة توفّرها له المطالعة والتعلّم ومخالطة طبقة أخرى من المجتمع التونسي هي طبقة مشايخ الجامع الأعظم وعلمائه وهي فرصة لم يصادفها عندما كان يزاول صناعة الشاشية، فأخذ عنهم الكثير بل قل إنّه اكتسب منهم كلّ ثقافته الاجتماعية في فترة شبابه. أمّا تعبها فكان ناتجا أساسا عن ندرة مصادر التزوّد إذ كانت أغلب الكتب تستورد من الشرق، وكانت السلط الاستعمارية شحيحة في منح الكتبيين رخصا لتوريد الكتاب العربي. هذا بالإضافة إلى قلّة المقبلين على القراءة والمطالعة في ذلك الوقت.

وبعد وفاة والده الشيخ الحاج صالح العسلي سنة 1934 انتقل إلى مكتبة والده "المكتبة العتيقة" بسوق الصوف عدد 13 وباشر فيها العمل بنفسه وواصل مسيرة والده في الاعتناء بالتراث المخطوط - وكان يطلق على هذا النوع من الكتب اسم الكتب القلمية - بحيث أصبح في فترة لا تتجاوز العقدين من الزمن من الخبراء المشهود لهم في هذا الباب ولا تخلو مكتبة من مكتبات علماء تونس اليوم من عشرات المخطوطات التي وفّرها لهم علي العسلي، ورصيد المكتبة الوطنية الذي اقتنته على يديه في تلك الفترة يشهد على ذلك. واتّجهت عنايته أيضا إلى الاهتمام بالكتب التي كانت مقرّرة في الجامع الأعظم فكان يوفّرها للطبة إمّا بالتوريد من مصر أو يتولّى طبعها في تونس إمّا بمفرده أو مع أحد زملائه في المهنة أمثال الشاذلي الزاوق أو الشيخ الثميني أو مع بعض الكتبيين بالجزائر أو مع جماعة القادريين الكتبيين بفاس بالمغرب الأقصى. وبفضل هذا التعاون بين أصحاب المهنة من طبقته الذين نذكر منهم التيجاني المحمدي والهادي بن عبد الغني وعبد القادر الطرابلسي ومحمد النوري والبشير الخنڨي وعلي الصغيّر السويّح، أمكن تصدير الكتب الصفراء إلى بلدان إفريقيا الغربية كالسنغال ومالي والتشاد وتزويد هذه البلدان بكل ما تحتاجه من الكتب العربية وكان التعاون قائما بينهم على أفضل وجه والتنافس بينهم على أشرف ما يكون. وينبغي ألاّ ننسى كذلك الأخوين الأمين ومحمد الطاهر صاحبي المكتبة العلمية وكانت مكتبتهما بنهج الكتبية أيضا. والجدير بالذكر أنّ الطاهر الأمين هو أوّل من سافر إلى الشرق بنفسه في أواخر الثلاثينات لجلب الكتب بعد أن كان الكتبيون في تونس يعتمدون على المراسلة فقط في هذا المجال، وكان الثاني هو علي العسلي الذي سافر إلى مصر في أواخر الأربعينات مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية ليقف بنفسه على اختيار الكتب وانتقائها وجلبها إلى تونس.

علي العسلي أمين سوق الكتبية

ويتجسّم الانسجام التام بين أفراد هذه الطبقة من الكتبيين أيضا في موافقتهم بالاجماع على تعيين علي العسلي أمينا لسوق الكتبية، بعد أن استصدر حسن حسني عبد الوهاب أمرا عليّا بتاريخ 7 شعبان 1366 / 26 جوان 1947 أولاه بمقتضاه خطة "أمين سوق الكتبية بالحاضرة". فكان بذلك علي العسلي أوّل أمين لسوق الكتبية وآخره ذلك أنّ أعداد الرزنامة التونسية التي تذكر في كلّ أعدادها السنوية أسماء الأمناء بحاضرة تونس لم تشر في أيّ سنة إلى خطة أمين الكتبية.

علي العسلي الناشر

وعندما نفدت سوق كتب التدريس بالجامع الأعظم ركّز علي العسلي كلّ عنايته على كتب التراث التونسي، تحقيقا وطباعة ونشرا. وأوّل ما حرص على طباعته "المصحف الشريف" بالرسم العثماني على رواية قالون، وهو أوّل إنجاز من نوعه في العالم الاسلامي إذ أنّ طبعات المصحف الرائجة في الشرق كانت على رواية حفص وفي الغرب على رواية ورش، وكان ذلك في نهاية الأربعينات عندما بدأ بنشر الربع الأخير أي ربع يس، ثم أتمّ ذلك في بداية السبعينات فطبعه في بيروت طبعة أنيقة.

ومن أهمّ المنشورات الأخرى نذكر بالخصوص كتاب المؤنس في أخبار إفريقيا وتونس لابن أبي دينار تحقيق الشيخ محمد العنابي سنة 1965. وفي السنة نفسها بدأ بنشر الجزء الأوّل من كتاب معالم الايمان في معرفة أهل القيروان للدبّاغ تحقيق إبراهيم شبوح ثمّ أتبعه ببقية الأجزاء الثلاثة الأخرى وكتاب "قلائد العقيان في محاسن الأعيان" للفتح ابن خاقان، بتحقيق الشيخ محمد العنابي وكتاب تاريخ الدولتين الموحدية والحفصية للزركشي، بتحقيق الشيخ محمد ماضور. وتواصل تحقيق نفائس المخطوطات ونشرها إلى سنة 1992.

علي العسلي الخبير في المخطوطات والمطبوعات

كان علي العسلي موسوعة متنقّلة في مجال أسماء الكتب المخطوط منها والمطبوع، فكان يحفظ عن ظهر قلب مظانّ المخطوطات كما يعرف أسماء ناشري الكتب التي كانت تسترعي انتباهه. وقد ساعده في ذلك ما كان يدأب على تسجيله بخطّ يده من أسماء المطبوعات الجديدة أو تلك التي لم يذكرها معجم سركيس للمطبوعات العربية، وكان يبدي ابتهاجا عظيما عندما يكتشف مخطوطة لم يذكرها حاجي خليفة في كتابه كشف الظنون فيسارع إلى تدوين ذلك.وفي بداية الاستقلال كلّفته رئاسة الجمهورية عن طريق المكتبة الوطنية بتكوين نواة المكتبة العربية لرئيس الجمهورية في قصر قرطاج. وكان كثيرا ما يقدّم خدماته التطوعية لمن يقصده لتقويم تركة مكتبة أو تصنيف مخطوطاتها، وكان كثيرا ما يجيب من يلومونه على عدم تقاضي أجر على ذلك بقوله: عليّ أنا أن أدفع لهم الأجر لأنهم أتاحوا لي فرصة للتعلّم. ومن أطرف ما يذكر في هذا المجال أنّه عندما تقدمت به السن وبدأ يطرأ عليه النسيان فتغيب عنه أحيانا حتى أسماء أحفاده فإنّه لم ينس شيئين اثنين: أسماء الكتب وما حفظه من القرآن.

المكتبة العتيقة منتدى للعلماء والأدباء

وكانت المكتبة العتيقة إلى جانب كونها محلاّ لبيع الكتب "صالونا أدبيا" يؤمه خيرة مشايخ الزيتونة وعلمائها في الخمسينات ثم ثلّة من الشبان الأساتذة في كلية العلوم الانسانية، نواة الجامعة التونسية التي تأسّست في الستينات، ونذكر من بين هؤلاء العلماء والمشايخ حسن حسني عبد الوهاب وعثمان الكعاك ومحمد البشير النيفر والشاذلي النيفر وأخيه الأكبر أحمد المهدي والعربي الماجري والمختار البجاوي ومحمد التركي ومحمد حمزة والصادق بسيّس وأخيه الطيب والطاهر الخميري والعربي العنابي وأخيه الطيب وغيرهم. وكانت مجالسهم لا تخلو من المساجلات الأدبية والمناظرات العلمية والتاريخية. هذا بالإضافة إلى ما كان يثار من إشكالات فقهية وقانونية ولغوية خاصة أنّ كلّ واحد من الحاضرين يجتهد من ناحيته باقتراح مظانّ تلك المسائل في أمّهات الكتب التي كانوا غالبا ما يرجعون إليها على الفور. وفي سنة 1957 رأى علي العسلي أنّ عليه مواكبة التيار إذ أنّ موقع مكتبته أصبح غير مناسب، خاصة بعد توقّف إلقاء الدروس بالجامع الأعظم، فانتقل إلى 61 نهج الكنيسة الذي أصبح اليوم نهج جامع الزيتونة والمكتبة مازالت قائمة إلى اليوم. وتوفي في أوّل يوم من سنة 1998 ودفن بالجلاز.