«المشير أحمد الأول»: الفرق بين المراجعتين

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث
سطر 22: سطر 22:
 
[[تصنيف:الموسوعة التونسية]]
 
[[تصنيف:الموسوعة التونسية]]
  
 +
[[تصنيف:التاريخ]]
 
[[تصنيف:السياسة]]
 
[[تصنيف:السياسة]]
[[تصنيف:الإصلاح]]
+
[[تصنيف:الاصلاح]]

مراجعة 14:53، 4 جانفي 2017

[1806 - 1855م]

ولد في 21 رمضان سنة 1221هـ/2 ديسمبر 1806م من جارية إيطاليّة من كورسيكا علمته لغتها فأتقنها كما علّمته العربيّة والتركيّة وأبوه مصطفى باي (1835 - 1837) الذي كلّف مصطفى صاحب الطابع بالسّهر على تربيته. أصبح صاحب الطابع هذا وزيرا له بعد أن كان وزيرا لأبيه، وحفظ القرآن، وتعلّم اللّغة التّركيّة "نطقا وكتابة" واللّغة الايطاليّة "نطقا فقط".ويذكر أنه تزيّا في شبابه بزيّ الجند من التّرك. لمّا توّج المشير أحمد الأوّل بايا على تونس عام 1837, أي بعد سبع سنوات من احتلال الجزائر، تبيّن له، على ما يبدو، أنّ نفوذ الاستعمار الفرنسي في إفريقيا الشماليّة لن يتوقّف عن التوسّع، لا سيما أنّ الظروف الدّولية قد تغيّرت تماما لصالح الغرب، كما تبيّن له أنّ الدولة العثمانيّة في شغل شاغل من أمرها وقد أخذت قوّتها العسكريّة تضعف شيئا فشيئا إثر الهزائم المتوالية التي مُنيت بها، وخاصة تلك النّكبة القاسية للأسطول العثماني والأسطول التّونسي في واقعة "نافرين" (Navarin) سنة 1827. وبالرّغم من قوّة شخصيّته واندفاع طموحه، فقد استمرّ أحمد باي طوال حكمه على سياسة أسلافه (ما عدا حمّودة باشا (1782 - 1814) من التقرّب إلى فرنسا. والظّاهر أنّه باتباعه هذه السياسة كان يطمح طموح محمّد علي في مصر إلى استكمال استقلاله عن السّلطنة العثمانيّة، فضلا عن رغبته العارمة في "تحديث" جيشه ومؤسساته كما فعل محمّد علي الذي انبهر بتفوّق نموذج الحضارة الغربيّة. ولكن هناك عوامل دوليّة وخارجيّة دفعت الباي أحمد والبايات الذين حكموا تونس من بعده إلى اتّباع سياسة التقرّب من فرنسا وانتهاج سياسة مستقلّة عن السّلطنة العثمانيّة أو محاولة اتّباع سياسة تتراوح بين الولاء للباب العالي في حدود والتقرّب لهذه الدّولة أو تلك من الدّول الأوروبيّة ونعني: فرنسا وإنجلترا. ومن أسباب هذه السياسة نذكر مثلا:

  • عجز العثمانيين عن ردع فرنسا عند احتلال الجزائر. ومن ثمّة عجزهم عن حماية مناطق نفوذهم من احتلال أوروبيّ وشيك.
  • نجاح محمّد علي في انتهاج سياسة مصريّة مستقلّة عن الباب العالي، وهذا يغري باي تونس على اقتفاء أثره.
  • خشية بايات تونس من المصير الذي آلت إليه جارتهم طرابلس التي ألحقت ومن جديد عام 1835 عُنْوَةً بمركز الادارة العثمانيّة، وخاصة بعد رواج إشاعة في تونس - (وهي حقيقة تاريخيّة) - مفادها أنّ القائد العثماني يعتزم القدوم إلى تونس مع أسطوله الحربي لالحاقها بطرابلس. وقد تفاوض مصطفى باي (1835 - 1837) مع وزرائه وحاشيته، وكان معظمهم يميل إلى استعمال القوّة مع القائد العثماني والدّفاع عن استقلال البلاد.

ومن البديهي أنّ وزارة الخارجيّة الفرنسيّة كانت على علم بهذه النّزعة الانفصاليّة، فأخذت ديبلوماسيّتها تشجّعه على هذه النّزعة، بحيث أصبح قنصلها يقدّم أوراق اعتماده إلى الباي مباشرة، في حين أنّ إنجلترا ما تزال تعتبر قنصليتها بتونس ملحقة رأسا بالسّفارة الرئيسة. ومما يجب ملاحظته أنّ الامبراطوريّة العثمانيّة قد دخلت هي الأخرى في تجربة التّحديث والاصلاح ضغط أو تأثير من الدّول الأوروبيّة: ففي 3 نوفمبر من عام 1839، أعلن السّلطان عبد المجيد (1839 - 1861) "تنظيمات خط كلخانة" التي رفض أحمد باي الأوّل تطبيقها في مملكته رغم إلحاح الباب العالي عليه، لكنّها قرئت عليه في نصّها العربي في قصره عام 1840. أمّا الباي فقد أجاب، بلباقة، مبعوث السّلطان نصرة باي بما ملخّصه: "إنّ هذه التّنظيمات جيّدة في حدّ ذاتها لكن تطبيقها يتطلّب الوقت الملائم، لأسباب تتعلّق باختلاف الأمكنة والامكانيات". وليس هذا فقط: فقد تمكن، دون أخذ الإذن مسبّقا من السّلطان، من زيارة فرنسا في نوفمبر 1846، واستقبل في باريس استقبال "رجل دولة كبير" من طرف الملك "لويس فيليب"، أي مظاهر الحفاوة نفسها التي يستقبل بها الملوك المستقلّون. وقد احتجّ الباب العالي على ذلك. أمّا إنجلترا فقد اشترطت على الباي كي يزور بلادها أن يقدّمه السّفير العثماني باعتباره تابعا للسّيادة العثمانيّة العليا. ولذلك عدل أحمد باي عن الزّيارة. وتعتبر رحلة أحمد باي إلى فرنسا مهمّة جدّا لأنّها دفعت حركة التّحديث إلى الأمام. ففي رسالة وجهت إلى عمّال الجهات أخبرهم فيها بهدف الرّحلةوأبعادها بقوله:"أمّا بعد فإنّ المصلحة التي أمرنا اللّه بمراعاتها اقتضت أن نسافر بنفسي إلى فرانسة ولندرة. واللّه يعلم أنّ شغفي برعيّتي وأهل مملكتي يقتضي أن أقتحم المخاوف لأمانهم وتحمّل مشقّة الأسفار لراحة أوطانهم وحماية أموالهم وأبدانهم". لكن أحمد بن أبي الضياف في وصفه لهذه الرّحلة يذكر أنّ أحمد باي عندما كان يتجوّل في باريس ومواطنها الجميلة كان يتذكّر تونس وعادات أهلها وأماكنها عند مشاهدة كلّ شيء عجيب ويقول "ليت مثل هذا عندنا بالمحلّ الفلاّني من تونس. حتّى إذا مرّ يوما بالمهيع المعروف بشان زليزي ومعناه ممشى الجنّة فقلت له: كاد أن يوافق الاسم المُسمّى فقال لي: "ما أشوقني للدّخول من باب عليوة وأشمّ رائحة الزّيت من حانوت الفطائري داخله". فقلت له مداعبا وأنا أتنفّس في هواء الحريّة وأرد من مائها وقدماي بأرضها: "يحقّ لك ذلك لأنّك إذا دخلت من هذا الباب تفعل ما تشاء. أمّا الآن فأنت رجل من النّاس". وليس معنى ذلك أنّ أحمد باي قد قطع صلاته بالدّولة العثمانيّة: فعندما وقعت حرب القرم، سنة 1270هـ/1854م رغب قيصر روسيا الأوّل في الإفادة من ضعف الامبراطوريّة العثمانيّة "الرّجل المريض" لسلخ بعض مناطقها عنها (الامارات الرّومانيّة، بلغاريا، الصّرب) وبسط حمايته عليها. وتمخّضت سياسته تلك عن هزيمة روسيا أمام تضامن فرنسا وإنجلترا والبيامون مع الباب العالي في حرب القرم. وممّا يذكر، بهذا الصّدد، أنّ الباي بعث خير الدّين لاقتراض مال من بعض التّجار بفرنسا "وكتب له تفويضا بيده، ولم يعارض في ذلك أحد من خاصته" غير وزيره وصاحب سرّه مصطفى خزنه دار. وبعد سفر خير الدّين، جمع الباي رجال دولته، وهو في فراش المرض، وقال لهم: "إنّ الدّولة العليّة [العثمانيّة] لها حقوق علينا باعتبار العادة، منها أن نوجّه مراكبنا لاعانة أسطولها إذا وقع لها حرب. ووقع لنا تعطيل عن إرسال شقوفنا، سببه قنصل الفرنسيس "بيكلار" (Béclard) كما تعلمون [...]، ورأيت أن لا نقتصر على العادة السّابقة، بل نزيد على ما فعله سلفي بأن نوجّه عسكرا بسائر ما يلزمه من الأخبئة والمهمّات، ونقوم بما يلزمه في مدّة وجهته، ونبعث ما عندنا من المراكب" فقالوا له:"نعم الرّأي لو ساعدته الجدة، وأنت ترى ما نحن فيه من الضّيق". فقال لهم: "الاعتماد على اللّه". وهو يرى أنّ خير الدّين يتساهل في الاقتراض، إلاّ أنّه لم يصرّح بذلك. ثمّ جمع سائر ما في خزانته من المصوغ والأحجار الكريمة، والجواهر النّفيسة" وتبرّع وزيره مصطفى خزنه دار بجميع ما عنده من ذلك، حتّى حليّ زوجته أخت الباي. وبعث بجميع ذلك إلى خير الدّين وأمره ببيعه، فلم يجد ما يقارب الثّمن، فتوقّف، وأمره ببيع ذلك بما يجد وإرسال الثّمن عاجلا، "فامتثل وبعث الثّمن، وقدره نحو المليونين من الفرنكات" أنفقها في لوازم العسكر الذي عزم إرساله للدّولة العثمانيّة من الأقوات والأخبية والخيول [وسبق لهم مرتّب شهري] وغير ذلك". ويعتبر أحمد ابن أبي الضياف أنّ مشاركة تونس في الجهاد وإعانة الدّولة العثمانيّة كانت من "عظائم حسناته في المملكة. ولم يستعن الباي في هذا الجيش بدينار ولا درهم من أحد على أيّ وجه، سوى مصوغ الوزير، إمّا لعلوّ همّته التي اقتضت بيع ما له من الطارف والتّالد [بأبخس الأثمان]، أو لما علم من عجز النّاس وضعف المملكة. وقدر العسكر نحو الأربعة عشر ألف [14000] مقاتل، ما بين طبجية ورجال (مشاة) وفرسان وبحريّة حملهم في مراكبه الحربيّة وكانت سبعة، واكترى لبقيّتهم خمسة وستّين مركبا. وأمّر على الجميع أمير الأمراء أبا محمّد رشيد [أمير عسكر الساحل]...". ولما قرب أوان سفر هذا العسكر، قال ابن أبي الضياف للباي: "نحضّر مكتوبا للحضرة السلطانيّة؟".فأنف من ذلك لعلوّ همّته، وبعده عن الإعجاب بنفسه، وقال: "أيّ شيء فعلنا حتّى نكاتب في شأنه السّلطان؟" فقال له ابن أبي الضياف: "هذا أوّل عسكر نظامي خرج من المغرب إلى المشرق، وهو بالنّسبة لمملكتنا عدد كثير"، فقال: "حقّر عملك يعظّمه غيرك. نعم، لا بدّ من مكتوب في الوصاية بهم للصدر الأعظم ومكتوب لسرّ العسكر، فإنّنا وإن جمعتنا الأخوّة الدّينيّة، والأخوّة السلطانيّة، لا ننسى نسبتنا التّونسيّة". أمّا خير الدّين، فقد تثاقل في مهمّة الاقتراض من أجل مساعدة السّلطان "لما رأى فيه من الضّرر الفادح في الحال والمآل، والباي يحرّضه ويغلظ له في القول، وهو في ذلك يتثاقل". ومهما يكن من أمر فإنّ إسهام تونس بهذا الجيش الضّخم نسبيّا قد حمّل ميزانيتها عبئا ثقيلا فوق الأعباء الكبيرة الأخرى التي ترتّبت عن سياسة التّحْديث. وإذا كان أحمد باي قد استطاع أن يقوم بكلّ هذه الانجازات دون التمكّن من الاستدانة من الخارج - وهذا "شيء إيجابي" في سياسته - فإنّه اضطرّ إلى زيادة الضرائب إلى حدّ أرهق السكان إرهاقا شديدا بسبب بنائه مثلا لقصر "المحمديّة" الفخم جدّا. وهكذا بدأ المشير أحمد باي من حيث يجب أن ينتهي فعجز اقتصاد البلاد عن تمويل مشروعاته المكلفة (جيش نظامي مرتفع العدد، قصور كثيره، نياشين...) ولم ينقذه إثقال كاهل الأهالي بالضّرائب، فازدادت الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة تدهورا وتفاقمت بذلك الهيمنة الفرنسيّة على الباي ورجال دولته من المماليك وغير المماليك. أشرنا سابقا إلى أنّ أحمد باي كان يعرف اللّغة التّركيّة. "نطقا وشيئًا من الكتابة" واللغة الايطالية "نطقا فقط"، وكان مهتمّا بشؤون الثّقافة والتّعليم. وممّا حفز عنايته بهذا الميدان ما شاهده أثناء رحلته الشّهيرة إلى البلاد الفرنسيّة، وكذلك ما بلغه من حال التّعليم وتحديثه بمصر في النّصف الأوّل من القرن التّاسع عشر. ولئن اهتمّ بإصلاح التّعليم بجامع الزّيتونة وتنظيمه، فإنه أبدى اهتماما خاصا بإعداد الجيش ومؤسّساته وتكوين "إطارات" متعلّمة على النّمط الأوروبي. وقد عهد إلى الأوروبيّين بتحديث جيشه، وذلك بواسطة عقود خاصّة أبرمت مع ضبّاط. ولكن أحمد باي مثل كثير من أقرانه حكّام الشّرق المعاصرين له، لم يعرف كيف يستفيد من نقل المدنيّة الأوروبيّة، فكان اهتمامه مركّزا أكثر على المظهر الخارجي. أمّا فيما يتعلّق بالجيش فقد اهتم، على سبيل المثال، بتغيير ملابس الجنود والضبّاط وجعله يتّخذ نمط الزيّ الأوروبي (ما عدا الرأس المغطّى بالطربوش)، فضلا عن كون الجيش لم يستفد من المدرّبين الأجانب الذين استقدمهم للتّدريب على وسائل الحرب الحديثة، إمّا لعدم وجود فئة من الضبّاط ذات قدرة على الاستيعاب أو لعدم شعور هؤلاء المدرّبين الأجانب بالمسؤولية. وما قيل في الجيش البريّ ينطبق كذلك على البحريّة. زد على ذلك أن جميع منجزات أحمد باي اقتضت أموالا ضخمة، في حين أنّ إمكانات البلاد الاقتصاديّة والمالية محدودة. - خاصة أنّ الأسطول التّونسي قد تحطّم عام 1827م في واقعة "نافرين" الشهيرة. لكن أحمد باي كان مبهورا بمظاهر المدنيّة ذات الطراز الفرنسي. ولذلك انجذب إلى فرنسا دون غيرها انجذابا خاصّا. ألم يزيّن قاعات قصره باللّوحات الزّيتيّة عن معارك نابليون الكبرى؟ ألم يترجم إلى العربيّة كتاب:"تاريخ نابليون الأوّل"؟ هذا فضلا عن الانطباعات التي رجع بها المشير إلى بلاده. لقد أعجب إلى حدّ الانبهار، بما شاهده من استعراضات عسكريّة، وما رآه في "تولون" من قوّة الأسطول الفرنسي الرّادع، والقادر طبعا على أن يزرع في الضّيف "العزيز" عقد النّقص والضآلة. والجدير بالملاحظة أيضا أن أحمد باي لم يشغف بزيارة المطابع والمتاحف والمسارح والمعاهد العلميّة الخ - شغفه بالمؤسسات العسكريّة. ولذلك أعاد تنظيم المدرسة الحربيّة التي أسّسها عام 1831م حسين باي وذلك في غرّة محرّم 1256 / 5 مارس 1840م. أمّا مؤسّسات الحكم والحياة البرلمانيّة والسياسيّة والصحافيّة وما إلى ذلك، فقد اهتمّ بها اهتماما خاصا بعض مرافقي الباي في رحلته هذه وهما الوزير أحمد ابن أبي الضياف والجنرال خير الدّين، الوزير الأكبر والمصلح الشهير.