المذهب المالكي بالبلاد التونسية

من الموسوعة التونسية
نسخة 13:46، 7 ديسمبر 2016 للمستخدم Admin (نقاش | مساهمات) (أنشأ الصفحة ب' == النشأة == ذاع صيت الامام مالك في آفاق العالم الاسلامي، فقصده طلبة العلم بداية من القرن الثا...')

(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى: تصفح، ابحث

النشأة

ذاع صيت الامام مالك في آفاق العالم الاسلامي، فقصده طلبة العلم بداية من القرن الثاني للهجرة القرن/الثامن ميلادي، إلى أنّ انتقل إلى جوار ربّه سنة 179هـ/795م.

فكان ممّن أخذ عنه عبد اللّه بن غانم الذي ولّي القضاء، وكان أيّام قضائه يكتب ما أشكل عليه إلى مالك. كما كان يكتب إلى أبي يوسف، وكان يدرّس كتب أبي حنيفة يوما في الأسبوع فلم يكن ملتزما بمذهب مالك، ومثله أبو محمد عبد اللّه بن فرّوخ الفارسي، وهو الذي أشار بابن غانم لمّا عرض عليه القضاء وامتنع.

وممّن أخذ عن مالك واتّصل بسببه سند المذهب المالكي أبو الحسن علي بن زياد. وقد جمع إلى الفقه التقوى وخشية اللّه. فكان إماما مقتدى به، فرّ من ولاية القضاء، وصرف حياته في التعليم والاقبال على اللّه. هو شيخ أسد بن الفرات وسحنون بن سعيد والبهلول بن راشد، وغيرهم من الطبقة الثالثة والرابعة في مذهب مالك، وبذلك يعتبر علي بن زياد الحلقة الأولى في المذهب المالكي بإفريقية، وقد كانت له ميزتان:

أولاهما رواية "الموطّأ" الذي تلقّاه عنه طلبة العلم، يستوي في ذلك أتباع مذهب أبي حنيفة ومذهب مالك. فكان التأثّر بهذا التأليف الذي يعتبر من أوّل أوضاع التدوين الاسلامي، قد ترك بصماته في الفكر الفقهي عامّة، الموافق والمخالف، إمّا باعتماده وإمّا بمناقشته.

والأخرى أنّه كوّن على منهجه وطريقته فيمن كوّن علمين من أعلام الفقه، هما أسد بن الفرات وسحنون بن سعيد، كان كلّ منهما ذا فكر وقّاد.

كلما انفتح له حكم مسألة كان ذلك الانفتاح مفضيا إلى غيرها من الصور المحتملة الوقوع التي تتّصل بها من ناحية، وتستقلّ عنها من نواح أخرى. نقل المالكي أنّ أسدا سأل مالكا يوما عن مسألة فأجابه، فزاد في السؤال فأجابه ثمّ زاد فقال له: "حسبك يا مغربي إنّ أحببت الرأي فعليك بالعراق". وكان سبب انصرافه عن ابن وهب أنّ ابن وهب أبى عليه أنّ يخرج عمّا رواه عن مالك.

وكل ّ واحد منهما كان حريصا على توثيق ما علمه بالكتابة. روى أبو العرب عن سحنون قال:

"كان من يعرف العلم يبقى في صدره لا يسألونه عنه [يعني أهل إفريقية] فيموت به مثل عبد الرحمان بن زياد بن أنعم، بقي العلم في صدره لا ينتشر عنه ولا يعرف".

وانفرد سحنون بتحقيق النقل والدّقة في الضبط والغوص متأثّرا في ذلك بشيخه. قال أبو العرب: "كان علي بن زياد خير أهل إفريقية في الضبط للعلم".

وبهذا المنهج سرى فقه مالك إلى إفريقية أوّلا عن طريق أسد في كتابه الأسديّة ثمّ عن طريق سحنون في كتاب المدوّنة.

الأسديّة والمدوّنة

أشبع أسد نهمه من البحث والتقصّي في العراق، وانتظمت له مسائل الفقه الواقع والمتوقّع على الطريقة العراقيّة فعزم على أنّ يضمّ إلى المنهج العراقي في تفريع المسائل وتوليدها والتوسّع في الأقيسة التي بها يدرك كثير منها، وحرص على أنّ يوثق ذلك بمنهج أهل المدينة، فرحل إلى مصر بعد موت مالك، وعرض أسئلته في النهاية على ابن القاسم فأجابه عنها ذاكرا بالجزم قول مالك حينا، وتارة مخرجا عليه، وتارة غير جازم. فيقول: أحسب، وأظن، وأخال.

وقدم أسد بما دوّنه عن ابن القاسم، وانتصب مدرسا يوضّح ما أخذه ويبيّن مداركه. وكان سحنون أحد الذين أخذوا عنه معظم كتابه.

ولكنّ ميزة سحنون جعلته لا يقنع بالتردّد بين اليقين والظنّ. فجمع كتب "الأسديّة" وتوجّه إلى مصدرها عبد الرحمان بن القاسم العُتقي.

وعرضها عليه مع رغبة في تحقيق قول مالك برجوع ابن القاسم إلى كتبه لا إلى ذاكرته. فكان من أثر هذه المراجعة أنّ عبد الرحمن بن القاسم أقرّ بعض ما كتبه عنه أسد وغيّر بعضه فوثّق سحنون ذلك ورجع بكتابه الذي دوّنه من مدوّنات شيخه وسمّاه "المدوّنة". وكتب ابن القاسم إلى أسد بأنّ عليه أنّ يعتمد ما كتبه سحنون وأخذه عنه.

مكانة المدوّنة في مذهب مالك

كتب تلاميذ مالك وتلاميذهم من بعدهم كتبا كثيرة سجّلت الفقه المالكي، اختصر أغلبها ابن الحاجب في جامع الأمّهات. ولكنّ "المدوّنة" تميّزت بأنهّا هي التي عليها المعوّل.

ثمّ أطلق عليها لفظ "الكتاب" فأصبح علما بالغلبة، فإذا قيل "الكتاب" في مؤلّفات الفقه المالكي انصرف الذّهن إلى المدوّنة كما ينصرف في النحو إلى كتاب سيبويه. وقد انتشر المذهب المالكي بفضل عاملين اثنين:

الأوّل: بكتاب المدوّنة تمّ للمذهب المالكي قوّة الاستقرار والانتشار. إذ أقبل الطلبة على سحنون يأخذون عنه مؤلّفه ويصلون إلى تعميق فهمهم لأنظار مالك بما كان يضفي على دروسه من بيان يمكنّهم من مفاتيح الادراك للمنهج التشريعي العام والتفصيلي. وكثر الاخذون عنه كثرة قلّما حصلت لغيره. كانوا يقولون سحنون أيمن عالم دخل المغرب، عُدّ له نحو سبعمائة رجل ظهروا بصحبته وانتفعوا بمجالسته. أخلص للّه في طلب العلم من بداية أمره كما جاء في وصيّة البهلول بن راشد إلى علي بن زياد. وقد ساعده تعميره ثمانين سنة، وكذلك ولايته للقضاء، فقد قدّم صورة من أفضل صور القضاء في الاسلام إشراقا في العدالة وتقريبا للقضاء بين الناس وتجديدا في الاجراءات.

والاخر: هو ما كان عليه معظم فقهاء المالكيّة من صلاح وتقوى، وبعد عن أصحاب السلطة الذين بنى معظمهم سلطانه على القهر والحكم المطلق الذي لا يتقيّد إلا بما يحقّق له أكبر قدر من النفوذ لاشباع رغباته ونزواته ورغبات حاشيته وأتباعه. فكان للمواقف الشجاعة في قول الحقّ، وعدم التهافت على هؤلاء، والابتعاد عن مجالسهم، أثرها العميق في ثقة العامة بالفقهاء فاطمأنّوا إليهم في دينهم وقلّدوهم في عقائدهم وفي أحكام العبادات والمعاملات.

ولذلك عرف مذهب مالك من الانتشار بين القاعدة الشعبيّة سعة لم يبلغها أيّ مذهب من المذاهب الأخرى في إفريقية.

المذاهب التي عرفتها إفريقية

كان معظم الفقهاء إمّا مالكيّة "مدنيّين" وإمّا حنفيّة "عراقيّين"، ثمّ دخل علماء من الشافعية ومن الظاهريّة كان تأثيرهم محدودا. ولم ينتشر أي منهما انتشارا لافتا للنظر. كما استطاعت بعض فرق الخوارج أن تأخذ مكانها إلى أن شتّت أمرهم سحنون. فقد عدّوا له من أوليّاته أنّه أوّل قاض فرّق أهل البدع من الجامع. وكانوا فيه حلقا من الصفريّة والاباضيّة والمعتزلة، وأدّب جماعة منهم لمخالفة أمره. ولم تكن العلاقة بين علماء المذهب المالكي والمذهب الحنفي علاقة حسنة ULz«eo, وكان للتّعصب أثره في ما حصل.

فمن الأمثلة السخيفة أنّ مجلس القضاء كان بالمسجد الجامع، فلما ولّي سحنون رأى أنّ الخصوم تعلو أصواتهم في المسجد، وبعضهم لا يتأدّب الأدب اللاّئق في بيت الله، كما أنّ جلوس القاضي أمام الناس وضع يحطّ من وقار المنصب، لذلك آثر أن يبني مقصورة في الجامع يتولّى فيها مباشرة مهامّه. وبعد وفاته كان كلّما تولّى خطّة القضاء قاض حنفي هدم المقصورة. فإذا تولّى قاض مالكي أعاد بناءها.

واستمرّ الأمر على هذا النحو طيلة القرن 3هـ/9م فقهاء موالون للسلطان معظمهم على مذهب أبي حنيفة، وفقهاء مستقلّون عن السلطان، معظمهم من المالكيّة، مع تميّز القسم الثاني في القيمة العلميّة وفي ثقة الشعب بهم.

دولة بني عُبيد

استولى العبيديّون على الحكم في إفريقية سنة 296هـ/909م. فكان تحولاّ كبيرا في كل ّ نواحي الحياة السياسية والدينيّة والاجتماعيّة والثقافيّة.

فانتصبت الشيعة بعلمها وعلمائها، وتفكيرها وسلطانها، تعمل على النفاذ إلى عقيدة السكان، ومن ثمة إلى نشر تصوّر جديد للأحكام يؤثّر حتما في سلوكهم وينتهي بالولاء إلى الامام المعصوم في أعلى هرم السلطة.

وقد وقف الفقهاء في مواجهة هذا الخطر الداهم وقفة حازمة فيها كثير من الشجاعة والاخلاص للّه، يثبّتون الناس على التمسّك بالسنّة. فأبو يوسف جبلّة بن حمود بن عبد الرحمان كان ملازما للرباط. فلما دخلت الشيعة القيروان حوّل سكناه إليها. ولمّا سئل قال كنّا نحرس عدوّا بيننا وبينه البحر، والان حلّ العدو بساحتنا، وهو أشدّ علينا من ذلك وكذلك شيخ السنة أبو عبد اللّه محمد بن أبي زيد وأبو الحسن القابسي. قال القاضي عياض في "المدارك" (1 / 26) : "وكان الظهور في دولة بني عبيد لمذهب الكوفيّين لموافقتهم إيّاهم في مسألة التفضيل، فكان فيهم القضاء والرئاسة وتشرّق (تشيّع) منهم قوم تقمّنا لمسراتهم واصطيادا لدنياهم. وأخرجوا أضغانهم على المدنيّين. فجرت على المالكيّة في تلك المدّة محن، ولكنّهم مع ذلك كثير، والعامّة تقتدي بهم، والناشئ فيهم ظاهر إلى أن ضعفت دولة بني عبيد". وقد كان من علماء الحنفيّة أئمة على حظّ وافر من العلم والتقوى وعدم مصانعة السلطة كمحمد بن منيب الأزدي.

الدولة الصنهاجية

ولمّا انتقل العبيديّون إلى مصر سنة 361هـ/971م خلفوا على إفريقية يوسف بن زيري الصنهاجي. ولصنهاجة تعلّق بالتشيّع وولاء لبني عبيد، فاستمرّ الأمر على ما كان عليه إلى أن ولي المعزّ بن باديس، فقطع الدعاء للعبيديّين وأعلن ولاءه لبني العبّاس، وحمل الناس على مذهب مالك. وغير بعيد أنّ يكون قد قصد من قراره هذا كسب قلوب الشعب ليتقوّى بهم على النجاح في مغامرته السياسيّة. وثبت المذهب المالكي جامعا لسكان البلاد موحّدا لهم طيلة القرون التالية إلى دخول الأتراك.

على أنّ ابن خلدون سوّغ الالتزام بالمذهب المالكي في إفريقية وما بعدها بعامل التقارب بين البيئة الحجازيّة والبيئة الافريقيّة، قال: "فالبداوة كانت غالبة على أهل المغرب والأندلس، ولم يكونوا يعانون الحضارة التي لأهل العراق. فكانوا إلى أهل الحجاز أميل لمناسبة البداوة. ولهذا لم يزل المذهب المالكي غضّا عندهم، ولم يأخذه تنقيح الحضارة وتهذيبها كما وقع في غيره من المذاهب" (المقدمة ص 705).

إنّ منهج ابن خلدون في تحكيم منطق الوجود والربط بين الأسباب وما يتولد عنها جدير بالتقدير، ذلك أنّ المذهب المالكي عرفت له مراكز، وقد كان العراق أحدها. فبنو حمّاد والقاضي إسماعيل ومن جاء بعده كانت لهم الرئاسة الفقهيّة في العراق. وولى قضاء بغداد فقهاء مالكيّون، كما تولّوا قضاء الولايات. ثمّ إنّ ظنّ ابن خلدون أنّ أهل إفريقية والأندلس تغلب عليهم البداوة، ولم يكونوا يعانون الحضارة التي لأهل العراق كلام غير مسلّم به، فللعراق باديته وما كان أهل العراق في المستوى الحضاري الذي كان عليه أهل بغداد. والشاعر علي بن الجهم في مدحه للخليفة عندما قدم من البادية ثمّ شعره بعد أنّ رقّقته حضارة عاصمة الخلافة صورة من صور الاختلاف بينها وبين البادية. وما كانت الأندلس والقيروان في القرون الأولى التي ثبت فيها المذهب المالكي، أقلّ حظّا من العراق في التمدّن والتحضّر.

والمذهب المالكي فضلا عن ذلك كالمذهب الحنفي، كلاهما فقد تأثيره في بغداد في عهد الخليفة القادر باللّه الذي عزّز المذهب الشافعي لتضلّعه من الفقه الشافعي وسلطانه. و"المدوّنة" ذاتها هي أسئلة على المنهج العراقي، كتبت الأسئلة في العراق وفازت بالأجوبة عن المشاكلّ المسؤول عنها بفقه حجازي.

ولعلّ انتشار المذهب يعود إلى السلطة السياسية التي تؤيده وتشدّ من أزره أو تعوقه وتقاومه، ثمّ إلى حال الذين يدعون إليه ويثبتونه، فبمقدار ما لهم من سعة في المدارك وقدرة على التأثير واستقامة في السلوك، وثقة العامة بهم يتّسع أو يضيق عدد أتباعه ويقوى تأثيره أو يضعف.

أثر فقهاء إفريقية في المذهب المالكي

كان فقهاء إفريقية إحدى الركائز التي يقوم عليها صرح الفقه المالكي بعد إمامه عبر التاريخ.

فإذا اقتصرنا على الفقهاء الذين بقيت آثارهم مدونة في كتبهم والتي كان لها من القوّة ما جعلها من المراجع التي يوثّق بها العلماء ما يثبتونه في تآليفهم ويجرون على طريقته، فإنّنا نجد شخصيّات لاّمعة، أبرزها:

  • الامام أبو سعيد عبد السلام سحنون عمدة المذهب المالكي بلا منازع على ما حرّره في "المدوّنة".
  • الشيخ محمد بن أبي زيد، فكتابه "الرسالة" عمّ به النفع، واهتمّ معاصروه ومن جاء بعدهم مشرقا ومغربا بشرحه، ونهج فيه منهجا فريدا بعنايته بالطريقة العملية، وبمزجه بين فقه الظاهر وفقه الباطن. كما أنّ كتابه "النوادر والزيادات" هو مدوّنة الثروة الفقهية بعد تطوّرها. - الامام أبو الحسن علي بن محمد الربعي المعروف باللخمي في "التبصرة" التي تقدّم صورة لشمول الشريعة. والمذهب المالكي يحقّق هذا المبدأ، إمّا بما نصّ عليه الفقهاء أو بالتخريج على أقوالهم، وجمع النظائر المتشابهة في التصوّر بما يترتّب على ذلك من وحدة الأحكام.
  • الامام أبو عبد الله محمد المازري، فشرحه على "التلقين" سلك فيه طريقة جديدة اعتمدت ربط الفروع بالأصول والمقارنة بين المذهب المالكي والمذاهب الأخرى، موشّحا فقهه بمقاصد الشريعة، وبه تأثّر ابن رشد في بداية المجتهد، ثم انقطع السند، لانحلال العالم الاسلامي بفقدان الأمن وانتشار الفتن.
  • الامام أبو عبد الله محمد بن عرفة الورغمي الذي عمل على استقراء أقوال المذهب وجمعها في "مختصره" وعلى ضبط المفاهيم الفقهيّة بتعريفات بلغت غاية الدقّة جمعا ومنعا وعليه عوّل كلّ من جاء بعده.
  • الامام الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور الذي تلافى تهيّب الفقهاء للاجتهاد بدعوته إلى الاجتهاد الجماعي. وقد حوّل الأنظار إلى تحتّم الانتهاء بالفقه إلى قضايا يقينية تكون الحكم على المظنون من ناحية وتكون هادية للفقيه في مسار بحثه.