القديس أوغسطينوس

من الموسوعة التونسية
نسخة 09:09، 6 مارس 2017 للمستخدم Bhikma (نقاش | مساهمات)

(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى: تصفح، ابحث
تمثال القديس أوغسطينوس / كنيسة القديس أوغسطينوس بباريس

[354 - 430م]

إن مكانة القديس أوغسطينوس عند أهل المغرب، لمّا كانت المسيحية دينهم واللاتينية لغتهم، كمكانة ابن خلدون عندنا، بعد أن ساد الاسلام وانتشرت اللغة العربية. ففي موفى القرن الرابع عشر بعد الميلاد، حين بدأت حضارة العالم الاسلامي تتراجع، برزت عبقرية ابن خلدون، وكانت "مقدمته" خير دليل على ثراء الثقافة العربية، ولم تزل تأملاته في الأحداث وفي المغامرة البشريّة، جنوب الأبيض المتوسط، محل اهتمام المفكرين وبحوثهم بمختلف اللغات. وفي موفى القرن الرابع بعد الميلاد، حين أشرفت كذلك حضارة العالم الروماني على الزوال، سطع نورها مجددا في ولايات المغرب بفضل القديس أوغُسطينوس، وأشعت على أوروبا فأضاءت ظلمات القرون الوسطى، ووهبت الغرب المسيحي قاعدة نظرية متينة للعقائد المسيحية، وامتدادا للثقافة ولتراثها العظيم.

نشأ أورليوس أوغسطينوس (aurelius augutinus) وقضى الجزء الأوفر من حياته وتوفي في غرب ولاية زوجيتانا (zeugitana)، على مقربة من حدود ولاية نوميديا (numidia)، حيث حافظ السكان طيلة العهد الروماني على اللغتين اللوبية والبونية. فلا غرابة أن تتجمع في شخصه العناصر الأساسية التي امتزجت وتآلفت في ثقافة سكان موطنه في القرن الرابع. فهو لوبي إفريقي، بمفهوم هذا اللفظ خلال العهد الروماني وبدليل اسم أمه مونيقا (monica) ومصدره اللوبي مون (monn). وهو قرطاجي بوني، كاسم ابنه أديوداتوس (adeodatus) الذي أصبح متداولا في ولايات المغرب والذي كان، كسائر الأسماء اللاتينية المنقولة من اللغة البونية، مجرد نقل للاسم البوني يَتَنبَعْل أو مُتُنبعْل. وهو كذلك إفريقي روماني، بدليل اسمه ولقبه اللاتينيين أورليوس وأوغسطينُوس.

ولد بتغاست (Thagaste) وهي مدينة صغيرة في موقع مدينة سوق أهراس، يوم 13 نوفمبر سنة 354م. وفي 28 أوت سنة 430م، توفي بهبُونا (hippona) وهي المدينة القديمة التي بنيت على أنقاضها مدينة عنابة. وتزامنت وفاته فيها، وهو على رأس كنيستها، مع محاصرة الوندال لها في زحفهم على بلاد المغرب، بعد انطلاقهم من بلاد وندلوسيا (الأندلس) التي استقروا بها زمنا قصيرا ووهبوها اسمهم على الدّوام. وبوصول الوندال إلى تخوم زوجيتانا وتأهبهم للانقضاض على قرطاج، تمكنت القبائل الجرمانية من الاستيلاء على كافة ولايات الغرب الروماني، وأتت على الولاية الأخيرة التي حافظت نسبيّا، رغم توالي الأزمات منذ أواخر القرن الرابع، على أمنها وازدهارها.

لقد تواصل، في بداية القرن الخامس، النشاط الاقتصادي بالولايات الإفريقية الشرقية - زوجيتانا والمزاق (byzacena) ونوميديا، رغم استيلاء قبائل الوزيقُوط بقيادة ملكهم ألاريق (alaric) على روما سنة 410، وإقدامهم على نهبها. فلم ينقطع إنتاج الحبوب والزياتين، واشتغلت معاصر الزيت، ولم تتوقف حركة البناء والترميم في المدن والقرى الكثيرة العدد. لكن الكنيسة مسكت في الدوائر البلدية بزمام النفوذ والمبادرة. فقام أسقف المدينة أو القرية مقام الحكام البلديين، وأضحت الكنيسة الكاتدرائية وفروعها الاجتماعية والخيرية لمجلس المدينة وللمصالح البلدية بديلا، وانتشرت المسيحية في جميع الأوساط، واستهوت أوساط الأدباء والمحامين والأساتذة الأفارقة، فاكتسب الأدب اللاتيني بابا أدبيا جديدا نشأ في قرطاج، ثم انتشر في سائر الأمصار الرومانية معضا الأدب اليوناني الذي انفرد من قبل في الذود عن المسيحية، والنضال في سبيل معتقداتها. وذاع مند نهاية القرن الثاني صيت ترتوليانوس (Tertullianus) ومينوقيوس فيليكس (Minucius Felix)K وتعززت بفضلهما حركة الدعوة إلى المسيحية والرد على الوثنيين، كما ذاع من بعدهما صيت القديس قيبريانُوس (Cyprianus) ولقطنسيوس (Lactantius) وأرنبيوس، (Arnobius) ونشرت كتبهم مبشرة بكتب أوغسطينوس وبإشعاعه على الفكر المسيحي إلى اليوم.

قضى أوغسطينوس طفولته بتغاست، وبها لقنه معلم البلدة ثم أستاذ اللغة والقواعد اللغوية القراءة والكتابة، وحفظ قصائد هومروس (Homeros) وورجليوس (Virgilius) وترنسيوس (Terentius)K وشرح نصوص شيشرون (Cicero) وسلوستيوس (Sallustius). فحذق "فن الكلام" واكتسب "الفصاحة الضرورية لمن أراد إقناع الناس وعرض أفكاره عليهم". وعند بلوغه الخامسة عشرة من عمره، اضطر إلى السفر إلى مدينة مادوروس (Madauros) المجاورة، لافتقار بلدته إلى أستاذ يلقن البلاغة في اللغتين اللاتينية واليونانية في المرحلة الثالثة من التعليم. لكن مستوى تعليم اللغة اليونانية، في تلك المدينة وفي القرن الرابع، لم يحافظ على المكانة التي كان عليها في القرن الثاني الذي أنجبت فيه مادوروس فيلسوفها وأديبها أبوليوس (apuleius). فلم يكسب أوغسطينوس من اللغة اليونانية، التي لم تزل لغة كبار المثقفين والعلماء في الامبراطورية الرومانية إلا القليل، وأضحى في حاجة ماسة طيلة حياته إلى الاجتهاد في كل مرة لترجمة أمهات النصوص اليونانية.

وبعد انتهاء الدراسة بمادوروس، رغب كما جرت العادة، في تتويج تكوينه بالالتحاق بقرطاج والتتلمذ إلى مشاهير الأساتذة. لكن أباه بطريقيوس (patricus) لم يقدر على توفير المال اللازم، رغم انتمائه إلى الفئة الاجتماعية المتوسطة التي كانت تحتكر، في بلدتها الصغيرة، مناصب الحكم البلدي. لكنها كانت غير قادرة على مضاهاة مثيلاتها في المدن الكبيرة أو حتى المتوسطة كمدينة مادوروس، حيث سمح ثراء أولياء أبوليوس بتمكين ابنهم من شد الرحال إلى قرطاج عاصمة الولاية، ثم إلى بلاد اليونان لتتويج تكوينه والتتلمذ لمشاهير الفلاسفة والعلماء اليونان. فاضطر الشاب أوغسطينوس إلى قضاء سنة 369 - 370 في الفراغ واللهو. وقد خلفت تلك السنة في نفسه أسوأ الذكريات. ذلك أن تعلق أمه المسيحية المتزمتة به كان كبيرا، فكانت تكيل له الوعظ، وكان ضميره يكيل له التأنيب، كلما فشل في كبح نزوات البلوغ والجنس وهو في سن المراهقة، أو كلما عبث مع أترابه واقترف ما كان مناقضا لوعظ أمه، واستحق تأنيبها. وأمّا أبوه الذي لم يعتنق المسيحية وتشبث بوثنيته، فلم يكن له تأثير كبير فيه، ولم تكن علاقته به متينة، رغم تحمله الأتعاب والتضحيات لجمع المال الضروري لكي يسافر ابنه إلى قرطاج في السنة الموالية، ويواصل بها دراسته.

غادر أوغسطينوس بلدته الصغيرة الهادئة وحلّ بقرطاج، عاصمة العواصم الافريقية، وقد استرجعت منذ أن استعادت عمرانها في نهاية القرن الأول قبل الميلاد مرتبتها بين الأمصار المتوسطية الكبرى، والشهرة التي كانت عليها في عهد الدولة القرطاجية. فبهرته المباني الفخمة، وأدهشه نسق الحياة، وانجر إلى اكتشاف عروض المسرح وسباق الخيل، وشاهد من أعلى المدارج المحيطة بحلبة المبارزة والاقتتال صولات المتبارزين ومجابهتهم للوحوش الضارية، وأدهشته كذلك روعة المواكب الدينية عند الطواف بأصنام الآلهة، كما انجر أيضا إلى مشاركة زملائه في بعض التجاوزات، رغم استنكافه من أنماط السلوك العنيفة والتصرفات الشائنة. وقد خلفت ذكريات شبابه الطلابي فيما بعد عند الأسقف المسن والشيخ الوقور أسوأ الذكريات، وخاصة منها ذكريات استسلامه أحيانا إلى ضغوط الجنس والعواطف الجامحة في سن المراهقة المنحرفة والنزوات. فشبه في كتاب "الاعترافات" (Confessions) جموح العواطف عند غليان القدر الممتلئة فجورا وفسقا. لكنّه في الحقيقة لم ينهمك قط في اللهو والترف، بل اصطحب قرينة وفيّة وقضى بجانبها ما لا يقل عن 15 سنة، وهي التي أنجبت ابنه الوحيد أديوداتوس. وأما جل أوقاته فقد قضاها في الدراسة التي تواصلت ثلاثة أعوام، وفي مطالعة أمهات الكتب. وصادف أن قرأ كتابا لشيشرون بعنوان هرتنسيوس (Hortensius)، فاكتشف الفلسفة والنظريات الفكرية، واهتز إعجابا بها، واقترن إعجابه بميل شديد إلى البحث الفلسفي، وانشرحت نفسه كلما اكتشف منهجا عقلانيا جديدا أو طريفا، وكلما تقدم بحثه وازدادت معرفته بالتراث الفلسفي اليوناني.

وكان الاهتمام، في نهاية القرن الرابع، بالنظريات الفكريّة والمذاهب الفلسفيّة مقترنا بالاهتمام بدين المسيح الذي فرض نفسه على المفكرين. وقد نقلت كتبه المقدسة إلى اللغة اللاتينية وأصبحت متداولة بين الناس. وأثارت الكتب الأدبية في تبرير المسيحية والدفاع عنها والردّ على الوثنيّين جدالا كبيرا بين المثقفين، وتناول الكتاب المسيحيون، أمثال الإفريقيّين لقطنسيوس وأرنبيوس، موضوع المقارنة بين المذاهب الفلسفية وتعاليم الدين المسيحي. ومما يلاحظ أن المسيح المصلوب لم يكن، في ذلك العهد، شعارا متداولا بين المسحيين. بل كانوا يرون خاصة في المسيح رمزا لعظمة اللّه وللكلمة الإلاهيّة، وكانت اللوحات والنّصب المسيحية تصوره واعظا حوارييه، هاديا إلى سبيل الحكمة، كالفيلسوف المرشد بين جموع أتباعه وطلبته. ولذا فإنّ الطالب أوغسطينوس لم يقتصر على مطالعة كتب الفلسفة، بل تناول أيضا كتاب "العهد القديم". لكن قراءة هذا الكتاب المقدس أثارت في نفسه الاشمئزاز والنفور بدلا عن الاهتمام والمتعة وصدمته اللّغة الفضّة المنقولة حرفيا من العبرية إلى اليونانية ثم إلى اللاتينية، واشمأزّ من قساوة الأوصاف حينا، ومن فحش الرواية حينا آخر. فانصرف عن المسيحية وعن كتبها المقدسة. ثم صادف أنه اتصل إثر ذلك بدعاة المانوية، فلم يلبث أن توسم خيرا في دعوتهم، وبدا له دينهم شبيها بالمذاهب الفلسفية، لاعتماده قاعدة منطقية وعقلانية. فأصبح يتردد على الاجتماعات السرية التي كانت تلتئم بانتظام لقراءة تعاليم ماني الواردة في الرسالة التأسيسيّة، فينشرح صدره كلما أنصت إلى ترتيلها، ويغرق في التفكير في معانيها وفي أبعاد هذا الدّين الجديد الذي كان يطمح إلى إدراك الشمولية ويروم الالمام بما جاءت به الأديان من قبل ليوفق بينها، ويتمّ ما لم يقدر على إتمامه دين بوذا، ويشرح ما قاله زرادشت، ويكيف رسالة الأناجيل التي رواها القديسون الأربعة. وأما السبب الرئيس في إقباله على المانوية، رغم المعارضة التي كانت تؤججها في نفوس الوثنيين والمسيحيّين على حدّ سواء، فهو في نظره جوابها المنطقي عن السؤال الذي ما فتئ يخامر باله منذ أن دبّ إليه الشعور بالإثم في فترة المراهقة وحمله على التساؤل، وهو في حيرة كبيرة: هل اقتراف الإثم جبلة في الانسان؟ لقد جاء في "الرسالة التأسيسية" أن صراعا أزليّا يدور في الكون بين الخير والشر، بين "ملكوت النّور" وهو الخير بذاته، و"ملكوت الظلّمات"، وهو الشرّ بذاته، وجاء أنّ هذا الصراع يدور في البيئة وفي الوسط الذي يعيش فيه الانسان، في محيطه الطبيعي والاجتماعي. كما يدور كذلك في قلب الانسان الذي تتلاعب به الأهواء والهواجس، والشهوات والعواطف. فالإنسان مخلوق شقيّ، وقد بلغ الأمر بالكاتب المسيحي أونبيوس، أصيل مدينة Sicca Veneria (الكاف) ، عندما تبين له ذلك وأثار في نفسه الحيرة والذعر، أن ادّعى أنّ الله، وهو الخير بذاته، غنيّ عن أن يحمّل تبعة خلق هذا الكائن الشقيّ!

اقتنع أوغسطينوس بما جاء في الرسالة المانوية، وامتثل لأحكامها، والتزم بالعفة والتقشف... لكنه لم يلبث أن استسلم بعد مدة قصيرة إلى الشك من جديد. كان ذلك لما حل بقرطاج قادما من مدينة ميلاو (Milev) بالقرب من قسنطينة، وقد سمع من الأسقف المانوي فاستوس (Faustus) الذي ذاع صيته وأصبح من أساطين المانوية. لكنه لم يجد في كلامه ما ينم عن سعة الثقافة وحصافة الرأي، بل رآه مقتصرا على الأمر بالايمان والتشبث بالعقيدة، رافضا مقارعة الخصم بالحجة والمنطق، عاجزا عن استبدال صيغة الأمر بطريقة الحوار والاقناع وتقديم الدليل، مثله في ذلك مثل الدعاة إلى المسيحية من العوام، في قرية تغاست التي عاد إليها أوغسطينوس منذ أن أنهى دراسته في سنة 375م. لكنه لم يمكث بها إلا سنة واحدة، ثم قفل راجعا إلى قرطاج حيث شرع في تدريس اللّغة والأدب والبلاغة، والشك ما فتئ يخامره في صحة النظرية المانوية. ولم يقف على ضعف حجتها وقصور برهانها إلا بعد أن شاخ وأصبح أسقفا كاثوليكيّا مسموع الكلمة. فأدرك عند ذلك أنّ "ملكوت الظلّمات" يتمتّع وحده، في نظر المانويّين، بالقوة والقدرة على المبادرة. وهو المهاجم دائما ل"ملكوت الخير" الذي يعجز عن الحد من اجتياح الشر وانتشاره، ولا قدرة له إلاّ على الدفاع السلبي. ذلك أنّه لا يستطيع أن يتنكر لطبيعته الطيبة الكريمة، ولكنها العاجزة أيضا عن الردّ الفاعل. فالمسيح المانوي ضعيف قاصر، لا قدرة له على صد الشر، ولا قدرة له إلاّ على الصبر وعلى تحمل الألم.

قضى أوغسطينوس عشر سنين بقرطاج ثم شد الرّحال، في سنة 382م إلى روما كعبة العالم الروماني، والأمل يحدوه في الظفر بوظيف مرموق أو حتّى الاكتفاء بتقاضي أجر يفوق ما اعتاد تقاضيه من طلبته في قرطاج. وكانت تُغذّي هذا الأمل الأخبار الواردة عليه ممن التحق بالعاصمة الرومانية من رفاقه في الدراسة، أمثال أليبيوس (alypius)، صديقه الميسور وقرينه منذ الصغر بقرية تغاست. ولم يخب ظنه بعد سنة صعبة قضاها في التدريس بروما، إذ أتاه العون من أصدقائه المانويّين. لقد تدخل لفائدته بعض أتباعهم من حاشية سيماقوس (symmahccus)، حاكم روما وممثل الامبراطور على رأسها، وزعيم الأسر النبيلة التي تشبثت بوثنيتها في مجلس الشيوخ الروماني، وصمدت رغم اعتناق الامبراطور وأغلبية سكان الامبراطوريّة الدين المسيحي. فلبّى سيماقوس الطلب، وأشار على رئاسة كتبة الامبراطور، الذي كان مستقرا بمدينة ميلانو، بانتداب أوغسطينوس ليشغل في البلاط خطة أستاذ في الأدب والبلاغة. فأصبح يعيش في ميلانو، منذ سنة 384م، منهمكا في مطالعة الكتب الأدبيّة والفلسفيّة ودراستها، بين الشعراء والفلاسفة والأدباء المتهافتين على البلاط الامبراطوري. وعاودته الحيرة التي تناول فيها شيشرون نظريات المدرسة الشكية وآراء الفيلسوف اليوناني قرنياداس (karneades)، عالم المنطق وباعث الأكاديمية الجديدة والنظريّة الاحتماليّة التي اشتهرت خلال القرن الثاني قبل الميلاد. ثمّ صادف ذات يوم أن استمع إلى أمبروزيوس (ambrosuis)K أسقف ميلانو وسند الكنيسة الكاثوليكية في تلك الفترة، فأعجب بحذقه للّغة الإفريقية، وبسعة معارفه وحسن اطلاعه على النظريات الفلسفية وخاصة على كتب أفلاطون، كما أعجب بقوة شخصيته، وبتركه للمناصب الراقية التي تقلب فيها بحكم انتسابه إلى أسرة نبيلة وعريقة، قريبة من أسرة خصمه الوثني سيماقوس. ولاحظت مونيقا إعجاب ابنها بالأسقف، وقد ضاقت ذرعا بغياب ابنها، والتحقت به بميلانو وأصبحت تتردد على الكنيسة. فاستبشرت باهتمامه بالدين المسيحي، وطلبت منه بإلحاح أن يلتحق بزمرة المستمعين إلى الدروس التي كان أمبروزيوس يلقيها لتعريف المتنصرين بأركان الدين الذي ارتضوه. وقد لبّى طلبها لما لاحظه في كلام الأسقف من تصور طريف ونظرة إلى المسيحيّة لم يعهد أوغسطينوس ثراءها وعمقها من قبل. كما رأى في الاستماع إلى تلك الدروس فرصة للاقتراب من شخصية فذة جمعت بين شهرة النسب وعنفوان الكنيسة، ووقف للامبراطور وقفة الند للند كلما أجحف في معاملة رجال الدين. ومما فتح له آفاقا جديدة واهتم به على وجه الخصوص ما جاء في دروس الأسقف من شرح وتأويل روحاني لنصوص كتاب العهد القديم التي كانت، من قبل، تُثير في نفسه النفور والاشمئزاز. فاتضحت له فيها أبعاد لم تخطر على باله، وابتهج بالصلة التي أحدثها الأسقف بين نص الكتاب المقدس ونظريات الفلسفة الروحانية، وخاصة منها نظرية الأفلاطونية المحدثة. وكان كلام الأسقف يثير كذلك في نفس مونيقا الابتهاج والغبطة. لكنها لاحظت مع ذلك أن رجال الكنيسة في ميلانو لا يعبؤون بما كانت تعتبره المجموعة المسيحية في تغاست فرضا واجبا، وهو الصوم في يوم السبت. فألحت على ابنها حتّى يسأل الأسقف عن سبب ذلك. فأجابها الأسقف:"عندما أذهب إلى روما، ألتزم بالصوم يوم السبت. أما إذا كنت بميلانو، فإنّى لا أصوم. فافعل ما أفعله، ومهما زرت كنيسة، ساير عرفها وعاداتها حتّى لا تغضب أنت ولا تُغضب الناس".

وبعد أن أقامت مونيقا مدة قصيرة بميلانو، طلبت من ابنها أن يفارق القرينة التي لازمته طيلة سنين عدّة، ريثما تختار له زوجة كاثوليكيّة من ميلانو ومن وسط غني يليق بمقامه. فامتثل وقفلت صاحبته الوفيّة المحتشمة راجعة إلى الولاية الإفريقية، وقد آلت على نفسها ألا تقترن بعد أوغسطينوس برجل آخر، تقيّدا بما كانت تلتزم به كل مسيحية عند زواجها. وصار يتردّد على الكنيسة، لكنه اغتنم كذلك فرصة إقامته بميلانو لجني ما أمكنه من الفوائد بمجاورة المثقّفين والفلاسفة. وكان منهمكا أيضا، مع عدد من الرفاق والزملاء الأفارقة، في دراسة كتب الفيلسوفين بلوتينوس (plotinus - أفلوطين) وبرفريوس (porphuios) في شرح نظريات أفلاطون وتأويلها. لكن قصوره عن مطالعة الكتب اليونانيّة بسهولة دفعه إلى الاستنجاد دوما بالكتب التي نقل فيها ماريوس وقتورنوس (marius victorinus) تآليف هذين الفيلسوفين إلى اللغة اللاتينية، وشرحها شرحا فلسفيّا محكما. واهتم خاصة بكتاب لبلوتينوس بعنوان أنياداس (enneades، التّاسعات) ، وذلك لما اكتشفه فيه من نقض وتفنيد للنظرية المادية التي اعتبرت الكون يتألّف من عناصر ماديّة، وأنّ العنصر الإلاهي أحد هذه العناصر الكثيرة المختلفة. لقد أكدت نظرية بلوتينوس عكس ذلك، إذ اعتبرت أن الإلاهيات قوة موحدة مستقلة عن الكون، في عالم روحي منفصل. فهي قوة الخير، وهي أساس الكون وأساس الفضاء وأساس الزمان. وهي الواحد الفعال القادر المبادر دوما، وليست كما ذهب إليه المانويون عنصرا سلبيا، عاجزا عن المبادرة، ولا قدرة له على دحر الشرّ. فالواحد الإلاهي هو الذي يكسب المادة معناها، وفي الابتعاد عنه يكمن الشرّ، لأن الابتعاد عنه يعني فقدان الحيوية والعظمة التي يبعثها في الكائنات. فالواحد هو إلاه مفارق،يكيف كونا لا حدّ له، ويكيف تباينه وفوارقه.وما الانسان إلا ظاهرة ضئيلة وحقيرة من ظواهر هذا الكون. وإنّ مشيئة هذا الالاه غامضة خفية، لا قدرة لفكر الانسان وفهمه على إدراكها. ولم يقتصر أوغسطينوس على دراسة تلك الكتب الفلسفية وإمعان التفكير في مختلف النظريات، بل تأثر أيضا بكلام أمبروزيوس واهتم بالكتب المقدسة، وخاصة بالكتب التي وضعها الحواري باولوس (Paulus). لكنه حمّل نفسه ما لا قدرة لها عليه، وبلغ به الإرهاق أن امتلكت فكره بلبلة واضطراب شديدان إثر قدوم زائر إفريقي زاد في انشغال باله بحديث عن حياة الرّهبان وعن المثل العليا التي ينشدها أهل النّسك والزّهد. وعند ذلك حدثت حادثة روى تفاصيلها في كتاب "الاعترافات": بينما كان في حديقة منزله بميلانو، صحبة صديقه أليبيوس، مضطرب الفكر متوتر الأعصاب، استمع إلى صوت طفل في بيت الجوار يقرأ كتاب الحواري باولوس ويردد مرتّلا: "خذْ واقرأ"، فأسرع إلى بيته وفتح كتاب الحواري معتبرا أنّ في ترنيمة الطفل هدى من الله، وقرأ أوّل سورة تحت أنظاره:"لتسلكنّ سلوكا واضحا كالنّهار، لا بالقصوف والسكر، لا بالمضاجع والعهر، ولا بالخصام والحسد. بل ألبسوا الربّ يسوع المسيح ولا تهتموا بأجسادكم لقضاء شهواتها". اطمأنّت نفسه قليلا، لكنّ الإرهاق الذي ناله قادَه بسرعة إلى انهيار عصبي وألم في صدره أوجبا الركون إلى الراحة. فاغتنم الفرصة التي أتاحتها عطلة الخريف للرّحيل عن ميلانو، واختيار محطة قسقياقم (Cassiciacum)، على مشارف جبال الآلب، لقضاء فترة النّقاهة والظّفر بالخلوة التي كان ينشدها دوما أهل الفكر ومعشر المثقفين من النبلاء، طيلة العهد الروماني. وربّما يكون قد نسج بذلك على منوال الفيلسوف برفريوس الذي اختلى بصقلية، عندما انتابه انهيار عصبيّ مماثل. ومكث بقسقياقم فترة طويلة، قضاها في مطالعة النصوص الأدبية مهتما خاصة بشعر ورجليوس، وكذلك في قراءة النصوص الفلسفية وشرحها مع رفاقه، كما عكف على الذّكر والدعاء وترتيل قصائد "سفر المزامير" (Livre des Psaumes) مع رفاقه وأمّه التي استبشرت خيرا بقرب اعتناقه دين المسيح، منذ وقوع حادثة الحديقة التي رأت في سرها هداية من الله. وعكف كذلك على الكتابة وتحرير بحوث اختار لها الشكل الحواري المألوف في الدراسات الفلسفيّة. ولم ينس فضل رومنيانوس (Romanianus) عليه منذ زمن الدراسة - وهو أكبر رجالات تغاست جاها وثروة - فأهداه كتابه الأوّل. ومن بين ما ألّف في تلك الخلوة كتاب "المناجاة" (Soliloquia) الذي استهله بالدعاء، ودوّن فيه ثمرة تأملاته فيما يخالج صدره، متفحصا خبايا نفسه تفحّص المتشائم، مسلطا عقله على ضميره في حوار متواصل، لاستئصال ما انطوى عليه من ضعف ووهن. ثم عاد إلى ميلانو، والتحق بكنيسة أمبروزيوس حيث أشرف الأسقف بنفسه على تعميده وتعميد ابنه أديوداتوس وصديقه أليبيوس.

لم يفته، بعد اعتناقه دين المسيح، أنّ الأساقفة ورجال الدين وعموم المسيحيّين صنفان، صنف صادق العقيدة لكنه دغمائي، ساذج الايمان، كثير التعلّق بعبادة بقايا رفات القديّسين، شديد التقيد بالعادات والطقوس الدينية. وصنف مثقّف، جمع بين الايمان وإعمال الفكر، وهو الصنف الذي استهواه وأقنعه بالالتحاق بالكنيسة. فجعل أوغسطينوس أسقف ميلانو أمبروزيوس أسوة له وعكف، منذ تعميده وبعد رجوعه إلى إفريقيا، على البحث والتفكير في التناقض بين العقل والدين، بين التفكير الديني والفلسفة العقلانية، بين الثقافة الإنسانية التي سادت طيلة العهد الروماني، والثقافة الإلاهية التي يطالب بها المسيحيون. واستطاع شيئا فشيئا تجاوز هذا التّناقض، وتوصل إلى تصور يؤلف بين الإلاهي والإنساني، بين الفكر المسيحي من ناحية، والثقافة القديمة من ناحية أخرى. ولم يتسنّ له ذلك إلاّ بفضل عبقريته، وقدرته الفائقة على التفكير العقلاني والتّعامل مع النظريات الفلسفيّة، وقدرته كذلك على التفكير الديني والتعامل مع اللاعقلانيّ. وفي تلك العبقرية يكمن سر التأليف البديع الذي لم ينبن عليه انتماؤه إلى دين المسيح انتماء شخصيّا فحسب، بل انبنت عليه كذلك المسيحيّة قاطبة. فبفضل نظرة أوغسطينوس وقراءاته الطريفة للأفلاطونيّة المحدثة، أمكن له توظيف الفكر الأفلاطونيّ الحديث توظيفا مسيحيا، وبناء أساس الغرب المسيحي على الفكر اليوناني واللاتيني والافريقي القديم.ويجب أن نؤكّد الجانب الافريقي القديم، لأنه من الغريب أن يتناسى بعض العلماء وأغلبيّة المثقفين في الغرب المسيحي، وفي المغرب والمشرق الاسلامي كذلك، أنّ أوغسطينوس ولد وترعرع وتعلم وتثقف في إفريقيا، بين قرية تغاست ومدينة مادوروس وجامعة قرطاج، عاصمة الولايات الإفريقيّة، وفكّر وألّف في هيبونا، طيلة أربعين سنة، متوّجا سلسلة الأدباء الأفارقة المسيحيين.

وقد اقترن اعتناق أوغسطينوس ورفاقه المسيحية باهتمام شديد بما بلغهم من أخبار النسك، فأجمعوا على ممارسة حياة الرهبان في مسقط رأسهم بتغاست. لكن مكسيموس (maximus), الذي اغتصب آنذاك الحكم الإمبراطوري أمر بغلق ميناء أوستيا وبإيقاف الملاحة. فأقامت الجماعة بمنزل من منازل المدينة، وفيه حدثت الحادثة الشهّيرة التي رواها أوغسطينوس في كتاب "الاعترافات": بينما كان متّكئا بجانب أمّه على شرفة نافذة مطلّة على الجنان، امتلكتهما نشوة روحيّة ساحرة. ولم تمض بعد ذلك إلاّ أيام قلائل حتّى توفّيت مونيقا، فلم تهدأ لفقدانها لوعته وكتب، وهو شيخ مسنّ: "عندما فقدت فيها مواساتي، أثخن الجرح روحي وتمزّقت حياتي، حياتي التي امتزجت بحياتها حتّى اختلطتا وأصبحتا حياة واحدة". بعد العودة إلى إفريقيا، استقرت الجماعة بالبيت الذي ورثه أوغسطينوس عن والديه في تغاست، لممارسة النّسك و"خدمة اللّه". لكنّ الانصراف عن ضغوط الحياة الاجتماعية وعن قضايا المدينة كان عسيرا، بل مستحيلا. فكان لا بدّ لأليبيوس من أن يستجيب لطلب ملح دعاه إلى الاضطلاع بأسقفيّة تغاست، وهو قريب رومنيانوس وخلف أسرة وجيهة مبوأة للاضطلاع، جيلا بعد جيل، بالحكم البلدي وبالمهام المدنية التي كان يضطلع بها حكّام المدينة ومجلس وجهائها، قبل أن تهيمن عليها الكينسة المسيحية في نهاية القرن الرابع، ويحل الأسقف والحكم الديني محل الحكم المدنّي. كما كان لا بد لأوغسطينوس أن يستجيب لطلبات مختلفة، صادرة عن رجال الكنيسة وعن غيرهم، سواء من سكان مدينته أو من سكان المدن والقرى المجاورة. وكان عليه أن يتدخّل بنفسه لمجابهة المانويّين، وهو أدرى النّاس بدينهم. وزاره ذات يوم أحد أصدقائه بهبونا، فالتفّ الناس من حوله وألحوا على أسقفهم حتّى يُلحقه بقساوسة مدينتهم العريقة التي كانت بمثابة العاصمة الثانية لولاية إفريقيا. فقبل أوغسطينوس مرغما، وجمع في تلك الفترة بين صفة الراهب وصفة القس، وبين حياة الفيلسوف المتصوّف المستغرق في عالم الروحانيات، وحياة المناضل في سبيل الكنيسة الكاثوليكيّة بالقلم وبالعمل الميداني. وتوالت، من سنة 392 إلى سنة 394، المقالات التهجميّة على المانويّة، وجلسات الجدال مع المانويّين للرد عليهم ومقارعة الحجّة بالحجّة، وعند وفاة أسقف هبونا، أجمع الناس على انتخابه خلفا له.

قضّى أيّامه، منذ أن تولى رئاسة الأسقفية، مباشرا لمهامه الدينيّة والاجتماعية، ومناضلا في سبيل الكاثولكيّة. لكنه لم ينقطع قط عن البحث والكتابة بل شرع، منذ سنة 400م، في إعداد كتاب "الاعترافات" الذي روى فيه أطوار حياته وتجاربه، واصفا العناء الذي كابدته نفسه في بحثها الشاق الطويل عن الحقيقة حتّى ظفرت بالايمان وهداها اللّه إلى المسيحيّة. ولا يختلف نصّ "الاعترافات" في ظاهره عن النصوص الأفلاطونيّة المحدثة: فهو دعاء وابتهال إلى اللّه كي ينير قلب الانسان وييسر معراجه العسير من الظلمات إلى النور. لكنه سرعان ما يتحول إلى تأمل عميق وتفحص دقيق لأغوار الضمير ومنعرجاته، ويؤول إلى دعوة الانسان دعوة ملحة كي يمعن النظر في أسرار حياته الباطنيّة. يقول أوغسطينوس: "يبتهج النّاس عند رؤية الجبال الشاهقة، والأمواج العملاقة والمساحات التي تنساب فيها مياه الأنهار، ويُذهلهم مدار الأجرام السماوية ومنعرجات المحيط، لكنهم يهملون النظر في باطنهم، ولا يعجبون بكنوزه".

كانت فترات الحياة الباطنيّة رغما عنه قصيرة، لانشغاله بشؤون الأسقفية وبتلبية الطلبات الواردة عليه من سكان دائرته الترابية أو من سكان دوائر الأسقفيات الأخرى. فكان يقضي يومه في الجواب شفويا عن أسئلة مخاطبيه من أعلى المنبر، أو في جلسات النقاش ومجابهة خصوم الكاثوليكيّة، كما كان يجيب يوميا مراسليه وهم كثيرون، منهم البابا، والأسقف، والقسّ، والرّاهب، والمسيحي الكاثوليكي أو الدّوناتي (أتباع هرطقة ظهرت آنذاك في إفريقيا) والمانوي والوثنّي. وقد فاق عددهم المائة والخمسين، بقطع النظر عن رسائله المفقودة وعمّا اكتشف منها في السنين الأخيرة. وقد تقتصر الرسالة على كلمة قصيرة، أو تطول حتّى تبلغ حجم الكتاب! وكان مع ذلك يمارس القضاء، ملتزما بالقوانين قدر التزامها باحترام الانسان واعتباره، مناصرا حقّ اللّجوء وحقوق المتهم الموقوف، مستنكرا ألوان التعذيب كافّة. ولم ينحصر عمله الميداني في مدينة هبونا، بل كان يجوب ولايات زوجيتانا وبيزقينا ونوميديا وجازف بالسفر إلى موريطانيا، رغم اختلال الأمن وتفاقم مخاطر الطريق. وقد نجا بأعجوبة ذات مرة من كمين نصب له زمن انتفاضة المزارعين بعد استفحال الدّوناتيّة في غرب الولاية.

والغريب في أمره أنّ هذا النّشاط المكثّف لم يمنعه من تأليف عدد مذهل من المجلّدات. وقد قدّرها، لما راجعها في كتاب "الاستدراكات" (retractationes)، ب 252 كتابا. وقد جمعها في 93 مجلدا، لكنه غفل عمّا يقارب 12 مجلدا لم يشملها إحصاؤه. وإذا ما استثنينا "الاعترافات" و"مدينة الله" (de civitae dei) والبحث الذي تناول فيه مسألة التثليث (de trinitate) – وهي المجلدات التي شغلته سنوات طويلة - فإنّ إنتاجه كان رهن الظروف والأحداث. فالكتب التي أعدها في أثناء خلوته بقسقياقم أو في الفترة التي اعتنق فيها المسيحية كانت تتناول كلها الموضوعات الدينية، وقد طرقها خاصة في كتاب بيّن فيه فائدة الاعتقاد (de utilitate credendi)، وآخر نادى فيه بالدين الحقّ (De vera religione) كما نستطيع تجميع الكتب العقائدية والأخلاقيّة، ومنها كتاب "في العقيدة المسيحية" (de vera christaina) وكتاب "المواعظ"، وكذلك تجميع الكتب التي خصصها لتأملاته في طبيعة الروح، ومصدرها ومصيرها، أو في خلق الكون (De yenesi ad litteram) وتأويله، باعتبار لفظ الكتب المقدسة أو باعتبار المعنى والقصد. ويمكن أيضا تجميع الكتب التي وضعها للدفاع عن الكنيسة الكاثوليكية ومجابهة أعدائها بالرد على المانويّين والوثنّيين ودحض البدع المسيحية، ومقاومة أتباعها، وخاصة منهم الدوناتيين. ولم ينقطع قط عن الكتابة والنضال، حتى في السنين الأخيرة من حياته. انتشرت كتب أوغسطينوس واشتهر في ولايات العالم الروماني كافّة، وأصبحت المدن الافريقية تتهافت على استدعائه، وفي طليعتها قرطاج، ليلقي الخطب ويرشد الناس، وليشارك في مجالس النقاش والجدال وفي مجامع أساقفة الولايات الافريقية التي كانت تنتظم على نحو دوريّ. لكن الأسقف المسن كان يخشى إغراء السلطة وإغواء المديح. وكان يقول: "لا يدري من لم يجرب مقاومة هذا العدوّ مدى سلطانه على النّفوس". ويقول كذلك إنّه لا مبرّر لتفضيل الأسقف على الناس أو لتعاليه عليهم اعتبارا لمكانته أو لنفوذه. فهو مكلّف بمباشرة مهمة، وعامل يضطلع بعمل مع غيره من الناس، ويعلّم، لكنه كان مع ذلك حازما، لا يتردد في اتخاذ القرار، كلما استوجب الموقف الحزم والحسم. من ذلك أنه أمر بمنع الأفراح الموسمية التي كانت تقام عند الاحتفال بذكرى الشهداء، فأغضب الناس، ولم يتحاش مظاهراتهم إلا بالحوار معهم، مازجا في كلامه بين الحزم والاقناع. وعندما عقد العزم على مجابهة الدّوناتيين، قاد بنفسه الصراع المرير الذي قسّم الكنيسة وشدّد العداوة والبغضاء بين الدّوناتيّين المنشقّين والكاثوليكيّين. فسخّر أوغسطينوس طاقاته طيلة سنين عدّة لهذا الصراع حتى أتى على مذهب دُوناتوس (Donatus)k وقطع دابره بعزيمة فولاذية وصرامة لا ترحم. ولنتوقف قليلا عند هذا النزاع الذي زعزع أركان الكنيسة الافريقيّة. ولننظر إليه من منظار المؤرخ، لا من منظار عالم الدين واللاهوت. نلاحظ أن الكاثوليكيّين والدوناتيين كانوا على حد سواء يجابهون مشكلة أساسيّة واحدة، هي مشكلة العلاقة بين الكنيسة والمجتمع. فقد اعتبر الدوناتيون، إذا ما بسطنا آراءهم واختصرناها، أنه على الكنيسة أن تسهر على طهارتها وتضع المحافظة عليها فوق كل اعتبار.فالمسيحيون في نظرهم قد تعرضوا إلى اضطهاد السلط الرومانية وإلى اضطهاد الوثنيين، ثم تعرضوا بعد ذلك إلى خطر أشد ضراوة، خطر "سلم الكنيسة" والعلاقة المشبوهة التي أصبحت قائمة بينها وبين المجتمع. فقد اعتبرلى الكنيسة ألا تكون عرضة للشبهات، وأن تخشى عاقبة التنازلات في تفتحها على المجتمع وفي تعاملها معه. وعليها أن تبقى دوما كنيسة المنصفين والقديّسين، وأن تضع المجتمع أمام اختيارين اثنين: فإمّا أن يبقى خارجيا لا مكان له داخل الكنيسة، وإمّا أن يتحلى وجوبا بالعفة والطهارة التي يحتّمها دين المسيح. وكان لمفهوم الطّهارة عند الدّوناتيّين شأن كبير. فالمؤمن مهدّد دوما بفقدان ملكته الروحانية كلّما لمس رجسا أو اتّصل بشخص مدنّس.

وكانت عقائد المذهب الدوناتي وآراؤه تثير في نفس أوغسطينوس الغضب والسّخط. فكان يدحضها ملاحظا أنها تخص الكنيسة الدوناتية وحدها بالطهارة والقدسية، فتمنحها فضلا وتكسبها رفعة لا مبرر لهما. وعندما تنعتها دون غيرها "بالكنيسة الحقيقيّة"، وبكنيسة العادلين المنصفين، فمفاد ذلك حصر مجال المسيحيّين "الحقيقيّين" في البلاد الافريقيّة، بما أنّها قد انفردت بالبدعة الدوناتية. ومفاده أيضا أنّه على أتباع الكنيسة البقاء في عزلة أبديّة عن المجتمع، وتسخير طاقاتهم لبلوغ غرض واحد، غرض المحافظة على الهوية وعلى الطهارة.

وأمّا موقف أساقفة الكنيسة الكاثوليكية، وفي طليعتهم أوغسطينوس، من مسألة العلاقة بين الكنيسة والمجتمع فهو ينطلق من التأكيد بأنّ عهدا جديدا فتح في تاريخ المسيحية بعد فترة الاضطهاد. فانتصارها على الوثنية أكسبها قوة تسمح لها بفتح الكنيسة، لقبول كافة فئات المجتمع، بل لاحتضان البشرية قاطبة. وقد أصبحت رسالتها تدعوها إلى قيادة الامبراطوريّة التي شملت في حدودها، في اعتقاد سكّان العالم الروماني، الشعوب المتحضرة كافّة، وتدعوها كذلك إلى التبشير بدين اللّه لهدي مختلف الشعوب والأجناس، في البلاد التي تشملها الحضارة. ولا حرج عليها في ذلك، ولا خطر على هويتها إذا ما أمّها هذا الخليط من الفئات الاجتماعية ومن الشعوب المختلفة، ومن واجبها أن تنبذ كل ما من شأنه أن يحدث بين الناس، عند دعوتهم إلى دين الله، فارقا أو تفضيلا.ذلك ما دعا إليه أسقف ميلانو أمبروزيوس الذي كان يريد للكنيسة أن تؤطر شعوب الامبراطوريّة في كافة الولايات وتقودها، وأن تسود الكون، وأن تطالب الامبراطور الروماني بشدّ أزرها.

لكن توسع الكنيسة وتفتحها كانا مقترنين، في مفهوم أوغسطينوس، بنظرة جديدة. فهو يعتبرها في حقيقة الأمر كنيسة دنيوية، تشوبها النقائص كسائر الكائنات الدنيوية. وما هي إلا خيال شاحب وظل باهت للكنيسة المثالية، للكنيسة الحقيقية السرمدية التي ستسود بعد فناء الدنيا، وستبقى بقاء الاخرة، وما هي إلاّ "أورشليم الدنيويّة"، التي تُقابلها "أورشليم السّماويّة". ولا بدّ من أن نلاحظ، في هذا الصّدد، تأثير النظرية الأفلاطورية المحدثة التي كانت تعتبر أن العالم المادي البارز للعيان أشكال لم تبلغ بعد ذروتها وكمالها، وأنّ "صيرورة" هذه الأشكال و"اكتمالها" رهن مشاركتها "للعالم العقلاني" الذي لا يدرك بالحواس، ورهن انتمائها إلى عالم الكائنات المثاليّة. وما مثل الكائنات الدنيوية إلا كمثل "الصورة التي تحاكي الواقع والحقيقة، وتتوق دوما إلى بلوغ كمال الحقيقة دون إدراكه". فمعشر المنضوين في كنيسة دار الدنيا مذنبون رغم سعيهم، سعيا متفاوتا، إلى تحاشي الخطيئة والاثم للظفر بالطهارة والقدسيّة. لكنّ الطهارة والقدسية من المثل العليا، ولا فائدة إذن في شرط الدوناتيين على أسقف الكنيسة الدنيوية، "الطهارة" و"القدسيّة" الاضطلاع بتعميد المتنصّر أو برسامة الكاهن، بما أنّ التعميد والرسامة فضل من لدن المسيح، مهما كانت اليد التي تتولّى القيام بهما. وما على المسيحي الذي أقره التعميد، وما على الكاهن الذي حظي بالرسامة إلا التقيّد بالعقائد والطقوس، والسعي سعيا حثيثا إلى اجتناب الإثم والتغلّب على النفس. وعليهما بالتعايش، مع سائر المذنبين في المجموعة المسيحية، تعايشا متواضعا متسامحا نزيها، وعليهما بالاستعداد والتأهّل لنشر رسالة الهداية بين المذنبين.

كان أوغسطينوس واثقا من آرائه عندما قاوم الدوناتية بعزيمة وحزم. ولمّا استفحل العنف بين الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة المنشقة، اقترنت عزيمته بالتصلب واقترن حزمه بالشدة وقاد الصراع حتّى نهايته، ولم يتراجع ولم يتردّد مهما بلغت قساوة التجاوزات الأمنيّة وشراستها. ولم ينته نضاله بالقضاء على الدوناتية، بل أنهك قواه في التصدي لكل خصوم الكنيسة الكاثوليكية، ولسائر البدع. ووقف وقفة أخيرة لمقاومة البيلاجيّين، أتباع الراهب بيلاجيوس (pelagius)، الذي آمن بالقدرية وبحُرية الضمير، وكان ينادي بطيبة الخلق وبطيبة الانسان، ويقلّل من وطأة الخطيئة الأصليّة ومن حتميّة الاصطفاء الالهي للفوز بالخلاص. وكان تأثير الفلسفة الرواقية واضحا في مذهبه الذي يتلخص في مطالبة الإنسان ببلوغ الكمال، لأنّ الكمال رهن إرادته. ولا ينكر بيلاجيوس أن طيبة الانسان عرضة لافات الطبيعة وفساد المجتمع ورتابة الحياة الاجتماعية، وأنّها كذلك عرضة لجهل الانسان وطفرات عاطفته، ولنزواته وعيوبه وعاهاته، الموروثة منها والمكتسبة. لكن التعميد مقترن في نظره بالغفران، فهو يمحو الخطيئة والاثم، ويعيد إلى المؤمن حرية الضمير والتصرف بعد حرمانه منها من قبل. وكان أوغسطينوس لا يشاطر البيلاجيّين تفاؤلهم، بل كان يرفض رأيهم في اعتبار الانسان قادرا على بلوغ الكمال، ويرفض قولهم بطيبة طبيعته، ويؤمن إيمانا راسخا بحتمية الاصطفاء الالهي الذي لا يكون إلا بإذنه، كما كان يؤمن بالخطيئة الأصلية التي قضت على طبيعة الانسان بالضعف، وأغرقت نفسه في بحر من الشك والحيرة. ولا خلاص للانسان ولا نجاة إلا بالمنة الالهية، ولا أمل له إلاّ في أن يتحول تحولا بطيئا، في مستقبل بعيد، تحولا مشهودا بعد الانهيار والسقوط. فحياة المسيحي، في نظر أوغسطينوس، حياة جهد وبذل وسعي دائم إلى الفوز بالشفاء والنجاة. وكان إيمانه بالمنة الإلهية مقترنا بنظرية القضاء والقدر التي رأى فيها تفسيرا للكون، معتبرا أنّ للأحداث معنى واضحا، سواء كان الحدث بحول الله وقوته، أو كان بفضل الله ونعماه على من اصطفاه، أو كان لإدانة المذنب الذي استحق لعنته.

وقبل أن يموت أوغسطينوس بقليل، أهدى في موفى سنة 429، كتابين أخيرين إلى مراسليه عبر البحر، أحدهما في "القضاء والقدر الذي اصطفى القدّسين" (De praedestinatione sanctorum)، والآخر في "موهبة المثابرة" (De dono perseverantiae). فكانا بمثابة الرسالتين الأخيرتين لتحريض المسيحيين على التسلح بالصبر والإيمان، ولشرح مغزى المحن التي زعزعت أركان الامبراطورية الرومانيّة، وقضت نهائيا على جزئها الغربي، في أوروبا وفي إفريقيا. وما كان ذلك إلا بإذن الله ومشيئته، والله وحده بغايتها عليم، وهو الذي يهب عباده البنية الباطنية التي لا يدب إليها شك، ولا تنتابها حيرة.

وبين صائفة سنة 429 وربيع سنة 430م غمرت موجة الزّحف الوندالي ولايتي موريطانيا ونوميديا، وضُرب الحصار على هبونا، لكن أوغسطينوس لم يشهد سقوطها، إذ أصيب بحمّى مفاجئة، وتوفي سنة 430م، ففقدت ولاية إفريقيا أحد أبرز رموزها الذي نشر ثقافتها ورفع شأنها إلى الأبد، وفقد العالم عبقريا أضاءت أنوار عبقريته حضارة الغرب المسيحي وأشعت على حضارة العالم بأسره.

ببليوغرافيا[عدّل]

  • Louis A,"De Saint Augustin à Al Bakri,sur la localisation de L'Ager Bullensis dans m'Africa latino- chrétienne et de Fahs Bulla en Ifriqia arabo-musulmane", Comptes- rendues des séances de l'Académie des Inscription et belles-lettres,séances de l’année 1999,Diffusion de Boccard,Paris,1999,PP115-143
  • Un itinéraire inédit dans la région de Mactar:tronçon de la voie augustéenne Carthage Ammaedar,B.C.T.H,1987-1989,pp153-167
  • Slim H,Fauque N,La Tunisie Antique de Hannibal à Saint Augustin,Editons Mengès,Paris,2001