الفتح الاسلامي

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث

تعتبر دراسة فترة فتح إفريقيّة والمغرب من أعسر دراسات فترات التاريخ لقدمها وندرة مصادرها، بل ونقلها عن بعضها بعضا، وخاصة اختلاط رواياتها بالأساطير والكرامات والموضوعات التي قصد بها أصحابها تعظيم دور بعض الفاتحين وترغيب المسلمين في فتح بعض المدن كتهويل فتح إفريقيّة في البداية، ثمّ تمجيد عقبة بن نافع، فالترغيب في فتح المنستير على أنّه باب من أبواب الجنّة! ولقد تعدّدت روايات فتح إفريقيّة والمغرب والأندلس. فمن أبرز أعلام الرواية الشرقية الواقدي (ت 208هـ/823م) تلميذ مالك ومؤلّف المغازي التي رواها عن الفاتحين، ونقلها عنه ابن الأثير والبلاذري. أما الرواية الافريقية فترجع بعض الأخبار إلى أبي المهاجر دينار الذي يقال حسب أحد أحفاده إنّه وضع كتابا في غزوات إفريقيّة. وتبدو الرواية الأندلسيّة التي يمثّلها الورّاق (ت 363هـ/973 - 974م) متأخّرة نسبيّا ومزيجا بين الروايتين الشرقيّة والإفريقيّة، وهي التي اعتمدها أبو العرب والمالكي والرقيق القيرواني (ت417هـ/1026م) ويغلب عليها الإطراء والتمجيد.

وقد آثر الباحثون في الموضوع اعتماد الرواية المصريّة التي يمثّلها ابن عبد الحكم (ت 257هـ/871م) بكتابه "فتوح مصر والمغرب" لموضوعيتها. (تحقيق عبد المنعم عامر، ط. لجنة البيان العربي). ففي خلافة عمر بن الخطّاب فتح عمرو بن العاص فلسطين ثم مصر سنة 21هـ، فبرقة سنة 22هـ، ووصل إلي جبال نفوسة سنة 23هـ، وعندما فكّر في فتح إفريقيّة استأذن عمر بقوله: "إنّ الله قد فتح علينا طرابلس، وليس بيننا وبين إفريقيّة إلاّ تسعة أيّام، فإن رأى أمير المؤمنين أن يغزوها ويفتحها الله على يديه فعل." فكتب إليه عمر:" لا، إنّها ليست بإفريقيّة، ولكنّها المفرّقة، غادرة مغدور بها، لا يغزوها أحد ما بقيت." (ابن عبد الحكم ص 232). وعندما تولّى الخلافة عثمان بن عفّان عزل عمرو بن العاص، ونصب مكانه على مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح سنة 25هـ/647م. فكان يبعث إلى إفريقيّة جرائد من المسلمين فيصيبون أطرافها ويغنمون. فاستأذن عبد الله عثمان في فتحها، فاستشار عثمان الناس. ولمّا اجتمع المجاهدون خرجوا إلى إفريقيّة سنة 27هـ/649م بقيادة عبد الله بن سعد بن أبي سرح في جيش العبادلة السبعة الذي يضمّ عشرين ألف مقاتل بعضهم من الصحابة.

وفي سبيطلة انتصر المسلمون على جرجير، وقيل إنّ قاتله هو عبد الله بن الزبير، فعقد مع البربر صلحا مقابل ثلاثمائة قنطار ذهبا، وعاد إلى مصر سنة 28هـ/650م، دون أن يولّي عليهم أحدا. (تح. كولان وبروفنسال، ط. ليدن 1948). ويذكر ابن عذاري في "البيان المغرب" أنّ عبد الله بن سعد غزا إفريقيّة ثانية سنة 33هـ/655م، إثر نقض البربر الوعد. ومنذ تلك السنة إلى سنة 45هـ/666م توقّفت الفتوحات بسبب الفتنة الناشبة إثر مقتل عثمان، وبقي العالم الاسلامي ينتظر نتيجة الصراع حتى آلت الخلافة إلى معاوية بن أبي سفيان، فأرسل معاوية بن حديج الكندي لفتح إفريقيّة، فانتصر على نجفور بسوسة، وفتح حصن جلولة. وكان أوّل من اختار قيروانا (بمعنى معسكر)، قرب قيروان اليوم. وفي سنة 50هـ/670م عزل معاوية بن أبي سفيان معاوية بن حديج، وولّى عقبة بن نافع الفهري قيادة الفتوح. وقد كان فاتحا في نواحي فزّان، فدخل البلاد مباعدا الساحل، ولم يجد مقاومة. ولمّا لم يعجبه قيروان معاوية سار حتّى نزل بقيروان اليوم وقال: "إن ّ إفريقيةّ إذا دخلها إمام تحوّموا بالإسلام، فإذا خرج منها رجع من كان أسلم بها وارتدّ إلى الكفر. وأرى لكم يا معشر المسلمين أن تتخذوا بها مدينة تجعلوا بها عسكرا وتكون عزّ الاسلام إلى آخر الدهر." (حسين مؤنس: فتح العرب للمغرب، - ط. القاهرة، 1947، ص 157). وركز رمحه وقال: "هذا قيروانكم" (ابن عبد الحكم: 265). وكان هذا التأسيس سببا في عزل عقبة في السنة الموالية من قبل مسلمة بن مخلد والي مصر والمغرب، وتعويضه بمولى هو أبو المهاجر دينار الذي أصبح أميرا على إفريقيّة من سنة 55هـ/675م إلى سنة 62هـ/682م. وقد أسلم على يديه كسيلة وعدد كبير من البربر. وكان أوّل من أقام بها. (ابن عبد الحكم : 266).

غير أنّ عقبة الذي أساء أبو المهاجر معاملته غداة عزله رفع الأمر إلى يزيد بن معاوية فردّه واليا على إفريقيّة. فكان أن قيّد كسيْلة وأبا المهاجر بالأصفاد وحملهما معه في غزواته في طنجة والسوس سنة 61هـ/681م إلى أن كاد له كسيلة بتهودا سنة 63هـ/683م، فتوجّه إليه زهير بن قيس في السنة الموالية فقتله (ابن عبد الحكم: 269). وفي سنة 73هـ/693م قدم حسّان بن النعمان من قبل عبد الملك بن مروان (ابن عبد الحكم: 269). وبعد حروب هزم الكاهنة زوجة شيخ قبيلة جراوة من البتر في واقعة سمّيت ببئر الكاهنة، وذلك سنة 76هـ/699م بفضل خالد بن يزيد الذي كانت الكاهنة استبقته ممّن أطلقت سراحهم عندما انتصرت على حسّان بن النعمان في معركة مسكيانة. وبذلك استتبّ لحسّان الأمر، فدّون الدواوين ووضع الخراج على عجم إفريقيّة ونصارى البربر، وأنشأ ميناء تونس ودارًا لصناعة السفن لتعزيز الأسطول الافريقي أمام أسطول البيزنطيين، وحطّم قرطاج عاصمة الحكم البيزنطي بالمقاطعة الإفريقيّة. وبذلك تمّ فتح إفريقيّة، ثمّ تحقّق فتح المغرب سنة 86هـ/705م، فالأندلس سنة 93هـ/712م على يد موسى بن نصير وقائده طارق بن زياد. يبدو إذن أنّ نيّة فتح إفريقيّة لم تتبلور في أوّل الأمر، كأنّ قادة المسلمين فضّلوا أن يدعموا الإسلام في البلدان المفتوحة ويعملوا على مواصلة نشره. ولم تكن المحاولات الأولى لفتح إفريقيّة منظّمة بل كانوا يغزون ويغنمون، ثمّ يعودون إلى مصر.

ولكنّها، رغم ذلك، كانت بمثابة الإرهاصات وجسّ النبض تمهيدا للفتح الحقيقي الذي وطّده عقبة بسياسة الشدّة وأبو المهاجر بسياسة اللّين، واستكمله حسّان بن النعمان. فجاء إسلام إفريقيّة النهائي نتيجة لكلّ تلك المحاولات السابقة إلى جانب ظروف ومعطيات خاصة بإفريقيّة، منها ما ساعد على انتشار الاسلام بها، ومنها ما عرقل سعيه إليها. فممّا ساعد على ذلك محاولات الاغراء والتشجيع المادي والمعنوي بالنسبة إلى جيوش الفاتحين، وتمثّلت في تقاسم الغنائم والسبي ماديّا، وفي الأجر والثواب والتقديس معنويّا، خاصة بالنسبة إلى عقبة. وقابل ذلك من جانب البربر انخراط مصلحي في حضارة الإسلام طلبا للجاه والعزّة إلى حدّ جعلهم يبدلون أنسابهم البربرية بأنساب عربيّة، بكلّ أمل وفخر. وقد كان البرانس من البربر أكثر إقبالا على الإسلام واندماجا في العرب باعتبار أن سكاّن المدن أكثر من البدو قابليّة للتأثّر والتمدّن. فنشأ جيل المولّدين من آباء عرب وأمّهات بربريّات، وكان عاملا ساعد الإسلام على الانتشار، إلى جانب خشية البربر من الانقراض، ورغبتهم في عدم دفع الجزية. هذا فضلا عمّا أشار إليه ابن خلدون من أن ّ المغلوب مولع بتقليد الغالب، ومن أن البربر يشبهون العرب في حياة البداوة.

والمتأمّل في أحوال البربر وعلاقتهم بالسلطة البيزنطيّة قبل الفتح يجد دافعا جديدا جعلهم يقبلون على الاسلام اختيارا لأخفّ الضررين. فلقد اتّسم الحكم البيزنطي بمعاملة البربر معاملة قاسية جائرة بفرض الضرائب وإقصائهم عن الإدارة ومنعهم من ممارسة حقوقهم السياسيّة وعدم تعليمهم، إلى جانب الفرق الحضاري واللغوي بين اللاّتينيّة لغة الإدارة واللهجات البربريّة. بل كان البيزنطيون يستغلّون ما تنتجه أيدي البربر. ولقد كان قسطنطين يرغمهم على أن يؤدّوا إليه مثل ما يؤدّونه إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فإذا بهم يعتنقون الدين الجديد بعد أن علموا مدى بساطته المناسبة لذهنياتهم، إذ يكفي أن ينطق البربري بالشهادة ليغفر الله له ما تقدّم من ذنوبه، على قول الفاتحين وصحابتهم للسائلين عن هذا الدين من البربر.

كما وجد هؤلاء في الإسلام العدالة المنشودة والمساواة بين جميع العباد، إذ "لا فرق بين عربي وأعجمي إلاّ بالتقوى" (حديث). ووجدوا فيه غذاء روحيّا مفيدا أنقذ عقلاءهم ممّا كانوا يتخبّطون فيه من الحيرة رغم وجود أشباه ديانات وثنيّة إلى جانب المسيحيّة المحدودة الانتشار. ومن هذه الدوافع العديدة ما سلكه بعض الفاتحين والولاة في إفريقية من سياسة الترغيب. فأبو المهاجر دينار قد تمكّن من جلب عواطف البربر نحوه بفضل لينه في معاملتهم واحترامه لهم.

ولكنّ تلك العوامل المساعدة على انتشار الاسلام في إفريقيّة واجهتها عوامل أخرى مضادة، أهمّها العصبيّة البربريّة، خاصة في البُتر منهم الذين وقفوا في وجه الفاتحين معتبرين إيّاهم غزاة. فكانوا يرتدّون إلى وثنيتهم أو إلى مسيحيّتهم كلّما عاد الفاتحون من حيث أتوا. وقد قويت هذه العصبيّة عندما انتبه البربر إلى أنّ نيّة الفاتحين الأوائل، إنّما هي السلب والسبي. ثمّ ضعفت هذه العصبيّة أمام بعض الفاتحين بسبب حسن معاملتهم لهم، لكنّها قويت بانتهاج بعض الفاتحين والقواد سياسة الترهيب التي انتهجها عقبة متأثّرا بخالد بن الوليد، وهو ما عجّل بعزله. فلقد كان يتخذ جنده الخاص من البرابرة ويحتقرهم دون أن يستثني قوادهم. فكان أن نفروا منه وتألّبوا عليه، وثاروا بقيادة كسيلة، فقتل وافتكّت القيروان. تلك الدوافع وهذه العراقيل قد تجابهت وتفاعلت بجلاء طيلة القرن الأول، فانتهت بإفريقيّة إلى الإسلام في العقد الثامن منه، إلاّ أنّها واصلت عملها في الخفاء وبرزت فيما بعد في عدّة مظاهر وأشكال ومناسبات، تعتمد العصبيّة أساسا وترمي إلى السياسة أو إلى المذهبيّة الدينيّة هدفا، ممّا يدعو إلى القول بأن إفريقيّة لم يتمّ إسلامها إلاّ بعد القرون الأربعة الأولى.

فالدولة الزيريّة، وهي متأخّرة بالنسبة إلى الفتوحات وإلى الدولتين الأغلبية والفاطميّة، قد قامت على العصبيّة البربريّة ممثّلة في قبيلة صنهاجة، مثلما قامت سابقتها على قبيلة كتامة، بل لعلّ ما يدعم فعل العصبيّة تلك الثورات البربريّة والخارجيّة (نسبة إلى الخوارج من الاباضيّة والصفريّة) التي هزّت إفريقيّة هزّا طيلة القرن الثاني/8م، مثل فتنة "برغواطة" والمتنبّي "حاميم" في المغرب الدّالة على وجود رواسب وثنيّة مطعّمة بالتعاليم الإسلاميّة. فلحاميم قرآن فيه سور على عدد الأنبياء والحيوان، وفيه صلاة وزكاة وصوم كما في غير هذين المثالين رواسب مسيحيّة ويهوديّة. أمّا الثورات الخارجيّة فكانت كثيرا ما تستغلّ العصبيّات البربريّة التي لم تكن غاية المشاركين فيها من البربر إلاّ القضاء على السلطة العربيّة، مثل ثورات ميسرة المدغري سنة 122هـ/741م بطنجة وعكاشة الصفري سنة 124هـ/743م بالزاب وأبي يزيد مخلد بن كيداد الخارجي الملقّب بصاحب الحمار سنة 333هـ/945م بالقيروان والمهديّة. إلاّ أنّ أمراء إفريقيّة المهلّبيين استطاعوا القضاء على تلك الثورات والانتفاضات المتكرّرة، موطّدين بذلك أركان النفوذ العربي بإفريقيّة. ولم يكن إسلام افريقيّة مقتصرا على العمل العسكري والسياسي، بل اتّجه أيضا وجهة ثقافيّة أو تعليميّة تمثّلت في التعريب الذي انطلق في بداية الفتوحات فيها وتواصل طيلة ق 1و2هـ/7 - 8م، بفضل بعثة عمر بن عبد العزيز بالفقهاء العشرة لتعليم البربر قواعد دينهم الجديد، بعد تعليمهم مبادئ العلوم القرآنية. وعلى ذلك النحو توازى الفتح والتعريب مدعّما أحدهما الاخر في إطار التواصل الثقافي بين المغرب والمشرق.

ببليوغرافيا

  • البلاذري أبو العباس أحمد بن يحي، فتوح البلدان، تحقيق صلاح الدين المنجد، مكتبة النهضة المصرية،القاهرة،1956 .
  • ابن عبد الحكم،فتوح إفريقية والأندلس، تحقيق عبد الله أنيس الطباع، بيروت، 1964.
  • الواقدي محمد، فتوح إفريقية، مطبعة المنار، تونس،1966 .
  • Biguet F, Histoire de l’Afrique septentrionale sous la domination musulmane,Ed H Charles-lavauzelle,Paris,1905
  • Fournel Henri,Etude sur la conquête de l'Afrique par les arabes et recherches sur les tribus berbères qui ont occupé le Maghreb central,Imprimerie impériale,Paris,1857
  • Marçais G, "Comment l’Afrique de Nord a été arabisée",dans A.I.E.O,IV1938,1-29,XIV,1956,pp5-17