الطاهر قيڨة

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث

[1922 - 1993م]

القرية والعائلة

منزل الطاهر قيقة في تكرونة

كان جد الطاهر قيڨة شيخ قرية تكرونة ومن كبار فلاّحيها. وقد استولت الشركة الفرنسية الإفريقية سنة 1883 على أراضي منطقة النفيضة وتكرونة وبوفيشة من منطقة زغوان فثار الفلاحون وقدموا القضايا، وأراد الجد محمد أن يكافح الاستعمار فألقي به في السجن. ويقول الطاهر قيڨة متحدثا عن جده: "فكان لهذه النكبات تأثيرها العظيم في نفسه فقرّر إرسال ابنه حمودة وهو أكبر أعمامي إلى المكتب الفرنسي بالنفيضة رغم المعارضة الشديدة التي لاقاها من أصهاره وكانوا عدولا ذوي ثقافة عربية صرف، كان يعتقد أنّه إذا دفع أبناءه إلى تعلم الفرنسيّة واصلوا الكفاح لاسترجاع أراضيهم وهم على دراية بأساليب الخصم وعقليته". ولقي الطفل الصغير حمودة ألوانا من العذاب وهو يتردّد على المدرسة بالنفيضة فوق حماره. ووسط هذا الجو القاسي والظلم الشديد نشأ عبد الرحمان قيڨة والد الكاتب. واقتفى أثر أخيه حمودة الذي أصبح معلما في مدينة تستور فسافر إليه ليتعلّم عنده ثم صار معلما بدوره.

ولادته ونشأته

ولدالطاهر قيڨة يوم 30 ديسمبر 1922 في مدينة تكرونة. وكانت عائلته تسكن في نهج الجرمان من حي الحجامين في تونس العاصمة وأبوه يعمل معلّما بمدرسة معقل الزعيم بساحة رحبة الغنم سابقا. كانت ولادته حدثا سعيدًا إذ كانت أمّه لا تبقي الجنين إلى أوانه. فكان الابن الأكبر وبعده بنات. ولشدّة تعلّق الأب عبد الرحمان بقريته تكرونة كان يرحل بعائلته إليها لقضاء العطل المدرسية ولا سيما عطلة الصيف. يقول الطاهر قيڨة: "وما إن ننزل القرية حتى أنزع حذائي وأنطلق حافيا ويتواصل ذلك ثلاثة أشهر لا أنتعل حذائي من جديد إلاّ عندما تحملنا السيارة من جديد في اتّجاه المدينة. أمّا في المدينة، فحياتي كانت تختلف تماما عن ذلك إذ أنّ والدي المحافظ كان يرعاني عن قرب ويحرّم عليّ الخروج إلى الشارع..." فكان في صباه لا يفارق الدّار: ففي المدينة الجدّ والدراسة والمطالعة وعين الوالد ترقبه، وفي القرية كان الانطلاق والحرية وركوب الخيل واللّعب مع الأطفال. زاول دراسته الابتدائية بالمدرسة نفسها حيث يعمل والده ثم تلقّى تعليمه الثانوي بالمعهد الصّادقي ثم بمعهد كارنو وأحرز الباكالوريا (آداب كلاسيكية) سنة 1941، ثمّ سافر إلى باريس وواصل دراسته الجامعيّة بالسربون لاعداد التبريز في التخصّص نفسه. وانتمى آنذاك إلى حزب الشّعب الجزائري وكتب مقالات في جريدته السرّيّة وألقى محاضرات في تاريخ المغرب العربي في المقاهي الباريسية أمام العمال الجزائريّين وذلك بتوجيه من الحزب كما ألقى دروسا لمقاومة الأميّة. ولم يتمّ التبريز فعاد إلى تونس سنة 1949 ودرّس مدة عشر سنوات بالمعاهد الثّانويّة بالعاصمة وفي الأثناء درّس بمدرسة المسرح من سنة 1951 إلى سنة 1961 وذلك في عهدها الأوّل عندما كانت مدرسة حرّة لها منحة متواضعة من إدارة العلوم والمعارف. وفي عهدها الثاني، عندما أصبحت مدرسة حكومية بعد الاستقلال وكان يديرها حسن الزمرلي ويدرّس فيها عبد العزيز العقربي ومحمد الحبيب وعثمان الكعاك، كانت مهمّة الطاهر قيڨة تحليل مسرحيّات من التّراث اليوناني ومسرح شكسبير والمسرح الكلاسيكي الفرنسي ومسرحيات برشت ويونسكو وسارتر. ثم سمّي سنة 1959 رئيسا للمصلحة الاجتماعية بكتابة الدولة للتّربية القومية. وانتدب سنة 1963 كبيرا لخبراء اليونسكو بالجزائر، كما انتدب سنة 1965 مسؤولا عن المشروع التّجريبي العالميّ لمحو الأمّية في المنظمة نفسها بباريس. ثم عاد إلى تونس سنة 1966 وعيّن مديرا للتعليم الثّانوي والفنّي بكتابة الدولة للتّربية القوميّة والتحق سنة 1968 بوزارة الشؤون الثّقافيّة وأشرف فيها على إدارة الفنون والآداب. وعيّن مديرا للمركز الثّقافي الدوليّ بالحمّامات في أواخر سنة 1967 وقد صادف ذلك انتخابه رئيسا للنادي الثقافي "أبو القاسم الشّابي" فكانت مصادفة مفيدة لأنّها مكّنته من ممّارسة نوعين من التنشيط الثقافي في وقت واحد مدة إحدى عشرة سنة. وفي إطار عمله بالحمامات شجّع الابداع المسرحيّ والموسيقّي. وكانت علاقته متينة بالمسرح بفضل تجربته الطويلة في أثناء التدريس، كما تعمّقت صلته بالأوساط المسرحية فحرص على متابعة تلامذته وتشجيعهم على أن يصبحوا محترفين. وكان يعتقد أنّ المسرح هو سنان الرمح في الانتاج الأدبي ويتمنّى أنّ يجرّ الأنماط الأخرى من الفنون حتى ترقى إلى الحداثة وهو ما جعله يسن ّ سنُة افتتاح مهرجان الحماّمات كلّ سنة بمسرحيّة تونسيّة جديدة نصّا وإخراجا وتمثيلا. أمّا عمله في النّادي الثّقافي "أبو القاسم الشّابي" بالوردية فكان مركّزا على متابعة الانتاج الأدبي التونسيّ وتشجيعه والتّعريف به وسط حيّ شعبيّ فقير قريب من منطقة صناعيّة، كما قضى أربع سنوات (1978 - 1982) مديرا عاما مساعدا مسؤولا عن الثقافة بالمنظّمة العربيّة للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو) إلى أنّ أحيل على المعاش سنة 1982. فتفرّغ للعمل الثقافي والابداع الأدبي وتولّى تسيير اللجنة الثقافيّة القوميّة قبل أشهر قليلة من وفاته (1993).

يرى الطاهر قيڨة أنّ الإبداع هو الأساس وأنّ هاجسه الأوّل هو كتابة القصّة. أمّا أعماله الأخرى فثانوية، وفي هذا يقول: "أنا لا أعترف بنفسي مبدعا كاتبا إلاّ في كتابة الابداع، فأنا قاصّ فقط، فقد كتبت كتابا عن رحلة إلى الصين قمت بها، ونشرت "سيرة بني هلال" التي جمعها والدي برّا به، وكتبت كتبا في التاريخ ومقالات في النقد الأدبي، وترجمت كتبا... لكنها مجموعة من الأنشطة الثقافية المتنوّعة التي لا تضاهي في قيمتها في نظري كتابة القصة". وله ثلاث مجموعات قصصية: "نسور وضفادع" و"الصخرة العالية" و"تسع ليال مع كاليبسو". وهي تمتاز بلغة سلسة قريبة من لغة الحياة اليوميّة. ضمّت المجموعة الأولى "نسور وضفادع" في بدايتها أقاصيص اختزل الكاتب في فضائها كلّ ما يريد قوله وأرسل صوتا واحدا من أوّل القصة إلى آخرها، نذكر من بينها قصة الوصية، وبطن يتحدّث ومناجاة أبي جراب وموسى. ثمّ أتت المرحلة الثانية في المجموعة نفسها بجملة من الأقاصيص اعتمد الكاتب في صياغتها على الحوار وتعدّد الأبطال كما ركّز اهتمامه فيها على الوصف والتحليل. يقول عز الدين المدني في مقدمة المجموعة متحدّثا عن هذين النّمطين من الكتابة: "ولئن كان هذا الاختلاف ظاهرا فإنّ هناك قاسما مشتركا بينها وهو الفضاء، فضاء الرّيف والبادية والزّرع والخضرة والسّواقي والوديان والأنهار والغدران والجبل والقمم العالية مواطن الحيوان". ونذكر من هذه القصص قصة مروّض الأفاعي والنّسر المقعد وغدير الضفادع ودنيا الكلاب لما تشتمل عليه من خيال وأبعاد وأساليب متنوّعة من الرّمز. وهي تعجّ بأنواع من الحيوانات أصاب الكاتب في توظيفها إذ أعطى كلّ حيوان يتحرك في قصصه حيويةّ حسب فصيلته قلّما نعثر عليها في أعمال قصصيّة أخرى وذلك لالتصاق كاتبها بالأرض والطبيعة. جلّ الأحداث تدور في قرية تكرونة وضواحيها وقليل منها في المدينة ولا غرابة في ذلك، فهو متعلّق بقريته منذ صغره إذ وجد فيها الحرّية والانطلاق واللّعب مع أقرانه من الأطفال، ففضاؤها فضاؤه وأهلها أهله، كما يجد القارئ للقصص أنماطا من البشر جلّهم من الرّيف في حركة دائمة، يحاولون العيش مرفوعي الرأس وأخذ نصيبهم من الدّنيا وتناول لقمة العيش بعرق الجبين. لكنّ العرق يسيل واللّقمة تضيع والحقّ يهضم والكرامة تداس. ولا يكتفي القاصّ بالقصّ والوصف أو التّحليل بل يشير إلى مكمن الدّاء وتنطلق صيحات النقمة والثّورة على الأوضاع عند شدّة الأزمات. وقد أعطى إشارة الانطلاق في قصة الوصية أولى قصص المجموعة إذ يقول: "وأركز عصاي في الأرض، تلك العصا التي جابت كامل أنحاء الوطن وصح صيحتي التي علمتك إياها فإنّك تجد آذانا صاغية". وتنطلق الصيحات منبعثة من القلب إلى قلب المتلقّي وأعماقه. صاح فاتل الحبال أمام ظلم خادم الحكومة في قصة ما أوسع الأرض: ما أعلى الجبال، كما صاح الجائع المسكين في قصة بطن يتحدّث وصاح مفتاح في قصة أبي جراب وموسى وتتتابع الصّيحات مدوية في قصة دنيا الكلاب شديدة حادّة تهزّ النفس هزّا، ثمّ تستمرّ في مجموعة "الصخرة العالية" ثمّ في المجموعة الثالثة "تسع ليال مع كاليبسو" ويطلق سقراط في قصة جنون سقراط صيحة قويّة مدوّية في تلميذه كريتون: "يا هذا، مدينتكم أكلها الكلام وغمرها فيض الكلام وقوّضها الكلام أما كفى؟" هكذا حياة لا تطاق في عالم متدهور القيم والناس للناس ذئاب. وننظر في قصة الكلاب والكلاب من سلالة الذّئاب وقد ملأت الدنيا و"عجلة الزمان تدور انظروا إليها تدور وفي كلّ دورة يخرج منها كلب". ولا يخفى على الكاتب أنّ الصراع قائم والطريق طويل. ويقول الأب لابنه قي قصة الوصية التي نعتبرها العمل المشحون بجلّ أفكار الكاتب ومواقفه الانسانية: "ولا تظن أنك تستطيع وحدك أنّ تقلب الوضع فتجلّد بالصبر واترك الوعي يتغلغل في نفوس البطّالين المعدمين المرهقين. فالنّجاح يكمن مع الأيام في انقلاب الصوت إلى أصوات". فلا نعجب إذن لانبهار الكاتب بالصّين عندما زارها سنة 1957 وكلّ ما حققته من إنجازات ضخمة في فترة وجيزة بعد خروج الاستعمار فكان يقول:"كم كنت أشعر بتجاوب روحيّ بيني وبينهم لأنّ تسيير قاعدة فولاذية من طرف أمة فلاحية ناقصة التطور بعث فيّ أملا في مستقبل أمّتي وجميع الأمم التي كانت ترزح تحت نير الاستعمار". ومن الجدير أنّ نلاحظ أنّ والده عبد الرحمان قيڨة هو الذي حرّضه على تأليف الكتاب لما وجد في حديث ابنه عن الصّين ما وجد من تحقيق آمال وأخذ بأيدي ضعفاء الحال ونشر العدالة بين الناس والتسوية بين البشر. وللوالد موقعه المتميّز في حياة ابنه الطّاهر سواء في تربيته وتثقيفه أو في أعماله الأدبيّة، فالروابط متماسكة ومتينة بينهما".

ويتابع القاصّ مسيرته في مجموعته الثانية "الصخرة العالية" وبها يرمز بالطبع إلى قريته تكرونة التي يسميها أبو الواعر قائد أولاد سعيد "الحجرة الزّرقاء" مدافعا عن ضعفاء الحال وعن الذين عضّهم الدهر كما يقول في عدّة مناسبات، وذلك بصوت جديد يختلف عن أصوات مجموعة نسور وضفادع إذ يدخل عالم القصص الشعبي بما فيه من خيال وحكم وغوص في حياة الطبقة الضعيفة. وجلّ القصص عبارة عن حركة مستمرّة: فالأعرج العاجز عن السّير يقود أعمى على سطح الأرض و"الفكرون" المطرود يهرول حول الغدير ولا يقرّ له قرار والمكدي في الوصية ينصح ابنه قبل أنّ يمدّ له عصا الترحال وعجلة الزمان تدور في قصّة دنيا الكلاب وفي كلّ دورة ينطلق منها كلب. وقرية تكرونة كنّا نظنّ أنّه سيكفّ عنها لشدّة محبته لها ويتركها هاجعة فوق صخرتها الزّرقاء الصّلدة. ولكنّ لم يرتح له بال إلاّ بعد أنّ أرسل إليها عمّ عثمان الذي غادرها مبصرا منذ عشرين سنة ثمّ عاد إليها من المدينة أعمى سعيا على الأقدام هائجا مائجا ليقضّ مضجع الراكدين المقوقعين من أهاليها ويشبّههم "بعقبان شاخوا فعجزوا عن الطيران والتحليق في الفضاء فعوّضوا عجزهم بالتأمّل والحكمة". وعم محفوظ مروض الأفاعي يقتفي أثر الأفاعي والحيّات دون هوادة، حاسر الرأس تحت أشعّة شمس محرقة. وبعض الأبطال في مختلف القصص يدورون حول "أنفسهم" كمن ضرب على أمّ رأسه". وفرخ النسور في قصة "النسر المقعد" ماكث في عشّه لا يبرحه منذ نشأته إلى أن ترهّل وشاخ يتأمّل هذا العالم الغريب من عليائه ويقصّ ويحكي... وإذا كان هناك ما يجمع بين هذه القصص الذّاتيّة وغير الذّاتيّة وبين أعمال الطاهر قيڨة غير الابداعية، فهو العطف الذي يحسّ به ويجعلنا نشعر به نحو الفئات الفقيرة في المجتمع، المتعرّضة للظلم والقهر والاستغلال وما تتضمّنه كلّ أعماله من دعوة إلى حياة أفضل ونصيب أوفر من العدل بين الناس.