الطاهر الحداد

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث

[1899 - 1935م]

الطاهر الحداد

كاتب سياسي واجتماعيّ من كبار بناة الفكر التنويري التونسي والعربي المهتمّين بقضايا النّهضة والحضارة والحداثة والتحرّر. ولد الطّاهر الحدّاد بالعاصمة سنة 1899، ونشأ في وسط عائلي شعبي فقد انتصب والده علي بن بلقاسم الفطناسي الحدّاد بائع دواجن بدكّان في السّوق المركزي بالعاصمة، بعد نزوحه من حامّة قابس. تلقّى الصّبي تعليما دينيا بالكتّاب ثم التحق بجامع الزّيتونة. وقد ازدادت ثقافته العامّة سعة بتفتّحه على الثّقافات الأجنبية عن طريق التّرجمات إلى العربية حينما كان يتردّد على "الجمعية الخلدونيّة" و"النادي الأدبي لقدماء الصادقية" ومكتبتيهما، على غرار صديقه أبي القاسم الشابي (1909 - 1934). وصادف التحاقه بالزّيتونة انتفاضة شعبية على الاستعمار بالعاصمة في 7 نوفمبر 1911 وهي واقعة الزلاّج التي سال فيها الدّم وآلت إلى نصب المقاصل في ساحة باب سعدون لارهاب الجماهير الشعبيّة بمشاهدة إعدام بعض الثّائرين، كما أفضت إلى فرض الأحكام العرفيّة، وضرب الحصار على مدينة تونس وضواحيها، وإلقاء القبض على القادة السّياسيّين لمجموعة "الشّباب التونسي" وفي مقدّمتهم علي باش حانبه (1876 - 1918) وعبد العزيز الثّعالبي (1874 - 1944). ولا شكّ في أن هذه الواقعة ومخلّفاتها (حوادث الترامواي، فيفري - مارس 1912)، وأحداثا أخرى ضد الاحتلال الفرنسي كانتفاضة فلاّحي الفراشيش بجهة الڤصرين (1906)، والانتفاضة المسلّحة بالجنوب التّونسي (1915 - 1916) قد تركت عميق الأثر في نفس الفتى الطّاهر الحدّاد وأرهفت حسّه الوطني، فشب على حبّ الوطن من ربيع حياته. وتجلّى ذلك الحبّ في كتاباته النّثريّة والشّعريّة كما في قوله من قصيد "الوطن" (بسيط) :

شربت حبّ دياري مذ نشأت بها
 طفلا وقد عمّ أحشائي وأوصالي
 عرفت منّتها الكبرى عليّ ولم
أَنس الفروض التي تقضى بأمثالي
من كلّ حرّ أصاب الكرب موطنه
 فقام يسعى بأفكار وأعمال

تخرّج الطاهر الحدّاد في جامع الزيتونة محرزا شهادة التطويع في سنة 1920. وأفاد معلومات قضائية عصرية من دراسة القانون بمدرسة الحقوق التّونسية التي لم يلازم دروسها بانتظام لانهماكه شبه الكلّي في العمل السّياسي والاجتماعي وانشغاله بالكتابة المواكبة لمراحل كفاحه طوال العشرية (1930 - 1920)، فانقطع عن دارسة القانون، ثمّ عاد إليها ليجتاز امتحان شهادة الحقوق التونسيّة وينجح في جزئها الأول (دورة جوان 1930).

ويظهر أنّه لم يكن راضيا عن النّظام التّعليمي التّقليديّ بالزّيتونة كما شهد بذلك صديقه ولزيمه في الكفاح أحمد الدّرعي (1902 - 1965) وكما تؤكده وثيقة نقديّة يظهر أن الحدّاد كتبها حينما كان طالبا بالزيتونة بعنوان: "التعليم الإسلامي وحركة الاصلاح في جامع الزيتونة". وفيها يبرز بوضوح فكره التّنويري في مرحلة شبابه الأوّل ويتأكّد منحاه العقلاني التّحديثي المبكر في مناداته "ببث الرّوح العلميّة واحترام حرية الفكر"، لا حشو الأدمغة "بالحفظ والنّقْل" في تعليم الناشئة، متجاوبا بذلك مع شيخه محمّد النّخلي (1867 - 1924) الذي سلك في دروسه مسلكا اجتهاديا. وفور انبعاث الحزب الحرّ الدستوري التونسيّ (جوان 1920) انضمّ إليه الحدّاد وتآلف مع مؤسّسه الشّيخ عبد العزيز الثّعالبي الذي كلفه بنشر الدعاية لحركته بالمقالة والقصيدة والعمل الميداني. ثمّ فترت علاقته بالقيادة الرّاكدة الباقية في البلاد بعد خروج مؤسّس الحزب إلى المشرق في جويلية 1923، وبعد أن اتّسعت هوّة الخلاف بين الحدّاد ومحيي الدّين القليبي لمّا انزلقت القيادة الدّستورية في شرك مكيدة السّلط الاستعمارية للقضاء على أولى حركة نقابيّة وطنيّة رياديّة في العالم العربي، فألقي القبض على زعيمها محمّد علي الحامّي (1890 - 1928) وثلّة من رفاقه، وهجروا إلى المنافي. وفي كتابه العمّال التونسيّون وظهور الحركة النقابيّة، تعرّض الحدّاد لظروف نشأة "جامعة عموم العملة التّونسيّة". ولمّا صدر هذا الكتاب سنة 1927 حجزته إدارة "الحماية الفرنسيّة" تحسّبا من عودة الرّوح النّقابيّة الوطنيّة. وفي سنة 1928 نشر الحدّاد مقالات بجريدة "الصّواب" التي كان يديرها محمد الجعايبي (1880 - 1938) ودافع في تلك المقالات بجرأة وذكاء عن المرأة التّونسيّة وحثّ مواطنيه على تعليمها وترقيتها وإنصافها في حقوقها، فاتحا بذلك آفاقا جديدة للاصلاح الاجتماعي والتّربوي. ورأى بعد سنتين أن يجمع تلك المقالات ويدخل عليها بعض الاضافات والتعديلات ويضمّها إلى كتابه "امرأَتنا في الشّريعة والمجتمع" الذي أصدره في أكتوبر 1930، فأثار به الضجّة الكبرى.

وكان الحدّاد هدفا في تلك الخصومة الطويلة الشّرسة لضربات القوى الأهلية المناهضة لأفكاره التحرريّة التي حرّكت الصّحافة والقصر الملكيّ وإدارة "الحماية" والفئة التقليديّة المتشدّدة من مشايخ الزّيتونة. وشارك فيها أيضا العامّة والمهمشين، فوجدوا التّشجيع من اللّجنة التّنفيذية للحزب الحرّ الدّستوريّ. وقد اتّهم الحدّاد في دينه، فرمي بالكفر، واستغنت الجمعيّة الخيريّة الاسلاميّة عن خدماته، قاطعة عنه مورد رزقه وهو خطّة مستكتب بإدارتها، وسحبت منه الوزارة الكبرى خطة الاشهاد بطلب من نظارة جامع الزّيتونة (وإن لم يباشر تلك الخطّة)، وضرب عليه الحصار، فعاش السّنوات الخمس الأخيرة من حياته في شبه عزلة خانقة، وانهالت عليه الكتابات التهجّمية المناهضة لمشروعه الاصلاحي، مثل كتاب: سيف الحق على من لا يرى الحق لعمر البرّي المدني وكتاب: الحداد على امرأة الحدّاد للشّيخ محمّد الصّالح بن مراد. ولا شكّ في أنّ إقدام الحدّاد على تفجير المنظومة السّلفيّة التّقليديّة للأحوال الشّخصيّة من داخلها كان من أسباب الضجّة الكبرى عليه.

ولكنْ مهما تظاهر خصومه بالغيرة على الإسلام في حملتهم العنيفة عليه فإنّ سببها الحقيقيّ العميق لم يكن دينيا بقدر ما كان سياسيا، إذ أن مردّ الخلاف قديم بينه وبين القيادة الدّستورية التي انتقدها الحدّاد علنا في رسالته الموجهة في أوت 1932 إلى الشّيخ الثّعالبي. ولم يتردد الحدّاد أيضا في انتقاد أفراد تلك القيادة بلسان صديقه وابن قَرْيَته : الحامّة محمّد علي الحامّي لمّا عرّف به في كتاب العمّال التونسيّون وظهور الحركة النقابيّة. وكذلك انتقدهم مباشرة في قريضه، فاتّهمهم بكسر وحدة الشّعب وراء عمّاله، إذ انضموا إلى ائتلاف أحزاب اليسار الفرنسيّة الذي يسمّيه الحدّاد "اتحاد طوائف"، فسهّلوا بذلك ضرب الحركة العمّالية الوطنية الأولى. يقول في قصيده "الخيبة" (أوت 1928) (طويل) :

وللسّعي طرق في البلاد عديدة
 لو أنّهم اختاروا العلا والمفاخرا
 ولكنّهم خافوا وأحنوا ظهورهم
 وهالهم أن يصبح الأمر ظاهرا
 وكانوا مع الأعداء في كسر وحدة
 بها هدّد العمال ما كان جائرا
 فلم نجن من ذا غير خزي أذلّنا
 جميعا ورأس القوم ظلّ مكابرا

وفي الضجّة الكبرى حول كتاب امرأتنا في الشّريعة والمجتمع استعمل الحدّاد من خصومه كبش فداء ليغطّوا به ورطتهم في تزكية انعقاد المؤتمر الافخارستي بقرطاج (أفريل - ماي 1930). وقد جرت فعالياته قبيل صدور كتابه ذاك ببضعة أشهر. لكنّ الأعيان التّونسيّين في القيادة السّياسية والدّينيّة لم يقدروا خطر المؤتمر الصّليبيّ وخلفياته عندما قبلوا أن تدرج أسماؤههم بقائمة لجنته الشّرفيّة ولاذوا بالصّمت عند صدورها، وفي مقدمتهم ملك البلاد أحمد باي (الثّاني) ووزيره الأكبر خليل بوحاجب وثلّة من علماء الدّين الممثّلين للمالكية والحنفية، إلا أنّهم اغتنموا فرصة صدور كتاب امرأتنا في الشّريعة والمجتمع لينقضّوا على مؤلفه فأثاروا عليه الضّجّة الكبرى وكفّروه واضطهدوه ليشغلوا الصّحف والرأي العامّ عن ورطتهم، ويسترجعوا مقامهم المهزوز عند جمهور المسلمين ويتظاهروا بأنهم حماة البيت وسدنة الإسلام، بعد أن بان للعيان، بالاستعراض الصليبي الضّخم ونصب أقواس النّصر، الوجه الحقيقي للمؤتمر الإفخارستي، في ظروف النّسف الاستعماري لمقوّمات الشخصيّة التونسيّة. ونجد في شعر الحدّاد صدى لتلك المحنة والمحاصرة الشرسة التي عانى من أذاها كثيرا، كما في قوله من قصيد "إلى أَيْن؟" (جويلية1934) (متقارب) :

أغني لنفسي غناء حزينا
وهل بسوى الحزن غَنّى حزين؟
شباب ولكنّه ضائع
وروح ولكن مضحّ سجين
أقام عليه ذوو المكر حصنا
على ركنه باسْم تقوى ودين

إنّ الفكر المستنير هو الذي قاد الحدّاد إلى فتح باب الاجتهاد فيما يتَّصل بالأحوال الشخصيّة وما ارتآه من تدرّج أحكام الشريعة بخصوص تلك الأحكام. والفكر التّنويري هو الذي جعله يعمّق فهم الإسلام ويميّز بين ما هو خالد بخلوده لا يتغيّر كأركان العقيدة ومكارم الأخلاق، وما هو قابل للتّغيير والتّطوير مراعاةً لمقتضيات العصر كالأحكام الشّخصيّة. والنّهضة التي يرومها الحدّاد حداثية لا سلفية، تقوم أساسا على حركة لا تقطع مع التراث وإنما تعيد قراءته، ويدعمها عمل إبداعي متجدّد متواصل بسند صحيح في كل ميدان، ومنه "التّعمير بمعناه الحقيقي" و"الانتاج" لا "الاستهلاك" أو "التّقليد" والابداع الفكري والفني والسّياسي والاقتصادي والاجتماعي، واستمداد القوّة والمناعة والحرّية من "أعماق النّفس الشاعرة والفكر الذي يشعّ بالنّور. فإذا كانت النّفس والعقل ساكنين مظلمين، فإن مجرد الآلام وضيق النفس منها لا يؤهل لشيء إلا أن تكون آلة صمّاء عمياء بيد أُخرى حسب أغراضها وبرامجها".

ويشتمل كتاب امرأتنا في الشريعة والمجتمع على قسمين رئيسين، أوّلهما تشريعي والاخر اجتماعي سوسيولوجي. أمّا الاجتماعي فتظهر طرافته في اللّوحات التّصويرية بلغتها الطلية وأسلوبها الوصفي لمشاهد اندثرت الآن في حياة الأسر التّونسية داخل البيوت ولممارسات وأقوال كانت تسيء إلى سعادة الأسر واستقرارها. أمّا القسم التّشريعي فيتضمن دعوة إلى تمكين المرأة من حقوقها المدنيّة كالمساواة في حقّ الشّهادة، والانتصاب للقضاء، وحرّية التصرّف في مالها، واعتبار مسألة الميراث قابلة للتّغيير في اتجاه المساواة. وقيّد الحدّاد الزّواج بالفحص الطّبي قبل كتابة العقد تفاديا للأمراض التّناسلية وشدّد على منع التزويج دون سن الرشد. وأفتى بإباحة موانع الحمل بل إباحة الاجهاض إذا خيف على حياة الأُم. وهكذا فسح المجال بعده للمجتهدين في التّنظيم العائلي، وجهر بمنع تعدّد الزّوجات حفاظا على وحدة الأسرة واستقرارها، كما نادى بتحكيم القضاء في كل ما يحدث من حوادث الطلاق، وانتقد مؤسسة "دار جواد" التي حادت عن مهمّتها الأصلية وهي احتضان النّساء المضطهدات من قبل أزواجهنّ واستنكر اللجوء إلى "التياس" أي المحلل الصوري للمطلقة بالثلاث، فكان طلائعيا في مواقفه، مستشرفا مستقبل الأحوال الشخصيّة بتونس الحديثة.

ولئن أضحت "مجلّة الأحوال الشّخصيّة" الصّادرة في فجر الاستقلال (13 أوت 1956) مألوفة لدى التونسيّين فقد كانت مضامينها مرفوضة في زمان التّقليد وغلبة العادة من أولئك الذين وصفهم الحدّاد في قصيدة: "ظلّ الموت" بقوله (متقارب) :

أثاروا على الفكر حربا ضروسا
 وسادوا بتقليدهم للامام
 يقولون إن التطور كفر
يهد كيانا لنا بانهدام

وفي المرحلة الأخيرة العصيبة من حياته القصيرة (إذ توفّي يوم 7 ديسمبر 1935 في السادسة والثلاثين من عمره) شرع الحدّاد في تسجيل "خواطر" (ماي - جويلية 1933) فجاءت إضافات ثريّة، واحتوت بإيجاز بليغ دعوات صريحة إلى الاصلاح والتّجديد والتّنوير والتّحرير وتأسيس الحضارة والحداثة. لقد استخدم الحدّاد قلمه لمعالجة موضوعات مصيرية لشعبه مثل تحصين الذّات المحاصرة في وطنها حتّى تسلم من الذّوبان، والدّفاع عن حقّ الاختلاف، والإشادة بالعلم، ورفض التّطرف، والتّوق إلى الرقي، فجعل بذلك الأدب مبلّغا "لرسالة الدّنيا"، كما سمّاها أبو القاسم الشّابي، ومحرّرا للانسان وفاتحا أمامه طريق الابداع الذي تقتضيه روح العصر. يقول الحدّاد من قصيد رائع بعنوان "ضحايا الماضي"(خفيف) :

هكذا حطمت شعوب الترقي
 ما دهاها من سالف الأزمان
 كل يوم تفتنّ فنا جديدا
 فهي ترقى في جدّة الألوان
 نحو مستقبل عظيم المزايا
فيه ترتاح من قيود الهوان

وبعقله التّنويري الاستشرافي، غالب الطّاهر الحدّاد الواقع المتردّي في بيئته، فكانت له الغلبة بمرور الزّمن إذ صدقت رؤاه، وخابت أنظار المعطّلين لحركة التّجديد والتّطوير والتقدّم، وتحقّق الكثير من أحلامه في تونس الحديثة، وكتب له الخلود.

ببليوغرافيا

  • الحداد الطاهر، العمال التونسيون وظهور الحركة النقابية،تونس، مطبعة العرب،1972.
  • Ayadi T, Mouvement réformiste et mouvements populaires à Tunis1906-1912,Tunis, Université,Tunis,1986.