الصالون التونسي في عهد الحماية

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث

تقاليد فنية معهودة وقيم جمالية موروثة، ولم يطرأ عليه تغيير إلاّ منذ أوائل القرن العشرين عندما انبعثت بتونس حركة فنية جديدة وفدت من الغرب، فمهدت، فيما بعد، لتأسيس الصالون التونسي. فقد كوّن أعضاء قسم الآداب والفنون "معهد قرطاج" صالونا للعرض بإعانة من الحكومة الاستعمارية التي سعت إلى مساندة هذا المشروع، تشجيعا لنشر الثقافة الفرنسية وترسيخ حضورها في الإيالة. فتح الصالون التونسي بابه لأول مرة سنة 1894 في يوم اتخذته الحكومة عيدا لها تخليدا لذكرى انتصاب الحماية بتونس، وهو اليوم الثاني عشر من شهر ماي، واختص مبنى شركة العمال المالطيين "لافالات" (La Valette) الكائن بنهج اليونان بالعاصمة بأول عرض حضر افتتاحه المقيم العام شارل روفيي (Charles Rouvier) ورجال دولته وعدد من أهل العلم والثقافة. وقد دام المعرض الأوّل أسبوعين، ومن أبرز ما احتوى عليه مجموعة من لوحات الرسام لويس شالون (Louis Chalon) الذي كان يقوم برحلة إلى تونس، واستجاب لطلب السلط المحلية عندما بعث من فرنسا بمجموعة من أشهر رسومه التي عرضها سابقا في صالون باريس، ثم أضيفت إليها لوحات أخرى لنخبة من الرسامين والبحاثين الأجانب المقيمين بتونس، فكان هذا المعرض الأوّل الذي نال إعجاب الزوار وكان له صدى واسع في الأوساط الثقافية، مشجعا على إقامة عدّة معارض سنوية نُظّمت كلّها بقصر الجمعيات الفرنسية (دار ابن رشيق حاليا)، وأضحى عليها بتوالي السنين إقبال متزايد لا سيّما عندما تولّى ألكسندر فيشي (Alexandre Fichet) إدارة هذا الصالون، وهو من الشخصيات الثقافية والفنيّة المهمّة التي اضطلعت في مطلع هذا القرن بدور مهّم في الساحة الثقافية بتونس.

وتواصل هذا النشاط بانتظام ثم تعطل تماما طيلة الحرب العالمية الأولى حين نقل عدّة فنانين إلى جبهة القتال وتوقّفت بذلك كلّ حركة فنية في هذا الصالون كما توقّفت سائر الميادين الأخرى حتّى انتهاء الحرب. وفي سنة 1920 عاد الصالون إلى نشاطه وتوالت العروض منتظمة في بداية كلّ فصل ربيع. والملاحظ أنّه طوال الفترة الاستعمارية كان الصالون التونسي لا يشارك فيه إلاّ الفنّانون الأجانب، وقد خصّص ركن منه للفنون التقليدية تنظّمه "إدارة المصلحة الاقتصادية الأهلية" (Direction des Services Economiqes Indigènes) وكان يحضره جمهور من الجالية الأوروبية المقيمة في البلاد أو الوافدة من أوروبا، في حين كان المجتمع التونسي بمعزل عن تظاهراته، فقد رفض التونسي في أوّل الحقبة الاستعمارية كلّ مؤسسة دخيلة، إذ كان يراها سطوا واحتلالا.

ولم يبدأ اهتمام التونسيين بالثقافة الغربية والتفاتهم إلى الفنون الجميلة إلاّ بحلول العشرينات حيث شرعت نخبة من اليهود التونسيين (موزس ليفي وجول للّوش وموريس بزموت وكلود غزلان...) وبعض التونسيين، في المساهمة لأول مرة في عروض الصالون. فمنذ سنة 1912، قدم الجيلاني عبد الوهاب مجموعة من رسوم لأشخاص، وفي سنة 1913 عرض رسما مائيا، وتواصل نشاطه في الصالون إلى سنة 1928. وبدأ يحيى التركي مشاركته منذ سنة 1923، وسار على منواله علي بن سالم وعبد العزيز بن الرايس وعمار فرحات وحاتم المكّي.

وقد تدعّم صرح الفنون الجميلة في تونس، وخاصة الرسم الزيتي المسندي، بفضل تظاهرات الصالون بعد أنّ قطعت مراحل ثلاثا: أولاها ما كان يبعث به رسامون محترفون من فرنسا من أعمال فنية عرضت من قبل في صالون باريس، ثمّ في مرحلة ثانية من خلال أعمال الرسامين الأجانب الذين استقروا بتونس ومنهم أساتذة كوّنوا بها جيلا من الفنانين، وتأتي أعمال الرسامين التونسيين في المرتبة الثالثة، هؤلاء الذين احتضنوا بدورهم الأساليب الفنية الدخيلة التي تلقوها وتوارثوها من سابقيهم من الأساتذة الأجانب واتبعوا طرقهم وأنماطهم التي تنتمي إلى "المدرسة الاستعمارية". ومع ذلك فإنّ إنتاجهم كان متجذرا في الوسط العربي الاسلامي التونسي يختلف تماما عن توجهات الفنانين المستعمرين. وهي النظرة الاستشراقية التي لا صلة لها بالواقع التونسي.

لكنّ أعضاء الهيئة الفنية ل"معهد قرطاج" كانوا يعملون خاصة على تشجيع الفنانين الفرنسيين بإسناد جوائز لهم عند نهاية كلّ عرض، وكانوا يقومون، بإعانة من إدارة المعارف والفنون الجميلة، بتمويل عملية جلب الأعمال الفنية من فرنسا. بل كانوا لا يفسحون المجال إلا نادرا للرسامين الأوروبيّين من غير الفرنسيين. وهذا التعصب الواضح كانت تسانده الصحف الاستعمارية التي ما انفكّت تؤكد ضرورة فرنسة الثقافة بالبلاد التونسية. ومن الرسامين الفرنسيين الذين ساهموا باستمرار في الصالون التونسي من لم يزر الإيالة اطلاقا، مثل "أرسان دوماس" (Arsène Dumas) وهنري لجان (Henri Lejeune) وأميل ازمبار (Emile Isembart) الذين اكتفوا بإرسال لوحاتهم التي تحتوي جلّها على مشاهد طبيعية لأقاليم فرنسا. وكانت هذه الموضوعات الفرنسية تلقى تجاوبا من جمهور الصالون الذي كان يرى فيها نقطة وصل بينه وبين وطنه الأصلي ورباطا وثيقا يصله بثقافته وحضارة مسقط رأسه. وهناك نوع آخر من الرسامين المقيمين في أنحاء الجزائر والمغرب يرسمون مشاهد تصف بدقّة مميّزات طبيعة الشمال الافريقي، ونذكر منهم: "بول سيموني" (Paul Simoni) و"مريوس دي بوزون" (Marius de Buzen) و"هنري دابدي" (Henri Dabadie) و"موريس بوفيول" (Maurice Bouviolle).

وهناك أغلبية ساحقة من الرسامين القاطنين بتونس يعرضون تارة مشاهد من الحياة التونسية، وتارة أخرى لوحات تصاغ فيها المواضيع المقتبسة من الحياة الفرنسية التي رسموها عند ترددهم على بلادهم الأصلية، حتى إنّه في بعض الأحيان يقع التشابه والخلط بين عالمين مختلفين بحيث لا نستطيع التعرف إلى الموضوع أهو كان مستوحى من الطبيعة التونسية أم من الطبيعة الفرنسية وإنّ افترقا في ألوانهما ومميزات تربتهما، وذلك أنّ هؤلاء الرسامين يطبقون أحيانا نفس التقنية ويختارون نفس الألوان والأشكال للتعبير عن عوالم متباعدة. ونذكر من هؤلاء بريفور بونشي (Breffort Ponche) الذي برع في رسم المناظر التونسية، وأندري ديلاكروا (André Delacroix) ولومونيي (Lemonnier) ورودولف درلنجي المتخصص في رسم مناظر من بلدة سيدي أبي سعيد، وأميل بنشار (Emile Pinchart) وأرمون فرجو (Armand Vergeaud) وألكسندر روبتزوف (Alexandre Roubtzoff) المعروفين بدقّتهم الفائقة في رسم الأشكال، وبيار ديمونتيي (Pierre Demontier) وجورج ديلابلونش (Georges Delaplanche) ودافيد جوناس (David Junes) وبيار شربونتي (Pierre Charpentier) ولومار (Le Marre) وهنري جوصو (Henri Jossot) الذين ترددوا بين الانطباعية والألوان الصارخة والرسوم التي تتّسم بالجودة واللّطافة.

وقد تناول أولئك الرسّامين في لوحاتهم موضوعات مختلفة تتراوح بين مناظر من شمال فرنسا وسمائها المغشّاة بالسّحب وأرضها المطينة وأكواخها المملسة بالقشّ، ومناظر من شمال إفريقيا كالفيافي القاحلة التي تغمرها أشعّة الشمس وشواطئ البحر المتوسط الممتدة على السواحل، والأسواق والبطاح الشعبية المكتظّة. كلّ هذه الموضوعات، وإنّ تنوعت، فهي توحي بمحاولة أولئك الرسامين طمس المظاهر الاستعمارية والتعبير عن نوع من "التفاؤل الجمالي" من خلال الألوان الزاهية والمناظر الطبيعية الخلاّبة. ولئن اختلفت الموضوعات وتعدّدت، فإنّ الأساليب والتقنيات المستخدمة في ذلك الوقت قد تعددت أيضا. فاللوحات المعروضة في الصالون خضعت كلّها لما يمكن أنّ نصفه بعدم التوافق التاريخي مع ما كان يجري في أوائل هذا القرن بأوروبا من تيارات عصرية سائدة. فمنها ما ينسب إلى الاتباعية الموروثة عن المدارس الأكاديمية ثمّ الواقعية ثمّ الانطباعية المحدثة ثم إلى الطريقة الوحشية. وهكذا أصبح الوسط الاستعماري المتأخّر ثقافيا ملجأ للتيارات الجمالية التي كسدت سوقها وزال أوانها فصارت في متناول العامة. وبقدر ما كان تجاوب هذا النوع من الفنّ مع الجمهور فإنّ الأعمال التي قدمها بعض الأفذاذ من المعاصرين، مثل فان دنجن (Van Dongen)(1922)، ومركي (Marquet)(1933)، ولوت (Lothe)، ومتزنقر (Metzinguer). إلى الصالون التونسي لم تجد صدى لدى الزوار أو الفنانين أنفسهم. واستمرّ الحال مدا وجزرا بين تلك المدارس المتباينة إلى ما بعد الاستقلال عندما اتّجه الصالون وجهة أخرى وأصبح يضمّ أعمال التونسيين، ومازال إلى يومنا هذا يمدنا برسوم الهواة الشبان التي تنبئ لوحاتهم الفنية عن مواهب جديدة وعن تيارات تتماشى مع المعاصرة والحداثة.

ببليوغرافيا

  • Abéasis Patrik, "Le salon tunisien (1894-1984 :Espace d’interaction entre des générations de peintres tunisiens et français",in Les relations Tuniso-Française au Miroir des Elites XIX e et XXe siècles, faculté des lettres et des sciences humaines, Manouba,1997.