الحمامات التاريخية والأثرية

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث

الحمام مؤسسة عريقة بالبلاد التونسية منذ العهد الروماني وقد انتقل إلى الحضارة الرومانية من الحضارة اليونانيّة التي انتهت إليها من الحضارة الايجية. فقد كشفت الحفريات الأثريّة عن أقدم الحمّامات الخاصّة فيما تبقى من آثار القصور الايجيّة التي يرجع تاريخها إلى ما بين 1700 و1400 سنة قبل الميلاد. وقد أدت الحمّامات الخاصّة منها والعامّة دورًا ذا أهميّة على أكثر من صعيد: اجتماعي وصحي وثقافي وترفيهي، حتّى أضحت من أهمّ مكوّنات المدينة الرومانية وأصبح الحمّام الروماني وكذلك البيزنطي المرجع للحمّامات التي شُيّدَت في الحضارة العربية الاسلامية التي أنقذتها من الاندثار باستيعابها ضمن نشاطها الديني والاجتماعي والاقتصادي حتى أصبحت مؤسسة الحمّام في أهمّيتها المؤسّسة الثانية من حيث أهميّة التراتبية للمؤسسات الإسلامية في المدينة الإسلامية بعد المسجد - الجامع نظرا إلى العلاقة الوثيقة بينهما.

آثار حمامات أنطونيوس بقرطاج

ولقد أضفى الطّابع الإسلامي على الحمام روحا جديدة تطوّرت بتطور الحضارة الاسلامية. ولعلّ حمّامات بلاد الشام وإسطنبول ومنطقة الأناضول عموما خير شاهد على روعة هذه المباني وأهميتها في الحياة الدينية والاجتماعية والصحيّة. ولا شكّ في أنّ الحضارات التي تعاقبت على القطر التونسي وتفاعلت على أرضه، تركت بصماتها على هذه المؤسسة العريقة التي لاتزال آثارها الرومانية حاضرة بكثافة شاهدة على عظمتها وما قامت به من أدوار في المجتمع عبر تاريخه الطويل. فقد شيّد الكثير من الحمّامات العامة التي اشتهرت بمياهها المعدنية وهندستها الرّائعة. ولعلّ أبرز مثال لهذه الحمّامات الرومانية بالبلاد التونسية حمّامات طبربو ماجوس التي تعرف بهنشير القصبة. وذلك في القرن الثالث الميلادي وكذلك حمّامات بلاريجيا وحمّامات أنتونين في سفح ربوة بيرسا بقرطاج إذ لاتزال تحتفظ بتفاصيلها المعمارية الضخمة بما احتوته من قاعات الاستحمام الباردة والمعتدلة والحارة.إلى جانب وجود مسبح بالقاعة الباردة وقاعة أخرى للدّلك والتّمسيد بالزيوت النباتية.

وكانت تلك الحمّامات تخضع لنموذج مشترك في التخطيط نواته وحدات رئيسة ثلاث إلى جانب وحدات أخرى تُوَزّع في سائر أنحاء المبنى الباقية وهي مخصّصة لخلع الملابس والرياضة والندوات. ونظرا إلى قيمتها والنشاط الذي تقوم به في أكثر من مجال، احتلّت هذه الأبنية مساحات كبيرة تراوحت بين ألفين وأربعة آلاف متر مربّع.

  • وبعد سقوط الامبراطورية الرومانية وبقايا الامبراطورية البيزنطية، اندثرت جلّ تلك الحمّامات. ولم تر النّور والاحياء إلاّ في ظل الحضارة الاسلامية التي أخضعتها لتعاليمها الدينية وفق الأحكام الشرعية، ثمّ أُغنيت بالعادات والتقاليد التي أقرّتها الشعوب الاسلامية عبر تاريخها الطويل وتراثها الثقافي الثري الذي أضفى على مؤسسة الحمّام حركية اجتماعية حتى أصبحت هذه المؤسسة من أهمّ المؤسسات التي عرفها التَمَدّن الاسلامي وأعرقها إلى جانب مؤسسات أخرى مثل الجامع والمدرسة وغيرها من المعالم الاسلامية التي تزخر بها البلاد العربية والاسلامية عموما.

فالبلاد التونسية لاتزال تحتفظ بعشرات الحمّامات الاسلاميّة الأثرية والتّاريخية التي اندثرت في الكثير من البلدان العربية والمتوسطيّة. فإلى جانب مدن وأرياف تونسية مثل القيروان وتستور وباجة ومجاز الباب وسوسة والمهدية وقابس ونابل وغيرها كثير ممّن احتفظ بعشرات الحمّامات العريقة، لاتزال مدينة تونس العتيقة تحتفظ وحدها بعشرات الحمّامات التاريخية التي لم تتوقّف عن الاشتغال واستيعاب جمهور من الرّواد رغم تراجع عددها في السنوات الأخيرة. ولعلّ أشهر تلك الحمّامات وأقدمها حمّام الڤرانة بالسوق المسقّف (الڤرانة) بالحفصية والذي يرجع بناؤه إلى سنة ثمان وسبعين وثلاث مائة هجريا ًّ (378هـ/989م) أي منذ أواخر القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي. أما آخر الحمّامات التاريخية وأضخمها فهو حمام يوسف صاحب الطابع بربض باب سويقة من مدينة تونس العتيقة. وقد أمر ببنائه في بداية القرن التاسع عشر وبالتحديد سنة 1810م ليكون وقفا من أوقاف جامع صاحب الطابع الفخم. فقد احتلّ مساحة كبيرة لكنّها غير منتظمة. ويتميّز هذا الحمّام بعدد وافر من الحجرات والقاعات التي قلّما نجدها في الحمّامات الأخرى. لكنّها حافظت على التعاقب التقليدي لهذه الغرف، وهي: السقيفة وقاعة المحرس والقاعة الباردة والقاعة الدافئة والقاعة الدافئة الثانية الخاصّة بالدّلك، وأخيرًا القاعة الحارة الضيقة المسماة: (العَرّاقَة) وهي ملاصقة للنّحاسة إذ تحتوي على حوضين للماء الحار.

وكما هو في الحمّامات التقليدية فإنّ قاعات الحمّام الدافئة مطمورة جزئيا تحت الأرض للاحتفاظ بحرارتها. ومن أعرق الحمّامات بمدينة تونس العتيقة نذكر على سبيل المثال:

  • حمّام المطيهرة الذي يقع قرب سوق البلاط (لبيع الأعشاب الطبية) ونهج تربة الباي.

واللاّفت للانتباه أنّ هذا الحمّام لايزال محتفظا بجلّ خصائصه المعمارية القديمة بما في ذلك دكّانته وبلاطته التي كُسيت كلّها بالرّخام الرّمادي، إلى جانب بساطة تزويقه وليقة حيطانه الغلخة المطليّة بالجير الطبيعي.

  • وحمّام العريان، نسبة إلى زاوية سيدي العريان، كما يعرف أيضا بحمّام صبّاط الزيت لكون البناية ارتكزت على عدة أعمدة ضخمة ذات تيجان تركية إلى جانب التيجان الحفصية الموجودة في الفرناق.

حسب إحصاء مخطوط بعنوان بيان الحمّامات بمدينة تونس المحروسة يعود تاريخه إلى سنة 1840 أي أواخر النصف الأوّل من القرن التّاسع عشر، وصل عدد حمّامات مدينة تونس العتيقة حتّى تلك الفترة إلى ثلاثين حمّاما. وهي على التوالي حمّامات: الدولاتلي ونهج الحُكّام والعريان والمطيهرة، والصبّاغين والقشاشين (قرب جامع الزيتونة نهج الكتبية) والديوانة القديمة (بين نهج القصبة ونهج زرقون)، والدّيوان (قرب حي الحفصية)، والناعورة، والذّهب وحمّام اليهود بالحفصيّة وحمّام سيدي محرز (والمعروف تاريخيا بحمّام سيدي خلف والد سيدي محرز، وقد دُفن بجانب هذا الحمّام)، ويوسف صاحب الطابع والرّميمي والشابو وعين الدوّارة وسيدي بوسعيد ودُور الحارّة وسيدي بلغيث (بالحجّامين) وقرّيس (بباب الفلّة) والمرّ (بباب منارة) وحمّام النّساء (باب منارة) والتمّارين (باب منارة) والڤرجاني والسيّدة لندرية والزيتوني وحمّام بآلرّمضان.

  • ولمؤسسة الحمّام مصطلحات معمارية مثل: باب الحمّام المعروف بشكله وألوانه وزخارفه وقاعاته الخاصّة. وهي المحرس والمقصورتان وبيت البارد وبيت البدل وبيت السّخون وبيت النار الحاوية على الموقد المُسمّى (الفرناق)،كما نجد بعض العناصر المعمارية مثل (التنفيسة) وهي ثقوب في سقوف قاعات الحمّام تفتح من السّطح للتّخفيف من الحرارة أو لإزالة الرطوبة وكذلك الدّكانة في قاعة التّدليك، و (الزّقاق) وهو حلقوم أو سرداب برميلي ينطلق من تحت الموقد ليتفرّع عبر جهينيمات لحمل البخار السّاخن تحت أرضية الحمّام ثمّ ينفد إلى المدخنة.
  • كما يلفت الانتباه أيضا الكثير من المصطلحات الخاصّة بوظائف الحمّام مثل: الحمامجي وهو صاحب الحمّام ووكيل الحمّام وهو المشرف على إدارة الحمّام وصاحب الصندوق أي صندوق الأمانات حيث تحفظ به الأشياء الثمينة للزبائن و (حارزة) وهي في الأصل حارسة تقوم بدلك النّساء وإزالة الأوساخ من أجسامهنّ. وفي المقابل تجد مصطلح (الطّياب) بالنسبة إلى الرّجال، إضافة إلى وظائف أخرى مثل حارس المحرس وحارس للبدل وحارس المقصورة وحارس المطهرة والزبّال وهو من معاوني الفرانقي المكلّف بإشعَال الموقد والاعتناء بالنّحاسة وغاسل الفوطات.
  • كما اختصّ الحمّام بألفاظ أخرى مرتبطة بأنواع الاستحمام مثل: (حمّام الوسخ) وهو استحمام العروسة قبل حفل الزّفاف بسبعة أيام، و (حمّام الصبغة) الذي يأتي بعد حمّام الوسخ بثلاثة أيام لغسل شعر العروس المُخَضّب بالحناء أو المردومة و (حمّام التشليلة) وهو حمّام قبل حفل الزفاف. أمّا العريس فيذهب إلى الحمّام صبيحة يوم الزّفاف...
  • هذا وللحمّام وظائف أخرى غير وظيفته الأساسيّة أي الغسل، لعلّ أبرزها الوظيفة الصحيّة العلاجية التي تتجسد في فن الغسل وذلك بأن يمرّ المستحمّ بمراحل عدة تترجم عن سلوك خصوصي مُقسّم بحسب طقوس صحيّة وعلاجية تخضع هي نفسها للبناء الهندسي للحمّام الذي اعتمد على تعاقب القاعات الباردة فالدافئة ثمّ الحارة. وكلّ هذه العمليات المتسلسلة تترجم عن ثقافة صحيّة شاملة تراعي صحّة الجسد والنّفس معا في علاقة جدلية تفاعلية بين المادي والروحي.

هذا إلى جانب الوظيفة الدينية الاجتماعية، إذْ يعتبر الحمّام مكان الغسل أو الطّهارة الكبرى للمسلم بعد الجنابة. ويكون ذلك واجبا على المسلم والمسلمة في حالات منها: خروج المني أو الحيض أو بعد الولادة. كما يعتبر الحمّام أيضا فضاء لقاء وحياة اجتماعية. وهو ما يُفسّر وجود مؤسسة الحمّام بالقرب من الجامع أو وسط السوق. وقد زادت العادات والتقاليد والمعتقدات الشعبية رسوخا وتنوّعا وثراء في نشاطه ووظائفه، يمارسها المجتمع في مناسبات اجتماعية ومواسم دينية باعتبارها طقوسا مُكَمّلة للشريعة وأحكامها أضفت عليها طابعا احتفاليا يمتزج فيه الدّين بالعادات والتقاليد، ويتفاعل فيه النفسي مع الاجتماعي والعاطفي مع الروحي. فللمسلم علاقة حميمة ومتواصلة مع مؤسسة الحمّام طوال مراحل حياته منذ ولادته إلى وفاته، حتى غدا الحمّام من أهم المؤسّسات التي تحوم حولها حياة الفرد والجماعة في المجتمع الاسلامي.