التربات في تونس

من الموسوعة التونسية
نسخة 12:45، 21 فبفري 2017 للمستخدم Bhikma (نقاش | مساهمات)

(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى: تصفح، ابحث

من الجدير بالذكر أن التربات العائلية لم تظهر في تونس بالمفهوم المتداول اليوم إلا عند حلول الأتراك العثمانيين وانقراض الدولة الحفصية بخلع السلطان مولاي محمد الحفصي ونفيه إلى إيطاليا. وقد جلب العثمانيون معهم جملة من التقاليد أهمها إدخال المذهب الحنفي في البلاد التونسيّة بعد أن كان المذهب السائد هو المذهب المالكي. ومن جملة ما جلبوه أيضا عادة إنشاء تربات عائلية تشيّد داخل الحاضرة حذو المساكن والمدارس والجوامع بعد أن كان أهل البلاد لا يعرفون للدفن مكانا غير المقابر العموميّة.والغالب على الظن أن هؤلاء الأتراك قد شعروا بكونهم غرباء عن هذه المدينة فأرادوا تجذير بيوتاتهم بها فكانت التربة صيغة من صيغ هذا التجذير. ويعتبر يوسف داي (1610 - 1637م) أول من سنّ ذلك في تونس. فبمناسبة إحداثه لجامعه المعروف بسوق البشامقية والمنسوب إليه (جامع سيدي يوسف) أسس تربة خاصة به. واقتفى أثر يوسف داي الكثيرون سواء منهم أبناء الجالية التركية كآل بالخوجة وآل لاز وآل الجزيري أو من أبناء البلاد الأصليين كآل محسن. ويعتبر حمودة باشا المرادي (1631 - 666م) من أشهر من اعتنى بالتربة العائلية اذ أردف جامعه الحافل الكائن حذو زاوية الولي أحمد بن عروس بتربة بديعة بها قبره إلى جانب قبور آل بيته باستثناء الأمير رمضان باي الذي لا قبر له. وعلى هذا المنوال في إنشاء التربات الخاصة سار الملوك الحسينيون. فكانت لهم عناية خاصّة بهذه الظاهرة الحضاريّة.

تربة حسين باي بن علي[عدّل]

لقد اعتلى حسين باي عرش البلاد في جويلية سنة 1705 وهو يعتبر من أبناء البلاد اذ بها مسقط رأسه ومنها والدته. وبعد أن وطّد الأمن وأقر النظام التفت إلى البناء والتشييد فأنشأ بمدينة تونس تربته الأولى المعروفة بتربة سيدي الفلاري والكائنة بنهج تربة الباي وذلك سنة 1711. ولهذه التربة ثلاث واجهات مطلة على الشارع بكل منها رخامة نقشت عليها نصوص شعرية تؤرخ للمعلم. وبعد ذلك بزمن طويل أنشأ حسين باي تربته الثانية بمناسبة بناء جامعه المعروف بالجامع الجديد الكائن بنهج الصباغين بالحاضرة سنة 1726. وهي تعرف بتربة سيدي قاسم السبابطي وهو ولي دفن بها إلى جانب ولي آخر يدعى سيدي قاسم الباجي. على أن إرادة الله كانت غير إرادة حسين باي إذ أن نهايته الأليمة على يد حفيده للأخ يونس باي بن علي باشا في يوم 13 ماي 1740 وهي حز رأسه عن جسده قرب القيروان لم تسمح بأن يدفن كليا بإحدى هاتين التربتين. وهكذا بالرغم من إحداثه لتربتين فإن جثمان حسين باي بن علي قد دفن حيث قتل قرب مدينة رقادة وقبره هناك غير معروف ولم يستطع أحد أن يدلنا عليه، مع أن الشيخ محمد الصغير بن يوسف الباجي صاحب كتاب "المشرع الملكي في سلطنة أولاد حسين بن علي تركي" يدّعي أن يونس باي أمر بنقل جثة عم أبيه على عربة وصلت إلى باردو فأذن علي باشا بغسله وتكفينه والجمع بينه وبين الرأس في القبر غير أن هذا الخبر لم يتحقق لدينا لأن صاحب "المشرع الملكي" هو الوحيد الذي ذكره. أما تربة سيدي قاسم السبابطي التي دفن بها رأس هذا الباي فهي عبارة عن غرفة مربعة الشكل تعلوها قبة عالية ولها نافذة تفتح على الشارع ويوجد بها إلى جانب قبر الوليين سيدي قاسم السبابطي وسيدي قاسم الباجي قبر حسين باي وقبر ابنه الأكبر الأمير محمد الرشيد باي وقبر أخيه محمد بن علي ابن علي باشا.

تربة علي باشا[عدّل]

لمّا استقرّ علي باشا في الإمارة سنة 1735 شرع في إنشاء عدّة مبان مهمّة منها على سبيل الذكر لا الحصر المدرسة الباشية ومدرسة بئر الحجار وبرج جبل الجلاّز وغيرها. وقد فكر هذا الأمير في آخرته كما فكر في دنياه فأنشأ تربته الملاصقة للمدرسة الباشيّة والكائنة اليوم بنهج الكتبية عدد 29. وهي تربة أنيقة جدا تشتمل على مدخل وفناء ذي أروقة دائريّة أعمدتها رخامية رقيقة على غاية من البهاء تذكرنا بجمال الأعمدة في قصور حمراء غرناطة. وقد كسيت الجدران بالخزف التونسي المتعددة ألوانه. أما الغرفة الجنائزيّة فهي عبارة عن قاعة مربعة الشكل كسيت جدرانها بالرخام المنزل على الطريقة الايطالية تعلوها قبة بديعة تعد من أجمل قباب تونس وقد كسيت كليا ببديع النقائش ذات الأشكال الهندسية والنباتية من مزهريات تتفرّع عنها غصون وزهور إلى ما لا نهاية.

وقد دفن إلى جانب الباشا علي آل بيته، منهم أبناؤه سليمان ومحمد وأحفاده النعمان وإسماعيل ومصطفى وحسن. وللأسف الشديد تلاشت قبور جميع هؤلاء المذكورين عندما تحولت هذه التربة إلى مسكن خاص. وفي الثمانينات تولتها أيدي العناية فأصلحت ورُمّمَ ما درس منها وهي اليوم مقرّ لجمعيّة قدماء معهد نهج الباشا.

علي باي الثاني ينشئ تربة الباي[عدّل]

تربة الباي

بعد مقتل علي باشا الأول عاد العرش إلى أبناء حسين بن علي وأولهم الأمير محمد الرشيد، غير أن هذا الملك لم يعمر طويلا اذ توفي لثلاث سنوات فقط من ملكه أي سنة 1759 ودفن إلى جوار رأس أبيه بتربة سيدي قاسم السبابطي المذكورة أعلاه. ولما آلت نوبة الملك إلى شقيقه علي باشا الثاني الذي امتدّت مدته من 1759 إلى 1782 أنشأ في جملة ما أنشأ تربة جديدة خاصة بآل بيته وهي التي تقع في نهج تربة الباي وهو من أهم الأنهج بمدينة تونس العتيقة بالقرب من تربة سيدي الفلاري التي أنشأها أبوه كما أسلفنا.

وصف تربة الباي[عدّل]

إن شكل تربة الباي الخارجي يلفت النظر من حيث إنّ واجهتها كسيت بحجارة رملية صفراء، فاقعة اللون، محاطة بأطر من حجارة الكذال ذات نقوش هندسيّة ونباتيّة بارزة تعلوها قباب متعددة الأشكال والألوان. وهذا الشكل يميّز المعلم عن سائر المباني بمدينة تونس إذ العادة هي طلاء الجدران بطبقة كثيفة من الكلس (الجير) الناصع البياض. وقد زادت النوافذ الكبيرة المطلة على الشارع في غرابة هذا المعلم إذ أن العادة كانت تقتضي أن لا تفتح مثل تلك النوافذ إلا في الطابق العلوي من البناء، كما يبرز تفرد هذه البناية باستقلاليتها التامة عن بقية المباني على غير العادة المألوفة في التصاق المباني بعضها ببعض وفي هذا دليل على الأهمية المعمارية التي يكتسيها هذا المعلم.

  • المدخل: أما الباب الرئيس فذو مصراعين أحيط بإطار من الكذال ذي قوس متجاوز. وتوجد بالمصراع الأيمن منه خوخة تستعمل عادة في الدخول إلى المعلم وهي منخفضة إلى درجة تجعل كل داخل يضطر إلى الانحناء. فإذا ما ولجت تلك الغرفة وجدت نفسك في ردهة مظلمة أو تكاد إذ أن النور لا يتسرب إليها إلا من الباب الخارجي. ويوجد على يمين الداخل باب صغير ذو مصراعين وإطار من الكذال مستقيم يفضي إلى غرفة صغيرة كانت مجلسا للمقرئ المعين لتلاوة آيات الذكر الحكيم حسب ما ينص عليه الحبس.

أما بقية الدريبة فهي خالية من كل عناصر الزينة فيما عدا لوحتين من الخزف الايطالي الصنع صورت به عصافير وسط أطر دائريّة على الشكل المدعو في عرف أهل التخصّص "الصحن" (Patio).

ويقوم قبالة الداخل باب كبير محلى بإطار من الرخام الأبيض والأسود مما يعرف بالخادم والعلجية وهو باب كبير ذو مصراعين كسي بطبقة سميكة من النحاس الأصفر. والملاحظ أن واجهة هذا المدخل الثاني يعدّ من الناحية المعماريّة أهمّ بكثير من واجهة المدخل الأوّل الخارجي. ويفترض محمد العزيز بن عاشور أن هذا الباب الداخلي كان في الأصل الباب الأول الرسمي للتربة ثم أضيف الباب الثاني ودريبته المظلمة في فترة لاحقة. ويمكن أن نمرّ عبر الباب النحاسي الموصوف إلى سقيفة أقلّ اتساعا من المذكورة أعلاه، حيث نلاحظ وجود ثلاثة أبواب اثنان على اليمين وواحد على الشمال، وهو باب مستطيل ذو مصراع واحد من النوع الذي يعرف "بباب بالقميجة" يفضي إلى فناء جميل مربع ذي أروقة دائريّة قد فرشت أرضيته بالرخام الأبيض تفتح به غرف من جوانبه الثلاثة في تناظر بديع. أما الجانب الرابع فقد حفرت به طاقة حائطيّة، ويعتبر هذا الجزء أقدم أجزاء تربة الباي. ويلاحظ الداخل أيضا إلى هذا الفناء (وسط الدار) وجود عدة قبور رخاميّة نقرأ على مشاهدها ألقابا مثل "كاهية" و"بيرم" و"المملوك"...

  • الغرف: تتميز غرف تربة الباي باختلاف أشكالها فمنها المربع ومنها المستطيل ومنها المبني على شكل منحن، كما تتعدّد أنواع القباب التي تعلوها من المقبب إلى البيضوي، وكذلك شأن أساليب الزينة فإنها تتغيّر من غرفة إلى أخرى وهذا ناتج عن تعاقب التيارات الحضارية على البلاد وتأثر أهل تونس بها.

ومن المعلوم أن الدفن بتربة الباي كان يخضع لتراتيب معينة اذ نجد غرفة خاصة بالملوك من هذه العائلة وغرفة خاصة بالأميرات وأخرى بالمرموقين من الأمراء وبعض أعيان الوزراء. أما مماليك العائلة ذوو الحظوة فعادة ما نجدهم مدفونين بأحد فنائي التربة.

  • غرفة الباشاوات: تتميز هذه الغرفة بشكلها الخاص الذي يشبه بيت الصلاة بجامع محمد باي المرادي بالعاصمة أو بجامع السلطان أحمد (الجامع الأزرق) بإستانبول. وهي أشبه ما يكون بشكل الجامع العتيق بمدينة الكاف المدعو بالبازليك وهو اليوم مقرّ المتحف التاريخيّ.
غرفة الباشوات

في هذه الغرفة أربع دعائم كبيرة ترفع خمس قباب أوسطها أكبرها وقد كسيت جملتها بالجصّ المخرّم (النقش حديدة) البديع الصنع في أشكال مزهريات تتفرع منها أغصان وأزهار إلى ما لانهاية. أما الجدران والدعائم فقد كسيت بالرخام المنزل هو كذلك بأشكال المزهريات متعددة ألوانه على النمط الايطالي. واختصّت هذه الغرفة بدفن الأمراء الحسينيين الذين تربعوا على عرش البلاد التونسيّة لا يشاركهم في هذا الامتياز غير الشريف سيدي حسن المتوفى سنة 1777 معتقد آل البيت الحسيني وضريحه هو الواقع قبالة الداخل إلى الغرفة قرب النافذة المطلة على نهج سيدي الصوردو. ويختلف شكل قبر هذا الشريف عن القبور المحيطة به، اذ هو عبارة عن تابوت خشبي مرتفع كتب عليه: "بسم الله الرحمان الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد. هذا قبر الولي لله السيد الشريف حسن توفي في شهر ذي الحجة سنة 1191هـ/1777م". وبهذه الغرفة أيضا قبور كل من الأمراء المأمون باي المتوفى سنة 1785 وإسماعيل باي المتوفى سنة 1815 والسعيد باي المتوفى سنة 1858. وقبور هؤلاء لا تختلف في شيء عن قبور الباشاوات التي هي عبارة على توابيت رخامية مختلفة أحجامها وطرق زخرفتها باختلاف الفترة التاريخيّة، إذ نجد على بعضها نقوشا هندسية وعلى الأخرى نقوشا نباتيّة. وقد لاحظنا على قبر المولى علي باشا باي الثالث نقشا مماثلا لنيشان الدم الحسيني في شكله، كما يمكن أن نلاحظ اختلافا في شواهد القبور اذ أن النصوص الجنائزيّة تختلف من شعرية كتلك الموجودة على قبر الأمير إسماعيل باي، أو نثريّة بسيطة كتلك المنقوشة على قبر الباشا محمد الحبيب باي وقد جاء فيها: "الحمد لله وحده. هذا ضريح المرحوم سيدي محمد الحبيب باشا باي، توفي يوم الاثنين من شهر رمضان المعظم سنة 1347هـ" (1929م)، مع العلم أن آخر نص شعري نقش على مشهد قبر ملكي هو الذي يعلو قبر الملك علي باشا باي الثالث المتوفى سنة 1902. والعادة الجاري بها العمل في كتابة هذه النصوص هي أن تحفر حروفها بخط جميل في الرخام ثم يسكب بتلك الفجوات الرصاص السائل فتصير الحروف بارزة للعيان سهلة القراءة. لكن يلاحظ أن الإهمال والرطوبة قد أتيا على الكثير من هذه النصوص فتآكلت.

وممّا يلاحظ أنّ شواهد القبور يختلف بعضها عن بعض اذ أن جزءا من القبور ترتفع فوقه صورة العمامة والجزء الآخر يحمل صورة الطربوش أو بالأحرى الشاشيّة التونسيّة المعروفة سابقا باسم الكاليوش، وسبب هذا الاختلاف هو تاريخ وفاة الراقد في ذلك الرمس. فمن المعلوم أنّ السلطان العثماني محمود خان الثاني قد ارتدى سنة 1830 الزيّ الأوروبي المدعو بالرودنڨوت وأمر حكام الأقاليم المتميّزة والتابعة له بالولاء بتقليده.وكان الجالس على العرش الحسيني عهدئذ حسين باي الثاني فلبس الثوب الجديد عن مضض. وقد رأى السلطان محمود في جملة هذا التغير أن يتخلى عن العمامة وأن يغطي رأسه بالشاشية التونسيّة الحمراء الجميلة. وكان قبر حسين باي الثاني بن محمود باي، المتوفى سنة 1835، أول القبور التي حملت هذه العلامة.

وقد جرت العادة أن تغطى قبور الملوك بكساء من قماش المخمل المعروف عندنا بالموبر تطرز بأسلاك الفضة وقد أبلاها الدهر ولم يبق منها سوى واحد أو اثنين من باب الشاهد التاريخي، كما كان يوجد عند رأس كل قبر سنجق حريري مطرز بخيوط الفضّة شد إلى صار طويل وكتبت عليه بعض الأبيات من بردة الإمام البوصيري.

بقي أن نشير إلى وجود ثلاثة قبور صغيرة في غرفة الباشاوات لعل وجودها من باب التماس الرحمة من لدن الواحد القهار إذ أن الصغار "عصافير جنّة". ولم أستطع معرفة نسبهم لعدم وجود كتابة على شواهد قبورهم، والأقرب إلى الظنّ أو واحدا منهم على الأقل حمودة باشا الحسيني المتوفى سنة 1800.

وأمّا أرضية الغرفة فقد فرشت بزليج ملوّن متعددة أنواعه في غير نظام. ولعل عدم تبليط الأرضية ناتج عن كونها تحفر عند الحاجة لايجاد مكان قبر جديد فلم تلق عناية خاصة.

الغرفة الثانية: تقع على يمين الداخل إلى الفناء وهي مربعة الشكل تعلوها قبة كبيرة حليت ببديع النقش حديدة على حين كسيت جدرانها بالخزف الملون الغالب عليه البياض المستوحى من النمط الايطالي والإسباني.

قاعة أضرحة الأميرات الحسينيات

والقاعة مخصّصة لدفن النساء من أميرات البيت الحسيني اذ أن العادة اقتضت أن لكل واحد من الجنسين مكانا خاصا للدفن. والقبور المنتشرة في هذه الغرفة رخامية ترتفع عن الأرض بنحو سبعين سنتمترا على شكل توابيت زخرف بعضها بأشكال نباتية. ويبدو أن السبب في عدم وضع نص على بعض تلك القبور هو ما كانت تقتضيه التقاليد التونسيّة القديمة من حجب اسم المرأة لاعتباره عورة. والمشهور أن والدة المشير الأول أحمد باشا باي دفنت بهذه الغرفة.

  • الغرفة الثالثة: تقع قبالة غرفة الباشاوات وهي خاصّة بالحريم الملكي. وهي غرفة متسعة بل هي في الحقيقة غرفتان تعلو كل واحدة منهما قبة خاصة منقوشة. أما الجدران فقد كسيت بالخزف الملون وتوجد بها عدّة قطع تعرف عندنا "بالمحراب" أما القبور فهي على شكل القبور الموجودة في الغرف السابقة.
  • الجزء المضاف إلى تربة الباي: يعتبر كل ما ذكرناه إلى حد الآن الجزء الأول الأصلي من التربة أما الأجزاء المتبقية التي سيأتي وصفها فإنها ناتجة عن إضافات أدخلت على التربة على مدى السنين التي تلت بناء المعلم.

يمكن المرور إلى هذا القسم المضاف عبر باب صغير يفضي إلى غرفة على شكل حرف لام "ل" بها عدّة قبور نسائيّة. تعلوها قبة بسيطة طليت بالجير الأبيض نمر منها إلى قاعة أخرى أكثر اتّساعا ذات قبة بيضويّة الشكل كسيت جدرانها بالخزف الملون وبها عدّة قبور نسائيّة.

ومما يلفت النظر في هذه الغرفة وجود حاجز خشبي مشبك (برمقلي) تعلوه صورة الخبشات الحسينية وهي الطغراء علامة الملك. وداخل هذا الحاجز يوجد عدد من القبور النسائيّة وقبر رجالي واحد يحمل مشهده صورة الشاشية نقشت عليها هي أيضا الطغراء. وهو ما يدل على أن صاحب ذلك القبر هو أحد الملوك. فإذا ما خرجنا من الباب المقابل لذلك الذي دخلنا منه الغرفة وجدنا أنفسنا في الفناء الثاني.

  • الفناء الثاني: فرشت أرضيته بالرخام الأبيض الناصع وكسيت جدرانه بالجليز وتتوسطه شجرة ليمون وفي أحد أركانه قبران رخاميان وتفتح به غرفتان عدا تلك التي خرجنا منها. فأما المقابلة منهما فمربعة الشكل تعلوها قبة كبيرة مكسوة الجدران بالجليز وهي خاصة بالنساء وتستعمل أيضا مستودعا للنعوش. وأما الغرفة الأخرى فهي مستطيلة غير متساوية الأضلاع بها قبور رجالية وهي خاصة بدفن المرموقين من أمراء البيت الحسيني والقبور بها لا تختلف عن تلك التي شاهدناها في غرفة الباشاوات.

أشهر الأعيان المدفونين بالتربة[عدّل]

إلى جانب قبور الملوك الحسينيين والأمراء والأميرات المدفونين في تربة الباي توجد قبور جمع من الأعيان وخاصة منهم الوزراء الذين هم في الأصل مماليك مثل حسين كاهية المتوفى سنة 1277هـ/1860م والكائن قبره وسط الفناء الرئيس أو مصطفى خزنه دار المتوفى يوم 24 جويلية 1878 والمدفون حسب إرادته بالفناء الفرعي تحت شجرة الليمون ومصطفى صاحب الطابع أول رئيس للمجلس الكبير والمتوفى سنة 1861 وغيرهم.

والسبب في دفن هؤلاء الوزراء بتربة الباي هو كونهم غرباء عن البلاد ليست لهم عائلات بها، فدفنوا مع مخدوميهم خاصة أن أغلبهم متصاهرون مع العائلة المالكة. وفي حالات استثنائيّة قد يدفن الوزير في غير هذه التربة مثل ما حصل للوزير الأكبر محمد خزندار الذي دفن في تربة أصهاره السادة الأشراف بمقبرة الجلاّز، أو الوزير الأكبر خير الدين الذي دفن بتربة آل عثمان بحاضرة الخلافة إثر توليه الصدارة العظمى ونقل جثمانه إلى تونس إثر الاستقلال، أو الوزير يوسف صاحب الطابع الذي دفن بتربته التي أنشأها بسقيفة جامعه بالحلفاوين. والجدير بالذكر، أن أول تونسي مولدا ونشأة دفن بهذه التربة هو الوزير الأكبر محمد العزيز بوعتور المتوفى يوم 14 فيفري 1907، وذلك بإرادة من محمد الناصر باشا باي.

ومنذ ذلك التاريخ جرت العادة أن يدفن الوزير الأكبر في تربة الباي جوار الأمراء الحسينيين. وقد تمّ دفن أربعة وزراء بها إلى حدود تاريخ إلغاء النظام الملكي (1957)، وهم على التوالي، محمد العزيز بوعتور السالف الذكر ومحمد الجلولي المتوفى يوم 1 جوان 1908 ويوسف جعيط المتوفى في أكتوبر 1915 ومصطفى دنڤزلي المتوفى سنة 1926. وقد دفن جميع هؤلاء في غرفة خاصة مع الأعيان البارزين من أمراء البيت المالك مثل محمود العادل باي وإسماعيل باي وعز الدين باي والطاهر باي والبشير باي أولياء عهد المملكة وغيرهم.

من شهيرات النساء المدفونات في تربةالباي[عدّل]

دفنت بتربة الباي عدّة أميرات حليلات الأمراء ذوات الصيت من أشهرهن على سبيل الذكر لا الحصر:

  • الأميرة آمنة: وتدعى منانة وهي الملقبة بأّمّ الأمراء وهذه السيدة جليلة القدر حفلت الكتب بمناقبها فأبوها علي باشا باي الثاني وجدها حسين باي بن علي مؤسس البيت وحموها عمها محمد الرشيد باشا باي وزوجها ابن عمها محمود باشا باي وأخواها حمودة باشا وعثمان باشا وابناها حسين باشا الثاني ومصطفى باشا وكلهم ممن تولى العرش.
  • الأميرة فاطمة عثمانة: هذه الأميرة من أحفاد عثمان داي أول من استقل بملك تونس والمحسنة الكبيرة الأميرة عزيزة عثمانة وقد تزوجها حسين باشا باي الثاني إثر وفاة زوجها الأول محمد الڨايجي لكمالها ورجاحة عقلها وقد كانت له نعم المعين أيام ملكه إلى أن توفيت يوم 23 مارس 1827.
  • الأميرة كلثوم: هي كلثوم ابنة مصطفى باشا باي وشقيقة المشير الأول أحمد باشا باي الذي زوجها من رفيق صباه ووزيره مصطفى خزنه دار. وقد كان لها دور فعال في حياة زوجها السياسيّة وكانت الحامية الوحيدة له عند نكبته سنة 1873 فوقفت إلى جانبه متحدّية بذلك المشير الصادق باي ووزيره الأكبر صهرها السابق الجنرال خير الدين.

التقاليد الجنائزيّة في البيت الحسيني[عدّل]

لقد استقرّ الأمر في البيت الحسيني منذ فترة طويلة من الزمن على أن تكون التقاليد الجنائزيّة على النحو التالي:

إذا ما توفي الملك فإنه لا يمكن صدور الاذن بدفنه الا إثر مبايعة ولي العهد بالملك. ذلك أن تقاليد العائلة الحسينيّة تقتضي أن لا يدفن الملك إلاّ ملك مثله. فإذا ما تمّت البيعة يأذن الملك الجديد بنقل الجثمان إلى القصر السعيد بضاحية باردو حيث يتم تجهيزه ثم يلتحق به الملك والأمراء والأعيان بلباسهم الرسمي على أتم هيئة فيأذن الملك بسير الموكب الجنائزي ويوضع الجثمان على نعش مخصوص وتوضع عليه الكسبات والنياشين والشاشيّة المثبتة فيها الخبشات التي تعد شعار الملك. وقد كان المماليك في العهد القديم يسيرون أمام النعش رافعين صكوك عتقهم وذلك تقربا إلى الله زلفى.هذا بطبيعة الحال قبل إبطال الرق في تونس على يد المشير الأول أحمد باشا باي سنة 1846.

يمتطي الملك الجديد وحاشيته وآل بيته عرباتهم وينتقلون رأسا إلى القصبة ويكون وصولهم بطبيعة الحال قبل وصول الموكب الجنائزي. وقد جرت العادة أن يترجل الملك أمام زاوية سيدي عبد الله الشريف الكائنة خارج القصبة (قرب كلية العلوم الانسانيّة والاجتماعية اليوم) ثم ينتقل الموكب الملكي إلى بطحاء القصبة حيث يعد مجلس بتربة لاز ينال به الملك نصيبا من الراحة فإذا وصلت الجنازة يتقدم أعضاء المجلس الشرعي فيصلّون صلاة الجنازة على الميت وسط بطحاء القصبة برئاسة شيخ الاسلام الحنفي، ثمّ يأمر الملك بسير الركب وعند مستوى دار الباي يقف الملك وآله لتقبل تعازي رجال المجلس الشرعي ووجوه الناس ويقفل راجعا من حيث أتى، على حين يرفع الجثمان إلى مثواه الأخير بتربة الباي حيث يُدفن بالمكان المخصص له بعد أن يكون لواء العسّة قد انتزع النياشين والأوسمة والمحزمة الذهبية والسيف والكسبات، فمنها ما يسلم إلى الملك الجديد ومنها ما يسلم إلى ورثة الهالك.

هذه هي القاعدة العامة، أما استثناؤها فقد جاء على يد الملك محمد الهادي باشا باي فإنه لما توفي والده علي باشا باي الثالث سنة 1902 وبويع بالملك استنكف من أن يمضي ويفارق أباه في بطحاء القصبة فواصل السير مع الموكب الجنائزي حتى تربة الباي وأشرف على مراسم الدفن بنفسه.

من العادات المتعلقة بتربة الباي[عدّل]

لقد ارتبطت جملة من العادات بتربة الباي منها أن البايات أمراء البيت الحسيني كانوا يتشاءمون من فتح التربة الملكية إذ المعتقد أن هذه التربة إذا ما فتحت فإنما تفتح لثلاث مرات على التوالي وبسبب هذا التطير كانت رفات صغار الأمراء الحسينيين توارى بالمقابر العامة وخاصة منها مقبرة سيدي عبد العزيز بالمرسى. وكانت العادة أيضا أن لا يزور الملوك الحسينيون ذويهم المدفونين بالتربة في غير يوم عاشوراء من كل سنة. ومنها أيضا توظيف مقرئ يتلو القرآن الكريم طيلة أيام السنة دون انقطاع وانتداب نقيبة تسهر على إسراج التربة وتنظيفها. وقد حُبّست أوقاف كثيرة من الزياتين وغيرها لتلك الأغراض بلغت قيمة ريعها سنة 1938 نحو خمسين ألف فرنك، وقد كان نظر تلك الأحباس موكلا بجمعية الأوقاف. وقد شمل الإهمال هذا المعلم المهمّ إلى أن تدهورت حالته وكاد يزول من الوجود إلى أن طالته العناية بالترميم والاصلاح وفتح في وجه الزائرين منذ سنة 1996 بوصفه معلما تاريخيّا. بقي أن نشير إلى أن عدد القبور بالتربة هو مائة وسبعة وستّون بالعدّ الصحيح إلا أنه يصعب تحديد عدد الموتى المدفونين بها نظرا إلى احتواء بعض القبور على أكثر من رفات شخص واحد.