البشير خريف

من الموسوعة التونسية
نسخة 12:22، 6 مارس 2017 للمستخدم Bhikma (نقاش | مساهمات)

(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى: تصفح، ابحث

[1917 - 1983م]

البشير خريف

تدرب البشير خريّف في مدرسة الأقصوصة التونسيّة الفتيّة في الثلاثينات وتغذّى بثمار حركة أدبيّة وفنّية تجديديّة أينعت في تونس في تلك المرحلة التاريخيّة الحاسمة التي اضطربت فيها أركان المجتمع واحتدّ الصراع بين المقلّدين والمجدّدين. ولذلك مال البشير خريّف إلى التيّار التجديديّ وواجه مناهضيه بشجاعة أدبيّة فتحت له مسلكا بكرا ورشّحته ليفرض اسمه في دنيا الابداع الروائي منذ فجر الاستقلال.

والحقّ أنّ البشير خريّف قد توصّل إلى كتم أصوات خصومه وترصيع تاج الفنّ القصصيّ في تونس بدرر نفيسة بفضل تميّزه بموهبة أدبيّة أصيلة ومهارة فنّية رائقة ورؤية فكريّة عميقة وروح نقديّة مرحة. فمن ذلك الرحم الخصب تولّد عالم البشير خريّف القصصيّ طافحا بشذى التراث، متلوّنا بلون الواقع التونسيّ، مردّدا أصداء أفراح التونسيّين وأتراحهم، كاشفا عن تاريخهم القديم وواقعهم الرّاهن، سابرا نفسيّاتهم وطبائعهم. ولا نظنّ أنّ أديبا تونسيّا احتفل بالتونسيّين في أريافهم وقراهم ومدنهم وتعمّق في تحليل واقعهم مثلما فعل البشير خريّف. ولعلّه أبرز من أنصف المرأة التونسيّة المغبونة قبل الاستقلال، تلك المرأة التي تفتّقت حيلها في آثاره وتمرّدت على العادات المكبّلة وبدّلت نظرة بعض الرجال إلى الحياة وساندت حركات التحرير ووقفت مواقف إنسانيّة رائعة.

بتلك السمات التحم أدب البشير خريّف بأعماق المجتمع التونسيّ وخلب القرّاء بنكهة عربيّة تليدة وعمق إنسانيّ زاخر وتناغم مع روائع كوكبة الأدباء والفنّانين التونسيّين اللاّمعين. وهكذا أمسى البشير خريّف علما من أعلام الأدب التونسي الحديث فأدرجت آثاره في برامج التعليم بالمعاهد الثانويّة وشغلت الجامعيّين تدريسا وبحثا وتُرجمت إلى عدّة لغات أجنبيّة وعُرض بعضها في شكل تمثيليّات إذاعيّة وأشرطة سينمائيّة وتعلّقت بها عدّة دراسات نقديّة داخل تونس وخارجها تعلّقا ساق إلى صاحبها أهمّ الجوائز التقديريّة التونسيّة. فقد أُسندت إلى البشير خريّف جائزة علي البلهوان البلديّة سنة 1960 والجائزة التقديريّة الكبرى للأدب والفكر سنة 1981 والوشاح الأكبر للثقافة سنة 1990.

مسيرته[عدّل]

الدربة[عدّل]

ولد البشير خريّف بنفطة سنة 1917 ثمّ انتقل سنة 1920 إلى حيّ رحبة الغنم بالعاصمة صحبة والديه وإخوته. وبعد أن اختلف إلى كتّاب "سيدي البغدادي" وإلى "مدرسة السّلام" القرآنية التحق سنة 1925 بالمدرسة العربيّة الفرنسيّة الكائنة بنهج دار الجلد فأحرز الشهادة الابتدائيّة سنة 1932. وفي فضاء العائلة جنى البشير خريّف منذ فجر شبابه ثمار الأدب العربي القديم والحديث وحفظ بعض عيون الشعر العربيّ. وكانت المدرسة الابتدائية نافذة تسلّلت منها أشعّة الأدب الفرنسيّ إلى حياة صاحبنا تسلّلا خلبه بروائع كوكبة من الشعراء والقصّاصين الفرنسيّين. لقد تضافرت هذه العوامل على دفع البشير خريّف إلى حقول الأدب وأغرته بتدوين يوميّاته وتأليف بعض القصص والأشعار والانصراف عن مادّتي العلوم والرياضيّات بمعهد العلويّة الثانويّ. وقد أدّى ذلك إلى فصله عن الدراسة في نهاية السنة الثانية فركن إلى عزلة مملّة لم يتخلّص منها إلاّ عندما لازم أخاه الشاعر مصطفى. وفي هذا الطور اتّصل البشير خريّف بأبي القاسم الشّابي ومحمد البشروش وعلي الدوعاجي ومحمد صالح المهيدي وانضمّ إلى نوادي رجال الصحافة والمسرح انضماما أثار فيه الحنين إلى دروب الأدب فراوح بين ممارسة ألوان من المناشط الصناعيّة والتجاريّة وقراءة روائع الأدب العربيّ والأدب الفرنسّي. وعندما أصدر مصطفى خريّف جريدة "الدستور" سنة 1937 عاضده أخوه البشير بالاشراف على توزيعها ثمّ نشر بها مقالات في النقد المسرحيّ وأقصوصته الشهيرة الموسومة ب "ليلة الوطيّة". وبتلك الأقصوصة تجلّى ميله إلى المنزع الواقعيّ الاجتماعي وتعلّقه باستعمال الدّارجة في الحوار وكلفه بسبر أغوار الحياة العاطفيّة، غير أنّ النقّاد الصحافيّين انتقدوا أقصوصة "ليلة الوطيّة" وتهجّموا على البشير خريّف تهجّما كدّر حياته وحمله على الصمت. وسرعان ما احتجبت جريدة "الدستور" فالتحق صاحبنا بمدرسة سمنجة الفلاحيّة ثمّ غادرها في السنة نفسها نظرا إلى اعتلال صحّته وعمل كاتبا لدى أحد المحامين بالعاصمة. وقد حرص خريّف - إثر زواجه - على التوفيق بين الدراسة والكسب ففتح متجرا لبيع الأقمشة وتابع دروس "الخلدونية" مساء متابعة يسّرت له الاحراز على شهادة "البروفي" (Brevet élémentaire d'arabe) سنة 1940.

وقد تلوّنت حياة البشير خريّف في هذا الطور بظروف الحرب العالميّة، إذ ازدهرت تجارته في ظلّ السوق السوداء ثمّ كسدت بكسادها فانصرف عن التجارة ورجع إلى مجالس أهل الفكر والأدب واختلف إلى مدرسة "العطّارين". ومن تلك المدرسة حصل سنة 1947 على "شهادة الدراسات العليا" (Diplôme supérieur d'arabe) التي فتحت له مجال التدريس بالمدارس الابتدائيّة. إنّ التحاق البشير خريّف بسلك المعلّمين كان منعرجا حاسما في حياته، إذ وفّر له الوظيف الحكوميّ دخلا قارّا ويسّر له الاقبال على المطالعة والتأليف. فمنذ فجر الثلاثينات أمسى مولعا بقراءة القصص والروايات، متلذّذا بتصفّح كتب الأخبار والتاريخ والمناقب تلذّذا غذّى شغفه بتاريخ تونس ودعم اعتزازه ببطولات الأسلاف. وقد كان العهد الحفصيّ من أهمّ العهود التي شغلت البشير خريّف نظرا إلى خطر الصراع الذي دار آنذاك بين المسلمين والنصارى وصعود نجم الأتراك وبسالتهم في مواجهة النصارى. ولا شكّ في أنّ ظروف استقلال تونس قد غذّت نخوته بتحقيق النّصر وأحيت أمله في تقارب المسلمين وأذكت جذوة اعتزازه بتعاضد الأتراك والتّونسيّين على تخليص البلاد من قبضة النصارى في العهد الحفصي فعزم على تأليف رواية تخلّد أحداث ذلك العهد.

لقد درس البشير خريّف أهمّ المراجع المتعلّقة بالعهد الحفصي وجمّع عدّة وثائق وزار مواطن الأحداث الخطيرة التي وقعت بالبلاد في عهد إحمْيْدةَ الحفصي ووضع تخطيطا دقيقا لرواية وسمها ب"بلاّرة" ثمّ حرّر جميع فصولها. وإثر ذلك أعاد النظر في المخطوط ونقّح بعض فصوله وغيّر بنيتها وفق تخطيط جديد. ورغم ذلك فإنّ صاحبنا أعرض عن نشر روايته هذه لأنّه كان يفكّر - حسب ما دلّت عليه هوامش المخطوط - في فتح عالمها على فضاء أرحب. ولا شكّ عندنا في أنّ ظروف النشر آنذاك وغياب الفنّ الروائيّ عن الحركة القصصيّة في تونس والخوف من ألسنة النقّاد قد كبّلت البشير خريّف تكبيلا جعله لا يجازف بنشر روايته في تلك الفترة.

التحدّي[عدّل]

لقد اختلط البشير خريّف بجميع فئات المجتمع التونسيّ فألمّ بأهواء التونسيّين وسبر نفسيّاتهم ووقف على ثراء عالمهم وطرافة لهجاتهم وقوفا هداه إلى معدن ثريّ للأدب وغذّى ميله إلى الاتّجاه الواقعيّ الاجتماعيّ ونمّى إعجابه بروّاده التونسيّين الذين لمعوا في الثلاثينات والأربعينات من هذا القرن. وعندما تبلورت رؤيته الفنيّة عزم على تحدّي أنصار التقليد الذين تحاملوا على أقصوصة "ليلة الوطيّة" وألجموا صوته طوال عشرين سنة وصرفوا علي الدوعاجي عن استعمال الدّارجة في قصصه رغم تميّز أزجاله ومسرحيّاته المكتوبة بالدّارجة. فقد حرص البشير خريّف على تحقيق "ما تاق إليه علي الدّوعاجي" وجاهر بتمرّده على النقّاد وتمسّكه باستعمال الدّارجة في آثاره القصصيّة إيمانا منه بأنّ "اللّغة عند القاص غيرها عند غيره من الكتّاب: فالقاص شاهد عصره واللّغة مرآة النفس وصورة العقليّة".

وبينما كان البشير خريّف منكبّا على تحرير رواية "بلاّرة" تفتّحت حياته على حادثة وجدانيّة أحيت فيه أحلام الشباب وذكّرته بعالم رجال المسرح في الثلاثينات فأعرض عن رواية "بلاّرة" واستغلّ تلك المؤثّرات لتأليف رواية "حبّك درباني". وفي هذه الرواية عمّق البشير خريّف منزعه الواقعيّ الاجتماعيّ الذي دشّنه بأقصوصة "ليلة الوطّية" فحلّل العلاقات الاجتماعيّة ووقف على مؤثّراتها وسبر أعماق الحياة العاطفيّة وتفنّن في استعمال الدارجة في الحوار. وقد ظنّ صاحبنا أنّ انتشار موجات التجديد وتبدّل أذواق القرّاء وتنوّع الفنون الأدبيّة في تونس ستصرف الدّارسين عن التهجّم عليه، وإذا بالأقلام تشنّ عليه حملة انتقاديّة وتتّهمه بالتطفّل على الأدب.

إنّ هذه الموجة الثانية من الانتقادات قد كدّرت حياة البشير خريّف تكديرا حمله على مكاتبة الناقد التونسي فريد غازي المقيم آنذاك بفرنسا ليستنير برأيه في رواية "حبّك درباني" فأجابه فريد غازي بدراسة حلّل فيها الرواية وأبرز أنّ اللّهجة الدّارجة لا تُعدّ نقيصة فيها. ومنذ ذلك الحين ثبت للبشير خريّف زيف تلك الأقلام المتحاملة عليه وقرّ عزمه على تحدّي خصومه ومواجهتهم بالاصرار على اتّباع منهجه الخاصّ في القصّ والتعبير عن مكامن رؤيته. ولذلك رجع إلى مخطوط رواية بلاّرة فنقّح فصوله وغيّر ترتيبها وفكّر في توسيع أركان عالمها. وعندما استعصى عليه إغناء أحداث رواية بلاّرة اختار عددا من الشخصيّات التي شهدت في شبابها حكم الحسن الحفصي وألّف رواية برق اللّيل التي تُعتبر أوّل رواية تاريخيّة في الأدب التونسيّ وثمرة من ثمار وفاء البشير خريّف لذاته وإخلاصه لطبعه ورصده لتاريخ بلاده. وكان حصول برق اللّيل على جائزة علي البلهوان عربون اعتراف بقيمة قلم البشير خريّف وإيذانا بتحليقه في فضاء رحب.

التألّق[عدّل]

انتبه رجال الأدب والصحافة في فجر الاستقلال إلى قيمة أدب البشير خريّف السرديّ فنقدوا آثاره وتهافتوا على مجالسه بمقاهي العاصمة تهافتا كشف لهم عن عمق ثقافته وطرافة فكره وكلفه بالفنّ القصصيّ. والحقّ أنّ حياة البشير خريّف قد سارت على إيقاع إنصاته لواقع مجتمعه وشغفه بالأدب ونزوعه إلى التأمّل منذ أن خفّف عنه بعض أبنائه أعباء العائلة وأغروه بجعل منزل والده بتونس العتيقة ركنا هادئا للمطالعة والتأمّل والتأليف ومنتدى يختلي فيه بأصفيائه. ففي ذلك المحراب العابق بعطر السنين الخوالي والمرصّع بتراث العائلة تبحّر صاحبنا في مطالعة روائع الأدب العربي والأدب الغربي قديمها وحديثها ورصد حياة سكّان الحيّ وأتمّ نسج خيوط عالمه القصصيّ. وقد كان البشير خريّف في هذا الطور من حياته يجتمع بأهل الجريد المقيمين بالعاصمة ويختلف إلى مجالس أهل الفنّ والأدب ويتابع جلسات روّاد نادي القصّة ويخصّص أوقاتا للإقامة بنفطة. وبفضل تلك العوامل التحمت حياته بحياة التّونسّيين في العاصمة وتغذّى بثمار الأدب السرديّ وشحذ أدواته القصصيّة وعمّق رؤاه للحياة والفنّ تعميقًا تجلّت سماته في روايته الدقلة في عراجينها وفي مجموعته القصصيّة مشموم الفلّ.

وهكذا أمسى البشير خريّف الأب الحقيقي للرواية التونسيّة وعلما من أعلام الأقصوصة والقصّة القصيرة وأشهدنا على أصالة منزعه القصصيّ وحرصه على تجذير أدبه في التربة التونسيّة وبراعته في تطويع الفنّ القصصيّ للتعبير عن مكامن رؤاه.

الصمت[عدّل]

إنّ تنوّع الفنّ القصصيّ في تونس لغة وأشكالا واتجاهات قد كتم أصوات أولئك الذين آخذوا البشير خريّف على استعمال الدّارجة أو على طرق "نواحي نفسانيّة لا ينبغي تشريحها"، بل إنّ تلك الجوانب نفسها أمست موضوعات لأبحاث جامعيّة. ورغم أنّ أدبه أصبح ركنا قارّا في الدراسات التي اهتمّت بأدبنا القصصيّ وفي المنتخبات الأدبيّة التي تُرجمت إلى لغات أجنبيّة فإنّ البشير خريّف لم ينشر رواية بلاّرة وانقطع عن التأليف منذ مطلع السبعينات، مفضّلا الركون إلى صمت طويل مردّه إلى أنّ بعض الناشرين والسينمائيّين والصحفيّين والمترجمين قد سطوا على آثاره سطوا كبّل قلمه وأقحمه في مسالك القضاء المتشعّبة.

وعندما أقدم البشير خريّف بنفسه على طبع رواية حبّك درباني تجنّبا لعالم النّاشرين واجهته شروط الموزّعين فوأد آلاف النسخ في مخزن وبقي يجترّ طعم المرارة سنوات. وقد رأى في الكتابة المسرحيّة منفذا للخلاص من الناشرين والموزّعين ومجالا لايصال صوته إلى الجمهور الأمّي الذي اعتنى بقضاياه وتفنّن في استعمال لغته فألّف عددا من المسرحيّات. وعندما قدّم مسرحيّة "سوق البلاط" إلى لجنة المسرح وطلبت منه أن يحوّر بعض فقراتها سخر من تلك الشروط وانصرف عن التأليف إلى أن فارق الحياة سنة 1983.

آثاره القصصيّة[عدّل]

لقد أعجب البشير خريّف منذ فجر شبابه بالأدب السرديّ العربيّ ورصد أصداءه في الأدب الغربيّ رصدا نمّى تعلّقه بالتراث العربي وخلّصه من ضروب التبعيّة والمحاكاة، كما أنّه نهل من روائع الفنّ القصصيّ الغربي نهلا غذّى مواهبه القصصيّة وبلور رؤيته للفنّ والحياة. وبفضل تلك العوامل تعزّز توق البشير خريّف إلى نحت عالم قصصيّ من معدن المجتمع التونسيّ وبانت أوجه التناسق بين أركان رؤيته الفكريّة ونصوصه الابداعية. فقد تعلّق بالاتجاه الواقعي الاجتماعي في القصة وشُغف بالقصص التاريخي إيمانًا منه بأنّ "الكاتب فرد من المجتمع أوتي محنة التعبير كتابة عن خوالجه وأفكاره فيما يعيشه من مشاكل مجتمعه ذاك وعلله، والقصّة عرض لتلك المشاكل والعلل وتحليل لها ومفرّج منها بها".

إنّ هذه الرؤية الحاضنة لعالم البشير خريّف القصصيّ قد أضفت على كتابته مسحة من "الصدق الفنّي" على تعدّد أشكال آثاره واتّجاهاتها. وكانت ضروب الوصف ولغة الحديث الباطنّي والحوار من أهمّ الوسائل المحقّقة لذلك "الصدق الفنّي". فقد وصف الشخصيّات وصفا رشّحها لتمثيل فئات مهمّة من المجتمع التونسيّ ووظّفه لتصوير البيئة التي تجري فيها الأحداث والتمهيد لبروز المواقف الحاسمة، كما طوّع الوصف للايحاء بنظرته إلى واقع المجتمع وطبائع أفراده. وقد نَمت طرق الوصف تلك عن ميل خريّف إلى منزع القصّاصين الواقعيّين وأشارت إلى صلات عالمه القصصي بواقع المجتمع التونسّي. أمّا لغة الحديث الباطني والحوار فكانت، في جلّ الحالات، كاشفة عن أحاسيس الشخصيّات وعقليّاتها وشواغلها بعبارات مناسبة لدرجة وعيها ودالّة على أنّها تمثّل نماذج بارزة في المجتمع التونسيّ.

والحقّ أنّ البشير خريّف لم يقتصر على استعمال العاميّة في الحوار، ذلك أنّه فتح اللّغة الفصحى في السّرد والوصف على العبارات العاميّة كلّما وجد فيها إيقاعا متميّزا أو شحنة دلاليّة مفقودة في الفصحى. فقد اكتشف صاحبنا غزارة الطاقات الكامنة في العاميّة فتفنّن في استعمالها وتعلّق بها تعلّقا شجّعه على التهكّم من النقّاد في هوامش قصّته القصيرة الموسومة ب " محفظة السمار". وكثيرا ما نقد القصّاصين العرب العازفين عن العاميّة مبيّنا لهم أنّ الإعراض عنها "هروب من واقعنا ومن زماننا ومكاننا".

إنّ نهل البشير خريّف من تراثه واطّلاعه العميق على روائع القصّاصين الغربيّين وحرصه الدّائم على الإخلاص لطبعه والاهتمام بواقع بلاده قد مكّنته من شحذ مواهبه القصصيّة وبلورة رؤيته بلورة وسمت آثاره بطابع أصيل. فقد انطوت على خصائص الفنّ القصصي العربي والغربي وكشفت في الآن نفسه عن أسلوبه الخاصّ وطبعه المرح ونظرته إلى الفنّ والحياة وصوّرت التحام قضايا الشخصيّات بقضايا المجتمع التونسيّ في ماضيه وحاضره. ولئن تراءت لنا سمات أعلام القصص التاريخيّة والقصص الواقعيّة ظاهرة في آثاره ظهورا ينمّ عن عزوفه عن موجة الرواية الجديدة الغربيّة التي تسرّبت إلى حقول الرواية العربيّة فلأنّه ألمّ بمرجعيّات القارئ العربيّ في عصره إلماما يسّر له التناغم مع ذوقه الأدبيّ.

النزعة التاريخيّة[عدّل]

ألّف البشير خريّف آثاره القصصيّة التاريخيّة فجر الاستقلال تأثّرا بموجة الاعتزاز بالذّات والانتشاء بالحرّية والكلف بإرساء أسس الدولة الحديثة. وقد اهتمّت تلك الآثار بالمنعرجات الخطيرة التي هزّت أركان البلاد وكشفت عن وجوه ثلّة من الأعلام اضطلعوا بأدوار بطوليّة في الأحداث التاريخيّة الحاسمة. وقد تفنّن البشير خريّف في المزاوجة بين الأحداث التاريخيّة والأحداث القصصيّة مزاوجة حافظت على الجوانب التاريخيّة الثابتة وأغنتها بأحداث خياليّة وفّرت لها أركان "القصص الفنّي". فآثار البشير خريّف التاريخيّة جمعت بين الشخصيّات التاريخيّة والخياليّة وتفتّحت على قصص عاطفيّة بطابع إنسانيّ مشرق وأطلّت من زواياها وجوه أبطال خياليّين مثّلوا نماذج لفئات باسلة تجاهلها التاريخ.

لقد نوّه البشير خريّف في "محفظة السمار" بأدوار الزعماء التونسيّين في الحركة الوطنيّة ووصف مواقفهم ومواقف الأبطال المغمورين، إنصافا منه لجميع من قاموا بأدوار حاسمة في أحداث أفريل 1938. فقد أسند إلى طالب زيتونيّ دورا بطوليّا ونسج خيوط قصّة ربطته بالفتاة "نفيسة" نسجا كشف عن إسهام المرأة التونسيّة في تحرير بلادها. وقد وسم صاحبنا قصّته القصيرة هذه ب "محفظة السمار" وجعل نفيسة تفضّل حرق المحفظة في فجر الاستقلال على تركها بين "أيد غبيّة"، تلك المحفظة الملطّخة بدم "الصّادق" والشاهدة على دور طلبة الزيتونة في الحركة الوطنيّة.

إنّ اعتناء البشير خريّف بالشخصيّات القصصيّة وتفنّنه في جعل القصّة الاطار محتضنة لقصّة مضمّنة وحرصه على تشويق القارئ في المقدّمة قد وسمت "محفظة السمار" بسمات قصصيّة فنّية خاصّة وخوّلت له رصد مظاهر النموّ للشّخصيّات وانفعالها بالأحداث. فبطل هذه القصّة القصيرة نشأ مكبوت العواطف في وسط يفصل المرأة عن الرجل، وعندما انتقل إلى العاصمة تبلور وعيه السياسيّ وتفتّحت حياته على عالم عاطفيّ زاخر ملأ كيانه وأنار أركان وجوده، ذلك أنّ الحبّ ربط بينه وبين فتاة مُحجّبة ربطا بثّ فيهما روحا وطنيّة دافقة وغيّر مجرى حياتهما. فقد أمست نفيسة مهتمّة بالنضال السياسي، مساندة للمقاومين مساندة بدّلت نظرتها إلى الوجود بعد أن كانت تقيم في بيت عائلتها معزولة عن العالم الخارجيّ وأضحى الصّادق مدفوعا بعاطفة جيّاشة. وهكذا كانت "محفظة السمار" شهادة إنصاف للأبطال المغمورين وعامل إذكاء للنزعة الوطنيّة وإسهاما من الكاتب في وضع أسس مجتمع جديد يعتزّ بجميع أفراده ويعترف بمنزلة المرأة ويسمو بعاطفة الحبّ سمّوا مطهّرا من الشوائب.

وفي رواية "برڤ الليل" حافظ البشير خريّف على أهمّ الأحداث التاريخيّة التي وقعت بتونس أيّام الحسن الحفصي واستشهد بكتب التاريخ والأخبار وقرن الأحداث التاريخيّة بأحداث خياليّة قرنا ولّد قصّة عاطفيّة كان لبر˜ اللّيل دور البطولة فيها. لقد صوّرت رواية برڤ الليّل مظاهر العبوديّة المكبّلة للمجتمع التونسيّ أيّام الحسن الحفصيّ ووقفت على اهتزاز أركان البلاد بقدوم خير الدّين بربروس واستنجاد السلطان بالنّصارى. وقد أفاض الكاتب في التنويه بحرص خير الدين على نشر الأمن بتونس وضمّها إلى الخلافة العثمانيّة وحلّل عوامل الاحتلال الاسباني وصوّر فظاعة تنكيل جنود شارل الخامس بالأهالي. وبذلك ألمّت الرواية بالأحداث السياسّية التي عصفت بالبلاد ورصدت عوامل انبثاق الوعي في حياة الأفراد وتوقهم إلى الحرية رصدا فتح عالمها على فضاء رحب. فقد انفتح عالم الرواية على قصّة حبّ بين العبد برڤ الليل والمرأة الشّابة ريم تأثّرت أطوارها بالأحداث التي وقعت بتونس في عهد الحسن الحفصي وبثّت في العبد طاقات عجيبة سخّرها للظفر بحرّيته والاسهام في تخليص البلاد من الاسبانيّين.

إنّ تأليف الكاتب بين الأحداث التاريخيّة والأحداث القصصيّة وإسناد دور بطوليّ عجيب إلى العبد برڤ اللّيل قد ربطا الرواية بالواقع التاريخيّ ووسماها في الآن نفسه بطابع خرافيّ موصول بالعقليّة الخرافيّة التي شاعت زمن الأحداث وتجلّى صداها في كتب المناقب والأخبار وفي حكايات القصّاصين الشعبيّين. وقد حافظ الكاتب على الأحداث لايهامنا بحقيقة عالمه الروائيّ، ذلك أنّه لم يطلق عنان خياله إلاّ في الفجوات التي تركها المؤرّخون أو في الوقائع التي اختلفت فيها كتب الأخبار فكان أصدق منها لهجة وأعمق منها رؤية. أسفر تأثّر البشير خريّف بظروف تونس زمن الاستقلال عن توظيف التاريخ في الرواية توظيفا أبرز للتونسيّين أنّهم من سلالة شعب توّاق إلى الحريّة بمختلف وجوهها وذكّرهم بأنّ تعاضد أجدادهم مع الأتراك كفّ عن بلادهم ضروب الأذى وبيّن لهم أنّ التخاذل عن نصرة خير الدّين أوقعهم بين مخالب النصارى والحفصيّين الذين أوقدوا نيران "خطرة الأربعاء" الشنيعة. وكان لرؤية الكاتب دخل في إبراز نقمة التونسيّين على الحسن الحفصي وتكفيره عندما استنجد بالاسبان والسخرية من ارتباك بعض الأجداد في خضمّ الأحداث التاريخيّة الجسيمة.

وتحمل رواية برڤ اللّيل رسالة حضاريّة جليلة بإبراز روح تسامح المسلمين مع متّبعي الديانات السماوية جمعاء وتصويرها حسن معاملة الأتراك للأسرى المسيحيّين وإشارتها إلى المراتب السّامية التي احتلّها المسيحيّون المعتنقون للاسلام. وما تصويرها لبطولات العبد برڤ اللّيل واحتفالها برقّة مشاعره وسموّ أخلاقه وذكرها لتحرّره من العبوديّة إلاّ شاهد على نبذ الكاتب لمظاهر التعصّب وألوان الاستعباد. أمّا في رواية بلاّرة فقد حدّد البشير خريّف خطوط الأحداث التاريخيّة الكبرى التي عاشتها تونس في عهد السلطان "إحْمَيْدَة الحفصي" ثمّ فرّعها تفريعا رمّم به الفجوات التي اخترقت التاريخ وتوصّل إلى احتضان حياة النّاس الخاصّة والعامّة بتنويع المشاهد القصصيّة. وبذلك ألمّت الرواية بمظاهر الفزع التي شتّتت شمل التونسيّين زمن الحرب وصوّرت حياة الأنس والدّعة التي تنعّموا بها في أوقات السلم، شاهدة على قدرة العواطف الانسانيّة على تحطيم حواجز التعصّب والعنصريّة والاستعباد.

وقد نفخ البشير خريّف في التاريخ روحا بعثته بعثا أنار تجاويفه ودلّ على عوامل انتشار الوعي في الأجداد وتبدّل مواقفهم وانبثاق توقهم الطبيعي إلى الحرّية ورغد العيش. وبذلك المسعى أوقفتنا رواية بلاّرة على حياة المجتمع التونسيّ عندما كوته نيران الصراع بين الحفصيّين والأتراك والاسبان وبرّرت خروج التونسيّين من طور الخوف من الأتراك ومحاربتهم إلى طور الاستنجاد بهم والاحتماء بسيوفهم. والحقّ أنّ الكاتب قد بيّن لنا أنّ الشخصيّات التاريخيّة الشهيرة هي التي قادت الجيوش وخطّطت للمعارك وظفرت بالنّصر فكان بذلك، وفيّا للحقائق التاريخيّة. ولكنّه اعتنى، علاوة على هذا، بشخصيّات تاريخيّة أهملها التاريخ وجمع بينها وبين الشّخصيات القصصيّة ليقرن الجانب التاريخي بالجانب القصصيّ قرنا طريفا. فقد صوّرت لنا الرواية ثلاث أميرات نسجن خيوطا خفيّة واضطلعن بأدوار حاسمة في السّر والعلن هيّأت لتحقيق النصر. وكانت الأميرة الحفصيّة بلاّرة بطلة الرواية نظرا إلى صلة والدها بالأحداث التاريخيّة ومتانة علاقتها بأهمّ الشخصيّات وقيمة أدوارها في جلّ الفصول. وهكذا تعاضدت رواية بلاّرة مع رواية برڤ اللّيل لحمل رسالة حضاريّة ذات عبر، إذ أذكت نزعة الافتخار بعزّة الأجداد وقدرتهم على مواجهة جيوش الأعداء مواجهة الأنداد وتوصّلهم إلى التغلب على النصارى بفضل اتحادهم في ظلّ الوحدة الإسلاميّة، كما ذكّرتهم الروايتان بمواقف الخزي ونتائجها الوخيمة الباقية على صفحات التاريخ. وبذلك أبرز البشير خريّف للتونسيّين وقت خلاصهم من الاستعمار الفرنسي أنّهم من سلالة شعب توّاق إلى الحرّية، متفان في التضحية في سبيل عزّته، ومجّد مسيرة التونسيّين الطويلة على ذلك الدرب وقدرتهم على الخلاص من أسباب الوهن.

النزعة الواقعيّة الاجتماعيّة[عدّل]

أنشأ البشير خريّف بآثاره ذات النزعة الواقعيّة الاجتماعيّة عالما قصصيّا احتلّت فيه نفطة وتونس العاصمة رقعة شاسعة. وقد حلّل في تلك الآثار طبائع التونسيّين ورصد واقعهم الاجتماعيّ والسياسيّ والفكريّ وسبر أغوار حياتهم العاطفيّة ووقف على ألوان الصراع بين القديم والجديد في مجتمعهم، مقتفيا آثارها في حياة الأفراد ومصير البلاد من فترة الثلاثينات إلى فجر الاستقلال.

ورغم أنّ صورة المجتمع التونسي في بعض آثار خريّف، تبدو بعيدة عن الواقع الرّاهن، منصرفة عن القضايا التي تشغل التونسيّين في فجر الاستقلال فإنهّا تبقى متينة الصّلة بحياة كاتبها، مشدودة إلى ظروف تأليفها شدّا. فاستعمال الفنّ القصصيّ لاستعادة الذكريات غاية لا تقلّ شأنا في نظر صاحبنا عن غيرها من غايات التأليف القصصيّ، ذلك أنّه يعتبر "الذكر أثمن ما يتميّز به الانسان" ويرى أنّه لو لم يكن للقصص "إلاّ الاحتفاظ لصاحبها بصفحات من ماضيه يستعيدها عند غروب الحياة لكفاها فضلا". ولذلك احتضن الحنين عالم البشير خريّف القصصيّ ولوّن صوت الرّاوي بألوان من الدعابة والتهكّم والسخرية وسمت بعض القصص القصيرة وقسما من المواقف الروائيّة بسمة النوادر. وقد كانت آثار خريّف ذات النزعة الواقعيّة الاجتماعيّة متأثّرة بحركة بناء مجتمع جديد، إذ أحالت على العوامل التي دفعت التونسيّين إلى التبرّم بأوضاعهم زمن الاستعمار والثورة لاصلاح المجتمع والظّفر بالنصر ونوّهت بحركات زعماء الاصلاح التي هدت مسيرة البلاد منذ فجر الاستقلال. لقد كتب البشير خريّف روايته حبّك درباني والدقلة في عراجينها عندما أثمرت بذور الوعي وتخلّصت البلاد من الاستعمار وظفرت المرأة بحقوقها وألغيت هياكل الأنظمة القديمة. وكانت ظروف النخوة بتحقيق تلك الانجازات حافزة للبشير خريّف على البحث عن زمنه الضائع واستعادة ماضي جيله الذي استبدّت به العواطف المكتومة وخنقته الهياكل الهرمة وكتمت أنفاسه قبضة المستعمر. ولذلك مجّد الكاتب أعمال الأبطال المجهولين وأثبت مظاهر روعتها ونوّه بفضل من تسبّب في تغيير وجه البلاد وإزالة عوائق النهضة. وقد وظّف البشير خريّف التقنيات القصصيّة لتحقيق "الصدق الفنّي" في آثاره تحقيقا وصلها بالمنزع الواقعيّ، فاستغلّ الوصف لتصوير البيئة التي تجري فيها الأحداث تصويرا كشف عن واقع المجتمع وأنار أخلاق أفراده ونفسيّاتهم، كما تمكّن من جعل لغة الحوار ومضامينه مناسبة لوعي الشخصيّات، دالّة على عقليّاتها وطبائعها.

والحقّ أنّ تلك الآثار القصصيّة قد انطوت على سمات مذاهب أخرى ساعدت الكاتب على تجسيم رؤيته وإغناء عالمه القصصيّ. فبعض تصريحاته هدت إلى صلة "ليلة الوطيّة" وحبّك درباني بحياته الخاصّة ودلّت على أنّها من قصص الترجمة الذاتيّة. وفي رواية الدقلة في عراجينها ملامح الاتّجاه الطبيعي وخروج في الآن نفسه عن حدود الواقعيّة والطبيعيّة. وبذلك أشهدنا البشير خريّف على أنّه يستند إلى رؤية غزيرة الروافد ويُخضع أدواته الفنّية للتعبير عن تلك الرؤية دون اكتراث بما سنّه المنظّرون.

وقد دلّت بنية آثار البشير خريّف وسمات شخصيّاتها وفنّيّاتها القصصيّة على خضوعها لمقوّمات أهمّ الأشكال القصصيّة الغربيّة وتجذّرها في التراث السرديّ العربيّ في الآن نفسه. فقد طبع صاحبنا حبّك درباني والدقلة في عراجينها بطابع الرواية ووسم "ليلة الوطيّة" بسمات الأقصوصة ووظّف تقنيّات القصّة القصيرة في "النقرة مسدودة" و"خليفة الأقرع" و"رحلة الصيف". ولكنّه لم يتقيّد في جميع تلك الآثار بالقوالب المجهّزة التي وضعها المنظّرون بل لوّنها بألوان التراث السرديّ العربّي بالمزج بين الجدّ والهزل واحتضان الشعر والاستفادة من التضمين القصصيّ وتمزيق قناع الرّاوي.

والحقّ أنّ التكالب على المادّة وتحجّر العقليّات وكبت العواطف وإقصاء النساء عن عالم الرجال قد طبعت آثار البشير خريّف ذات النزعة الواقعيّة الاجتماعيّة بسمة قاتمة وكدّرت حياة عدّة شخصيّات، غير أنّ تنوّع مظاهر الفكاهة في تلك الآثار وميل الكاتب إلى النقد الهادئ السّاخر قد وصلاها بإحدى السمات المميّزة للتراث السرديّ ونمّا عن أصالة البشير خريّف في نحت أسلوبه الخاصّ في القصّ. وقد حقّق ذلك بفضل تدخّلات الرّاوي للتعليق على المواقف ومداعبة الشخصيّات والتهكّم عليها، إضافة إلى تفنّنه في توظيف الوصف والحوار لتوليد المواقف الهزليّة وبراعته في مفاجأة القارئ بإقحام بعض العبارات الدّارجة في سياق السرد الفصيح. وهكذا اتّصلت آثار البشير خريّف بروائع الفنّ القصصيّ الغربي وبالتراث السرديّ العربيّ دون محاكاة وكشفت عن أركان عالم قصصيّ متناسق الرؤى والأدوات ودلّت على مهارة صاحبنا في إنشاء لون قصصيّ أصيل.

النزعة الرمزيّة[عدّل]

ألّف البشير خريّف أقصوصته الرمزيّة الموسومة ب"المروّض والثور" للتلميح إلى موقفه من الصراع العربيّ الاسرائيليّ بعد أن رفضت الصحف التونسيّة نشر مقالة له عبّر فيها عن ذلك الموقف في نهاية الستّينات. والحقّ أنّنا لا نعثر على قرائن دالّة على العرب والاسرائيليّين في هذه الأقصوصة التي صوّرت صراعا بين ثور ومروّض في إحدى مدن الأندلس، رغم تصريح الرّاوي بأنّ الثور إنسان "ممسوخ لبعض ما اقترفه في حياته الانسانيّة" وإشارته إلى أنّه ثاب إلى رشده في نهاية المطاف وغيّر سلوكه مع المروّض. وعندما هدانا البشير خريّف إلى أنّه استغلّ سمات المروّض لنحت ملامح الاسرائيليّين واعتمد صفات الثور للدلالة على العرب بانت لنا خيوط الرمز واتّضحت مظاهر تأثير رؤية الكاتب في صياغة هذه الأقصوصة.

إنّ المروّض شخص ذكيّ أدرك مظاهر قوّة الثيران وعوامل ضعفها واستعان بمجموعة من الأتباع لانهاكها والقضاء عليها. ولذلك نجده يختار ثورا من الثيران في كلّ واقعة ويدفع به إلى الحلبة ليتولّى غيره إضعافه. وإثر ذلك يواجه المروّض الثور ولكنّه لا يشرع في مصارعته إلاّ بإذن الملكة ولا يجهز عليه إلاّ بإشارة منها. بهذه الملامح تنكشف إحدى وجوه الرمز ويصبح التشابه بين تصرّف المروّض مع الثور وتصرّف الاسرائيليّين مع العرب واضحا. فالمروّض يحيل على الاسرائيليّين الذين توصّلوا، رغم قلّة عددهم، إلى تبديد قوّة العرب بفضل استعانتهم بأدوات الاضعاف التي يمتلكها أعوانهم. ثم إنّهم لا يجهزون على العرب بعد إصابتهم بالوهن إلاّ بإذن أولئك الذين يهيّؤون للمصارعة ويخطّطون لها. ويمسي تصرّف الثيران مماثلا لتصرّف العرب لأنّ غياب فكرها، حسب رأي الرّاوي، حجب عنها عوامل قوّة المروّض وتسبّب في صرعها. لقد هجم الفرسان على الثور ف "جندل من جيادهم ثمانية كرّتها البغال خارج الملعب" ولكنّه لم يصب الفرسان الذي سدّدوا إليه الطعنات الأولى. وعندما جاء دور الرّاجلين هجم الثور على راياتهم الحمراء "لا يرى إلاّ إياها مسهوبا بلونها الأحمر غير مبال بالشخص الذي يغرز فيه الحديد". وتنتهي المصارعة بالمواجهة بين ثور منهك القوى، مطعون بسهام شتّى ومروّض "ثابت الجنان محكم الحركات في يمناه سيف قصير وفي يسراه الحريرة". وكانت المواجهات تنتهي بمصرع الثيران لأنّها لا تهتمّ إلاّ بالحريرة على حين أنّ المروّض "ساكن، ما عدا العقل منه فهو يقظ متحفّز" وعندما يحين وقت الضربة القاضية يستأذن الملكة ويجهز على خصمه. وبذلك برّر البشير خريّف أسباب انتصار إسرائيل على العرب في جميع الحروب ومهّد للكشف عن عوامل تبدّل تلك العلاقة.

لقد آمن بشير خريّف بأنّ العقل هو الكفيل بتقوية ضربات العرب ضد عدوّهم وإجباره على تجنّب مواجهتهم، وبنى حادثة الأقصوصة بناء مجسّما لرؤيته تلك. ففي خاتمة "المروّض والثور" كادت المواجهة أن تسفر عن انتصار المروّض مرّة أخرى، غير أنّ الثور انتبه فجأة و"ثاب إلى رشده ولم يعد يهتمّ بالحريرة الحمراء بل بصاحبها وقلّ نفخه وهدأت أعصابه" فارتاع المروّض وانسحب من الحلبة.وقد بثّت خاتمة الأقصوصة رسالة حضاريّة سامية نمّت عن رؤية الكاتب بإبراز أنّ استناد العرب والاسرائيليّين إلى العقل يسفر عن إيقاف سلسلة الحروب الدامية التي عصفت بكيانهم ويحملهم على التآلف والتصافي. وآية ذلك أنّ الثور "الراشد" تلطّف مع المروّض وبدّد فزعه تبديدًا جعله يُعرض عن لجنة الاحتفال ويغادر الحلبة برفقته.

آثار البشير خريّف[عدّل]

"ليلة الوطيّة" (أقصوصة بقلم صمصام) الدستور (جريدة) - العدد 3 السنة الأولى، 10 سبتمبر 1937.

  • إفلاس أو حبّك درباني (رواية).

الفكر، ديسمبر 1958 وجانفي 1959 ومارس 1959 ط 1: الشركة التونسية لفنون الرسم (بعنوان:حبّك درباني)، تونس 1980.

  • برق الليل (رواية). الفكر، ديسمبر 1960 وجانفي 1961 وفيفري 1961 ط 1: الشركة التونسيّة للنشر والتوزيع 1961.
  • من رزقه (أقصوصة). الفكر، جوان 1962.
  • الدقلة في عراجينها (رواية). ط 1: الدار التونسيّة للنشر، 1969.
  • مشموم الفل (مجموعة قصصية). ط1: الدار التونسية للنشر، 1971.
  • بلاّرة (رواية) تقديم وتحقيق: فوزي الزمرلي. ط1: المؤسّسة الوطنية للترجمة والتحقيق والدراسات "بيت الحكمة"، تونس، 1992.

ببليوغرافيا[عدّل]

  • الزمرلي فوزي، الكتابة القصصية عند البشير خريف، الدار العربية للكتاب، تونس-ليبيا، 1988.
  • طرشونة محمود، مباحث في الأدب التونسي، دراسات نقدية في مؤلفات المسعدي والمدني والفارسي وخريف، تونس، 1989.