اتجاهات التفكير الديني في إفريقية

من الموسوعة التونسية
نسخة 11:23، 6 مارس 2017 للمستخدم Bhikma (نقاش | مساهمات)

(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى: تصفح، ابحث

لقد احتضنت بلاد إفريقية منذ فجر الإسلام الجدل نفسه والحركيّة الفكرية ذاتها اللّذين ظهرا ببلاد المشرق العربي حول العقل والايمان، وتصوّر حقيقة الوجود الالهي، وصلته بالانسان، بل إنه يمكن القول إن المذاهب الفكرية الدينية المصطلح عليها ب "الفرق الكلامية" التي وجدت في المشرق العربي، كان لها صدى بإفريقية، وإنه كان لعلماء أصول الدين والعقيدة بإفريقية وبسائر بلاد المغرب العربي إسهام مكثّف في بلورة مذاهب الاعتقاد في الاسلام، ودور بارز في تنظير مسائل الفكر الديني، لاسيما في ما يتّصل بحقيقة "الذات الالهية" و"الإيمان" و"النبوّة" و"البعث" و"المعاد" و"القضاء والقدر". وقد كان للخوض في مثل هذه المسائل الشأن الكبير في دفع حركة التفكير العقلي وفي ازدهار مباحث أدبية وفكرية مهمّة مثل مبحث اللغة والتفسير، واللغة والتأويل، كما كان للموازنات السياسية والتحوّلات الايديولوجية في مرجعيات النخب الحاكمة بين المشرق والمغرب أثره في تفوّق بعض المقالات الكلامية وانتشارها في مقابل خفوت نظيرتها وتقلّص عدد أتباعها. ويمكن القول إن البواكير الأولى للجدل وللتفكير التقليدي في مسائل أصول الدين ظهر ضمن المدارس الفقهية التي احتضنتها إفريقية مثل مدرسة الإمام مالك (ت179هـ) ومدرسة الإمام أبي حنيفة (ت150هـ) على الأخصّ، وذلك قبل أن يكون لانتشار المذهب الشيعي الإسماعيلي دور بارز في إذكاء روح الجدل وتعميق النظر لاسيما لما عرف به هذا التيار من استناد إلى التأويل، واحتكام إلى علوم الباطن.

ويبدو أنّ التركيز الأوّلي على مذهب أهل السنّة اضطلعت به بعثة الفقهاء العشرة إذ أرسل الخليفة عمر بن عبد العزيز في حدود سنة 100هـ/718م إلى افريقية عشرة فقهاء من التابعين في مقدمتهم إسماعيل بن أبي المهاجر الذي ولي إفريقية سنة 100هـ/718م. وقد كان لكلّ من علي بن زياد (ت182هـ/798م) والبهلول بن راشد (ت182هـ/798م) الدور الأكبر في نشر المذاهب السنية في الفقه والعقيدة، وخاصة بعد ارتحالهما إلى المشرق العربي وتلقيهما العلوم على أبرز الفقهاء والمفسرين. فالبهلول بن راشد أخذ عن مالك وسفيان الثوري والليث بن سعد، وكان من أبرز تلامذته الإمام سحنون صاحب "المدونة" وواحدا أهمّ أعلام المذهب السنّي بإفريقية، وعرفت مدرسته في الفقه والتشريع بميلها إلى إيثار حياة الزهد والتقشّف على البذخ والاسراف. أمّا علي بن زياد فيعدّه الدّارسون المؤسّس الحقيقي للمدرسة المالكية في إفريقية والأندلس، وقد رحل ابن زياد إلى المشرق وتردّد على أرض مصر والحجاز والعراق طلبا للعلم فأخذ عن الليث بن سعد وسفيان الثوري، ولازم الإمام مالك وطالت إقامته بالمدينة فتلقى عنه "الموطأ" واشتهرت روايته بإفريقية حتى عُرف ب"موطإ ابن زياد" وهو عبارة عن تدوين لفقه الامام مالك ومروياته في الحديث. وذاع صيت ابن زياد فأخذ عنه كذلك الإمام سحنون، وكان يستفتيه البهلول بن راشد رغم أنه في طبقته (أي من نفس الجيل)، وأخذ عنه أسد بن الفرات الذي كان له الدّور البارز في دعم مذهب أبي حنيفة بإفريقيّة بعد أن أقدم ابن فروّخ على ذلك، ويُعدّ أسد بن الفرات كذلك حجّة في المذهبين وكان يدرسهما معا، ولا يرى تعارضا بينهما إطلاقا. وبدرجة أقلّ عرفت إفريقية مذاهب أخرى كمذهب الإمام الأوزاعي (ت 157هـ/773 - 774م) ومذهب الإمام الشافعي (ت 245هـ/859م) الذي تزعّم نشره عبد الملك ابن محمد الضبي.

وقد كان للأغالبة دور كبير في مساعدة هذه المذاهب على الانتشار وفي تطوّر حركة الجدل المذهبي بما عرفت به إمارة بني الأغلب في بدء عهدها من ميل إلى الاستقلالية عن بغداد، وترك شؤون الدين إلى العلماء والفقهاء. والحقيقة أن علماء السنّة وفقهاؤها بإفريقية كانوا مثل نظرائهم بجزيرة العرب أميل إلى عدم الخوض في العقائد والجدل في مسائل الإيمان والألوهية، إذ يغلب عليهم التسليم والتصديق. ويكفي أن نورد في هذا قول الإمام مالك حينما اشتدّ الجدل في مسائل صلة الصفات بالذات الالهية وما يتفرّع عنها من قضايا التشبيه والتنزيه فقال: "الاستواء معلوم - أي استواء الله على العرش - والكيف مجهول"، ولم يقبل الخوض في هذه المسألة على النحو الذي رسمه المتكلمون. على أنّه أمام اشتداد حركة الجدل، وظهور المتكلمين في قضايا الإيمان الديني والغيب، وأمام الأثر الذي أفرزه دخول أهل الأمصار والأديان والمذاهب الأخرى (ومنها المعتقدات الفارسيّة والمسيحية واليهودية) إلى الإسلام برزت أهمية الجدل الديني في بيان أصول العقيدة وحقيقة الايمان، وإبراز حقيقة المسائل المتعارضة كقضية القضاء والقدر، إذ تفيد النظرة الأولية الظاهرية إلى آيات القرآن أن الخطاب الالهي يعطي للعباد حرية الفعل والاقتدار عليه، لكنّه يفيد في مواضع أخرى أنّ الكلّ معلق بالمشيئة الالهية. فكان أوّل من تصدّر للكلام والجدل من أهل السنّة بإفريقية أبو العبّاس عبد الله بن طالب (ت276هـ/889) ومحمد بن محبوب (ت307 / 919م) وأبو بكر القمودي ومحمد بن فتح الرقادي وعلي بن منصور الصفار، وأبو بكر اللباد (ت333هـ/944م). ويبدو أن ثلاثة من أهل السنّة طبعوا مسار الجدل العقدي بإفريقية، وهم: محمد بن سحنون (ت256هـ/869م) وسعيد بن الحداد (ت302هـ/915م) وابن أبي زيد القيرواني (ت386هـ/996م) صاحب "الرسالة". فمحمد بن سحنون هو ابن الإمام سحنون، وقد أخذ عن والده وعن موسى بن معاوية الصمادحي، ثم ارتحل إلى المشرق حيث أخذ عن بعض العلماء هناك، ومن أبرزهم أبو مصعب الزهري (ت 242هـ/856م) من شيوخ المالكية، ثم عاد إلى القيروان حيث انتصب مدرّسا وقيل ألّف كتبا في الجدل والمناظرة. فقد ذكر له القاضي عياض في "ترتيب المدارك" أنه ألف عدّة كتب. وذكر في "تراجم أغلبية" أنّه ألف "كتاب الحجّة على القدرية" و"كتاب الحجّة على النصارى" و"كتاب الردّ على البكرية". أمّا أبو عثمان سعيد بن الحداد فهو إخباري ولغوي ونحوي ومفسّر تصدّر للجدل والمناظرة بعدما أخذ عن علماء إفريقية، ولم تكن له رحلة إلى المشرق رغم سعة علمه. ومن مؤلفاته كتاب "معاني الاخبار" وكتاب "الردّ على الشافعي" و"كتاب الأمالي" (توجد منه نسخة خطيّة بدار الكتب الوطنية ضمن مجموعة المكتبة العتيقة بالقيروان) وله مؤلف آخر بعنوان "عصمة النبيين". وقد كانت له مواقف ومعارضات على المذهبين الاعتزالي والإسماعيلي.وتصدر ابن الحداد للردّ على المعتزلة في كتابه "الاستواء" حيث بيّن غرض هذا الكتاب كالآتي: "وإن كان قصدنا في هذا الكتاب الردّ على النافية لله بنفيهم لصفاته".

أمّا أبو محمد عبد الله ابن أبي زيد القيرواني فهو وإن غلبت آراؤه واجتهاداته الفقهية على تفكيره العقدي، فقد كانت له إسهامات بارزة في الجدل والمناظرة، وتصدّر للخوض في مسائل عقدية كثيرة برزت آراؤه فيها. ويبدو أنّ تكوينه العلمي المتين كان وراء ذلك إذ أخذ في تونس عن أبي بكر بن اللبّاد وأخذ عن إبراهيم الأصيلي بالأندلس، ودارس ابن اسماعيل بفاس وابن شعبان بمصر. ويُذكر أن من الذين تلقّوا عنه أبا بكر الباقلاني، وكان على صلة بالولي والصوفي الكبير سيدي محرز بن خلف (ت413هـ/1022م) الذي أشار عليه بتأليف "الرسالة" ورسم له خطوطها الكبرى، وقد وضع كذلك مؤلفا بعنوان "رسالة في أصول التوحيد". وقد اجتهد ابن أبي زيد كغيره من كبار المتكلمين في وضع تعريفات دقيقة، متفرّدة للذات الالهية، تسند معنى أدقّ إلى مفهوم الألوهية. فهو يعرف الله في "الرسالة" على أنّه "الواحد الذي لا شبيه له ولا نظير، لا ولد له ولا والد، ولا صاحبة له ولا شريك، ليس لأوليته ابتداء، ولا لاخريته انقضاء، ولا يبلغ كنه صفته الواصفون، ولا يحيط بأمره المتفكرون، فالمتفكرون فيه عليهم أن يعتبروا بآياته، وألاّ يفكروا في ماهية ذاته، لأنهم لا يحيطون بشيء من علمه، إلاّ بما شاء، والله فوق عرشه المجيد بذاته، وهو في كل مكان بعلمه". واهتمّ ابن أبي زيد القيرواني ببيان مذهب أهل السنّة في الأسماء والصفات فأبرز أنّ لله الأسماء الحسنى والصفات العليا، وهو لم يزل بجميع أسمائه وصفاته، وتعالى الله أن تكون أسماؤه وصفاته مخلوقة محدثة.وفي خصوص القرآن الكريم أشار ابن أبي زيد القيرواني في مقدمة "الرسالة" إلى أنّ "القرآن كلام الله، ليس بمخلوق فيبيد، ولا صفة لمخلوق فينفد".

ولا بدّ من الاشارة إلى أنّ أهل إفريقية عرفوا المذهب الإباضي وهو أحد فروع الخوارج منذ ظهوره بالمشرق أي أواخر القرن الأوّل للهجرة، ويقوم المذهب الاباضي أساسا على التمسّك بمبدإ الامامة وعلى إنشاء دولة تكون بمثابة استمرار للعهد النبوي في مستوى العدل والرحمة ضدّ ظلم الملوك. وهم يرفضون المبدأ القائل بأنّ الخلافة لا بدّ أن تكون في أهل قريش، ويؤثّرون اعتماد العقل في تفسير الدين وبيان حقيقة العقيدة. وفي زمن الاضطهاد الذي تعرّضوا له من قبل الخلفاء الأمويين، وخاصّة عاملهم الحجّاج بن يوسف الثّقفي (ت78هـ/697م) ظهر الخوارج بإفريقية واستوطنوا على الأخص جزيرة جربة، ونشط الداعية سلمة بن سعد في نشر هذا المذهب الذي دخل القيروان بعد أن قدم من الشرق ناشرا مبادئ المذهب مستندا في ذلك على نقد أعمال الولاة القائمة على الجور والانحراف. وقد اشتركت فرقة الإباضية مع المعتزلة في القول بمبدإ "التوحيد" و"الوعد والوعيد"، و"نفي الرؤية" (رؤية الله بالأبصار يوم القيامة) والقول بخلق القرآن، وانقسموا إلى فريقين في مسألة "الجبر والاختيار" فأغلبهم وافقوا الأشاعرة في القول بالكسب، وقلّتهم وافقوا المعتزلة في القول بالاختيار. لقد تركّز فهم العقيدة عند الاباضية على وجوب معرفة الله، واعتبار صفاته ذاته عينها وعلى أن الايمان قول وفعل. ويرى أيمة الإباضية بوجوب المعرفة الالهية عقلا موافقين في ذلك المعتزلة والماتريدية. وتجدر الاشارة إلى أن كتاب الورجلاني "الدليل لأهل العقول" إضافة إلى كتاب أبي خزر الوسياني "الرد على جميع المخالفين" يعدّان أبرز مؤلفين يُجسدان إسهام إباضية إفريقية، في مسار الفكر الديني الأباضي بالعالم العربي الاسلامي.

ببليوغرافيا[عدّل]

  • معمر علي يحي، الإباضية في موكب التاريخ، الإباضية في تونس، نشر وتوزيع دار الثقافة، بيروت،1966.
  • Bouhdiba Abdewahab,L’Islam en Tunisie,à la recherche des normes perdues, Maison tunisienne de l’éditon.1972.
  • Demeersman A,«Le Maghreb a-t-il une marque ghazilienne?», IBLA,1958,no82,p109-116.
  • "soixante ans de pensée tunisienne à travers les revues de langue arabes IBLA,no26,1953,p113-205