ابن هانىء الأندلسي

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث

[320 - 362هـ/932 - 973م ]

ولد أبو القاسم محمد بن هانىء الأزدي الأندلسي سنة 320 هـ/932م على الأرجح، بكورة البيرة - وهي غرناطة فيما بعد - حيث كان أبوه هانىء استقرّ بعد هجرته من المهديّة، ولعلّه أتاها داعيا إلى الشيعة موفدا من الخلفاء الفاطميّين. انتظم محمد بن هانىء بحلقات العلم بإشبيلية وشبّ بها وقال الشعر. ولكن لم يصل إلينا شيء من شعره الأندلسي وصار من خلطاء والي المدينة. وعرف بارتكاب المحرّمات والتجرّؤ على الدين وربما سمّوا استهتارا ما كان تصويتا منه للنحلة الإسماعيلية. فكثرت القالة في الوالي بسببه، فاضطرّ الشاعر إلى الهروب إلى برّ العدوة اتّقاء لنقمة المحافظين من أهل الأندلس، وقد برّر فيما بعد هذه النقمة ب "قديم تشيّعه". حلّ بالمغرب سنة 347هـ/958م تقريبا، فصادف القائد الفاطمي جوهر الصقلّي على حصار مدينة فاس، فمدحه بقصيدة حائية لعلها أول قصائد الديوان زمنيا، فكافأه جوهر بمال زهيد، فتركه وقصد مدينة المسيلة بشرق الجزائر فانتظم ببلاط أميرها جعفر بن حمدون المعروف بابن الأندلسية وهو أزدي مثله، فلقي عنده حظوة كبيرة ومدحه بقصائد جيدة، منها الفائية المشهورة التي يصف فيها الكواكب (طويل):

أليلتنا إذ أرسلت واردا وحفا

وبنتا ترى الجوزا في أذنا شنفا

وأشاد في قصائده الجزائرية برفاه العيش في كنف الأمير الحمدوني حتّى غلب الزاب وقصبته المسيلة العراق وبغداد(طويل):

تبغدد منه الزاب حتّى رأيته

يصبّ نسيم الروض فيه فيستجفى

ويظهر أنّه استطاب المقام بالمسيلة إلى حدّأنّه اتّخذ منها مستقرّا دائما حتى بعد دخوله في خدمة المعزّ لدين الله وارتقائه إلى مرتبة الشاعر الرسمي للدولة العبيدية. ذلك ما يشعر به اعتذاره للخليفة في القصيدة المطولة - وهي الأخيرة في الزمن - التي بعث بها إليه بعد أن ودّعه على تخوم مصر: فقد رجع على أعقابه لأخذ عياله قبل الالتحاق بالخليفة في القاهرة المعزّية (طويل):

ولولا قطين في قصيّ من النوى

لما كان لي في الزاب من متلوّم

كان حلول الشاعر ببلاط المعزّ حوالي سنة 353هـ/964م، بطلب من الخليفة حسب رواية ابن خلكان. وهذا الطلب يعني أنّ صيت الشاعر تجاوز الزاب إلى إفريقية. ولا شك في أنّ ابن هانىء سعى إلى التقرّب من الخليفة الفاطمي، فقد أخذ يدرج المقولات الشيعية الإسماعيلية شيئا فشيئا في شعر المسيلة، كأن يقارن خدمة الحمدونيين للفاطميين بنصرة الأنصار - وهم أزديّون أيضا - للنبيّ محمد (صلعم) (كامل):

سدّ الامام بك الثغور، وقبله

هزم النبيّ بقومك الأحزابا وكان لا ينسب التشيع إلى الحمدوني فحسب، بل إلى سيفه أيضا (كامل):

في كفّ يحيى منه أبيض مرهف

عرف المعزّ حقيقة فتشيّعا

دامت خدمته للمعزّ نحو تسع سنوات، ولم تنقطع الا بمقتله أو وفاته سنة 362 /973م ببرقة عند رجوعه من توديع المعزّ. ونظم فيه نحو عشرين قصيدة تبرهن كلّها على تشيّع قوي عند الشاعر وانتصار دائم للمذهب الإسماعيليّ واقتناع بشرعية الحكم الفاطمي. فنراه يؤكد قداسة نسبهم المتصل بالنبيّ (ص) عن طريق الزهراء فاطمة (كامل):

أبناء فاطم، هل لنا في حشرنا

لجأ سواكم عاصم ومجار؟

وأحقّيتهم دون سواهم بإرث الرسول، الزمني والروحي معا. فالزمني عن طريق عليّ، وهو وحده الخليفة الشرعي (متقارب):

هو الوارث الأرض عن أبوين

أب مصطفى، وأب مرتضى

فالأمويون– ويكنّى عنهم بأبناء الطريد، أي أبناء مروان بن الحكم الذي كان الرسول نفاه عن المدينة رجال هم الداء العياء الذي سرى عن المدينة–والعباسيون– ويكنّى عنهم بالطلقاء لأنهم أبناء العباس طليق الرسول بعد أسره ببدر– بل حتى الشيخان في السقيفة، كل هؤلاء أدعياء غاصبون لا حق لهم في إمرة المؤمنين، بل هم أحفاد القرشيين–رؤوس الأحزاب– الذين ما فتئوا يقاومون الرسول ويقتلون ذريته (طويل):

إلى رمم بالطفّ منكم وأعظم

هم رشحوا تيما لارث محمّد

وما كان تيميّ اليه بمنتم

بأسياف ذاك البغي أول سلّها

أصيب عليّ، لا بسيف ابن ملجم

ويشيد بعصمة الإمام، المتولدة عن هداية خاصة من الله وصلة روحية بجدّه النبيّ، فاكتسب بهما علما فطريا بما كان وما سيكون، وتطهّر حتى صار مزيجا من الهداية والنور(طويل):

غدوا ناكسي أبصارهم عن خليفة

عليم بسرّ الله غير معلّم

وروح هدى في جسم نور يمدّه

شعاع من الأعلى الذي لم يجسّم

ولكن قيمة هذه القصائد المعزيات تكمن أيضا في الإشارات التاريخية أي في الجانب الوثائقي، المتصل بحروب المعزّ مع الثوار الداخليين من قبيلة زناتة خاصة، ومع العدو الخارجي، وهم الأباطرة البيزنطيون الذين يحاولون استرجاع جزيرة صقليّة إلى الحكم المسيحي. وهو ما يضفي على هذا الشعر نفحة حماسية جهادية قوية تقابل بين عزّ الاسلام - وقد رفعه المعزّ - وذلّ النصارى وقد قهرتهم الجيوش الفاطميّة (الكامل):

</poem> فلتعلم الأعلاج علما ثاقبا أنّ الصليب - وقد عَزَزْتَ - ذليل وليعبدوا غير المسيح، فليس في دين الترهّب بعدها تأميل. </poem>

وهذه الحروب دارت برّا وبحرا، فيتبسط الشاعر في وصف الأسطول الحربي، والمعركة البحرية وخاصة التراشق بما سمّي "النار الإغريقية" وهي قذائف نفطية مشتعلة تحرق السفن وتتلفها (طويل):

أما والجواري المنشآت التي سرت
لقد ظاهرتها عدّة وعديد
...من القادحات النار تضرم للطلى
فليس لها يوم اللقاء خمود
إذا زفرت غخا ترامت بمارج
كما شبّ من نار الجحيم وقود
فأنفاسهنّ الحاميات صواعق
وأفواههنّ الزافرات حديد

ولا يميز الشاعر بين الحروب الداخلية والحروب الخارجية، ولا بين محاربة المروانيين بالمغرب الأقصى والعباسيين بمصر وجهاد الروم بالبحر المتوسط، فكلّ ذلك عنده جهاد، واستيلاء جوهر على مصر سنة 358هـ/969م هو في نظره فتح مبين (طويل):

تقول بنو العباس هل فتحت مصر
فقل لبني العباس: قد قضي الأمر

وكذلك قهر القائد الزناتي ابن خزر وهو انتصار للدين على كافر به (البسيط):

</poem> من جاحدي الدين والحق المبين

ومن عادي الأيمّة والكفّار بالرسل

</poem>

ولا تقتصر القيمة الوثائقية على ذكر الحروب، فقد يصف الشاعر حالات سلميّة تتصل بالحياة في البلاط المعزّي، كنظام المواكب الرسميّة، وشارات الملك كالمظلة الضخمة المرصعة بالجواهر، التي ترفع فوق رأس الخليفة (كامل) :

وعلى أمير المؤمنين غمامة
نشأت تظلل تاجه تظليلا
نهضت بثقل الدّرّ ضوعف نسجها
فجرت عليه عسجدا محلولا.
...أيكيّة الذهب المرصّع رفرفت
فيها حمام ما دعون هديلا

وقد ختم وصفه لها بالبيت الذي عيب عليه واعتبر كفرا صريحا إذ جعل جبريل مبلغ الوحي واحدا من خدّام المعزّ:

</poem> أمديرها من حيث دار، لشدّ ما زاحمت حول ركابه جبريلا </poem>

وللشاعر إشادة خاصة بالسيف "ذي الفقار" الذي يزعم الفاطميون أنهم ورثوه عن الرسول ثم عن عليّ: </poem>

.. سمّاه جدّك ذا الفقار، وانما سمّاه من ناواك عزرائيلا لك حسنه متقلّدا، وبهاؤه متنكّبا، ومضاؤه مسلولا </poem>

وله أيضا وصف مكرر طويل للخيل، مع التماس لأحسن الصور واستخدام للمخزون الثقافي من القرآن وغيره (الخفيف):

</poem> أنت أصفيتهن حبّ سليما ن قديما للصافنات العتاق لو رأى ما رأيت منها إلى أن تتوارى شمس بسجف الغساق لم يقل: ردّها عليّ، ولا يط فق مسحا بالسوق والأعناق </poem>

وهكذا نرى أن ابن هانىء شاعر مدّاح، وشاعر مذهبي، فحتى مدائحه في غير المعزّ لا تخلو من شعارات شيعية، على أنه لم يمدح إلاّ من كان له ولاء للمعز كأفلح الناشب والي برقة، وأمير مجهول يدعى الشيباني، وكاتب يعرف بابن زائدة.

أما بقيّة الأغراض، فالهجاء مفقود أو يكاد، والرثاء ينحصر في قصيدتين نظمهما بالمسيلة، الأولى في وفاة حفيد للأمير الحمدوني، والأخرى في تأبين أم الأمير، وهذه المرثية الثانية تلفت الانتباه لأن فيها انتصارا قويا للأمهات وتعظيما لهن، ولا ندري هل هي من حكم الظرف، وهو الاشادة بخصال الفقيدة، أم هل هي من حكم التمذهب بنحلة القوم، المنتسبين إلى أمهم فاطمة، المستمدين منها كل شرعية (متقارب).

</poem> لأمّاتنا نصف أنسابنا إذا الملك القيل منّا انتمى دعائم أيّامنا في الفخار وأكفاء آبائنا في العلى ...فلو جاز حكمي في الغابرين وعدّلت أقسام هذا الورى لسمّيت بعض النساء الرجال وسمّيت بعض الرجال النسا </poem>

أمّا الوصف والفخر والنسيب والتأملات الحكمية فلا تستقل بقصيدة دون أخرى، بل تأتي هذه الأغراض ضمن القصائد المدحية أو الرثائية في مواقعها التقليدية. على أن الشاعر يتصرف أحيانا فيعوّض النسيب بالوصف، ويردف الاستهلال الطللي بخمرية، أو يدخل المدح مباشرة. والغالب على هذه الأغراض التقليد والمحاكاة والصور المجهّزة: من ذلك أن "اللون المحلي"، أي وصف ربوع إفريقية، أو ذكر مدنها، أو التلميح إلى تاريخها، يكاد يكون مفقودا. فإذا احتاج إلى التشبيه بجبل أو بصحراء، التجأ رأسا إلى الجزيرة العربية. فالشعر القديم، والثقافة الموروثة، هما الاطار المرجعي لذاكرته ومخيلته، وهي ظاهرة لعمري غريبة عند الشعراء الافارقة، قد سلم منها الاندلسيون أمثال ابن زيدون وابن خفاجة. هذا التأثر بشعر التراث لا يمنع ابن هانىء من دراسة المعاصرين له الأقربين إليه: من ذلك القصيدة المحيرة التي يذكر فيها ديوان المتنبي فيتأرجح بين الحط عليه والاعجاب به، والادعاء بأنه وحده قادر على فهم شعره (بسيط):

</poem> تنبّأ المتنبي فيكم عصرا ولو رأى رأيكم في شعره كفرا مهلا، فلا المتنبي بالنبيّ ولا أعدّ أمثاله في شعره السورا أصمّ، أعمى، ولكنّي سهرت له حتى رددت اليه السمع والبصرا </poem>

ولا نخال أنّ هذه القصيدة هي التي دعت إلى تلقيب ابن هانىء بمتنبّي الغرب. فالأمر أبسط من ذلك، ولا يعدو الاستشهاد بالنظير المشرقي، كما قالوا في ابن زيدون بحتري الغرب، وفي ابن خفاجة صنوبريّ الأندلس الخ... على أن أوجه الشبه بين الشاعرين كثيرة: منها الغلوّ في المدح - وإن كان ابن هانىء مدفوعا بعقيدة - والجنوح إلى الغريب والصور المعقدة، والاتفاق في المعاني الجهادية في تناول موضوع الحروب مع الروم، والاستنكاف من الهجاء والتورّع عن الشعر المرذول الساقط. على أن ديوان ابن هانىء - وقد نشره سنة 1935 الباحث الهندي زاهد علي في طبعة محققة مصدرة بدراسة ضافية في العقائد الاسماعيلية وموضحة بشروح لغوية واصطلاحية ومقارنات واستشهادات على غرار شرح العكبري لديوان أبي الطيّب - إذا ما أضفنا إليه ما اكتشفناه بمخطوط المكتبة الوطنية بتونس، يفقد شيئا من رصانته وينحدر إلى الممجوج المستقبح، وقد عزا بعض الباحثين المعاصرين هذه المقطوعات الماجنة إلى الفترة الأندلسية، والأمر فيه نظر. قلنا إن الشاعر مات ببرقة - وهو اسم مدينة تدعى اليوم المرج، أطلق على الاقليم بأكمله - وهو راجع من توديع المعز إلى حين. وتضاربت الأقوال في ظروف وفاته فقيل: قتل في معركة بين معربدين شذّاذ، وقيل: مات مخنوقا بتكّته. والأرجح أنه سكر فتاه في الطريق وأصابه برد الليل الشديد فمات مقرورا مجمدا. ولم تتح له الأقدار أن يلتحق بصاحبه فيباهي به شعراء المشرق كما كان يأمل. وعلى كل حال، فهو شاعر "مغربي ابن مغربي" - حسب عبارة المرحوم ح. ح. عبد الوهاب - دخل المغرب من أقصاه واستقر في أوسطه ولقي حتفه في أطرافه الشرقية. لذا صحّ ان نقول فيه: ابن هانىء المغربي.