ابن عرفة

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث

[716 - 803هـ/1316 - 1401م]

الفقيه أبو عبد الله محمد بن محمد بن عرفة ينسب إلى قبيلة ورغمة التي ترجع إلى قبائل هوارة، وهي من قبائل البرانس البربرية التي تأثرت كثيرا بالعرب واختلطت بهم وقد أشار ابن خلدون إلى ذلك. وترجع بعض القبائل المنتسبة الان إليها في الحقيقة إلى عرب بني سليم مثل: أولاد دباب وأولاد شهيدة وأولاد سليم والودارنة والدغاغرة والتوازين والمحاميد.وقبيلة ورغمة مستقرّة الآن بالجنوب التونسي (في ولايتي مدنين وتطاوين حاليا) وتشمل القبائل الفرعية الاتية: عكارة - الخزور - التوازين- الودارنة - الجبالية. ولا نعلم بالضبط إلى أي فرع من هذه الفروع ينتمي ابن عرفة، ولكن توجد إشارة متأخرة عند ابن أبي الضياف تقول إنّه من التوازين ولا ندري من أين استمدّ صاحب "الاتحاف" هذا الخبر الذي لم نجده في الأصول القديمة، ولكنه على كل حال ممكن لأنّ مقرّ بعض التوازين إلى عهد قريب يرجع إلى بلدة غمراسن. ولا نعلم أيضا المكان الذي كانت عائلة ابن عرفة مستقرّة به قبل هجرتها إلى تونس العاصمة، لكن توجد بعض القرائن تسمح بإرجاعها إلى بلدة غمراسن ولا يستبعد ذلك من الناحية العلمية باعتبار أن تلك البلدة أو القرية كانت معروفة في عصره إذ مرّ بها التجاني في رحلته التي وقعت زمن ولادة ابن عرفة وحدّثنا عنها طويلا وقال خاصة إنّ أهلها "بربر ورغميون".وتعتبر غمراسن على الراجح المقرّ الأصلي لورغمة ومنه تفرّعت وانتشرت حسب المعطيات المتوفّرة لدينا الان. ولا يعني ذلك أن عائلة ابن عرفة كانت حتما مستقرّة بها إذ أن السكن في ذلك الزمان كان بدويا ريفيا ومازال كذلك إلى يومنا هذا، بالاضافة إلى أن القبائل كانت دوما في مدّ وجزر يرجعان إلى أسباب سياسية واجتماعية واقتصادية ولا يصحّ أن نتصوّر توزيع القبائل مستقرّا عبر العصور...

وإلى أن نجد معلومات أدق في هذا الأمر يستحسن أن نكتفي بنسبته إلى ورغمة كما كان يفعل هو وكما فعل جلّ المترجمين له وخاصة تلاميذه العارفين بتفاصيل حياته. وليست لنا معلومات عن زمن هجرة عائلته إلى تونس ولكن نرجّح أن ذلك كان في مستوى أبيه. ولا يستبعد أن يكون سكان تلك الجهة ورجالها بوجه خاصّ يعتمدون في عيشهم الهجرة إلى مختلف المدن والقرى التونسية للاشتغال فيها. ونجد في النصوص القديمة بعض الاشارات إلى وجود والده في تونس - وقد كان رجلا صالحا لعله اشتغل مؤدبا - ونعلم أنه هاجر إلى الحجاز للحج والمجاورة حوالي سنة 740هـ/1339م واستقرّ هناك إلى أن توفي سنة 748هـ/1347م. ودفن بمقبرة البقيع بالمدينة المنورة.

تؤكد مصادرنا الموثوق بها أن ابن عرفة ولد بتونس العاصمة في رجب سنة 716هـ/أكتوبر 1316م. وليست لنا تفاصيل عن نشأته التعليمية، ولكن يمكن أن نتعرّف إليها من خلال المعلومات المتوفرة عن عصره وشيوخه. كان تعلمه الأوّل على يدي مؤدّب شهير هو أبو عبد الله محمد بن برال الأنصاري البلنسي الأصل وكان له كُتّاب بالقرب من جامع الزيتونة. وتردد ابن عرفة بعد ذلك على مشاهير شيوخ عصره لتلقي مختلف العلوم في المدارس الحفصية الكثيرة العدد وخاصة في جامع الزيتونة. وكان يسكن، على الراجح، في المدرسة الشماعية. وهي أولى المدارس التي بنتها الدولة الحفصية. أخذ العلوم الدينية، وخاصة التفسير والفقه، عن قاضي تونس أبي عبد الله محمد بن عبد السلام الهواري (ت. 749هـ/1348م) وعلوم الحديث عن أبي عبد الله الوادآشي خاصّة (ت.سنة 749هـ/1348م).وتضلّع أيضا من العلوم العقلية ودرسها على أبي عبد الله محمد بن الحباب خاصة (ت. حوالي سنة 749هـ/1348م) وعلى شيخ العلوم العقلية في المغرب الاسلامي في عهده محمد بن ابراهيم الآبلي (ت. 757هـ/1356م) عندما زار تونس لمّا فتحها أبو الحسن المريني سنة 747هـ/1347م.

بلغ ابن عرفة في أواسط القرن الثامن الهجري في العلم مرتبة عالية وإن لم يتولّ مناصب مهمّة فنحن نجد إشارة إلى أنه كان القارئ من كتاب مسلم في درس للشيخ عبد المهيمن في مجلس السلطان أبي الحسن المريني سنة 749هـ/1348م بل نراه يجادل الشيخ في بعض القراءات. وهو ما يدلّ على المكانة العلمية التي وصل إليها. وهذه السنة كانت أساسية في بروز نجم ابن عرفة إذ ذهب "الطاعون الجارف" في منتصف القرن بالكثير من الشيوخ أمثال ابن عبد السلام والوادآشي وربما ابن الحباب أيضا... ووجد ابن عرفة نفسه بعد ذلك في الصدارة من علماء عصره المتبقين. فلا غرابة إذن أن تشير المصادر إلى تولّيه إمامة الخمس بجامع الزيتونة سنة 750هـ/1349م أو بعد ذلك بقليل ثمّ يرتقي إلى أعلى درجات الإمامة فيصبح خطيبا سنة 772هـ/1370م ويصل إلى قمّة الهرم العلمي في السنة الموالية أي سنة 773هـ/1371م فيصبح مفتيا أكبر. وسيبقى في هذين المنصبين الجليلين إلى وفاته سنة 803هـ/1401م لا يتخلف عن أداء واجبه إلاّ في بعض الظروف الطارئة مثل المرض خاصة في آخر حياته أو عندما سافر إلى الحج من جمادى الثانية سنة 792هـ/1390م إلى جمادى الأولى سنة 793هـ/1391م.

وقد عاصر ابن عرفة المؤرّخ الكبير عبد الرحمان ابن خلدون ووقع بين الرجلين نفورُ مردّه - لا جنوح ابن عرفة إلى المنزع النقلي وابن خلدون إلى المنزع العقلي كما ردّدَ ذلك المؤرخون كثيرا- وإنما إلى الغيرة الشّخصيّة المتبادلة. والملاحظ أن ابن عرفة لم يتول منصب القضاء ولم تكن له فيما يبدو رغبة فيه. والراجح أن ذلك قد كان احتراما للعرف السائد في البيئة التونسية ذلك الذي كان يستحسن التفريق بين القضاء والإمامة. وعلى كل فقد كان لابن عرفة دور فعّال في تسمية القضاة في مختلف جهات إفريقية وقد كانوا في الغالب من تلاميذه. والمنصب الذي شغف به ابن عرفة ولم يرض عنه بديلا أكثر من نصف قرن هو التعليم. فلقد كانت له دروس قيمة في جوانب مختلفة من العلوم الاسلامية لا سيّما التفسير والفقه في بعض المدارس، خاصة في مدرسة التوفيق وفي جامع الزيتونة. وأصبح له تأثير قوي في الأوساط الحاكمة والعلمية نتيجة لهذا الاشعاع، وبفضل تلاميذه أمثال أبي القاسم البرزلي (ت. حوالي 828هـ/1428م) صاحب "الاكمال" وأبي مهدي الغبريني (ت. حوالي 815هـ/1412م) القاضي الأكبر وابن ناجي (ت. 839هـ/1436م) صاحب "المعالم"... لقد كان لهذه الفترة الطويلة التي قضاها ابن عرفة في التدريس نتائج مهمّة من حيث تكوين الأجيال وكذلك من حيث تأليف الكثير من التصانيف أيضا، وهذه أهمّها:

المختصر في الفقه

سمّي هذا الكتاب في الغالب مختصرا وذلك للمادة الكبيرة التي أحاط بها وهو في الحقيقة خمسة مجلدات ضخمة تناولت مختلف أبواب الفقه الاسلامي على المذهب المالكي. وهو عبارة عن دائرة معارف لا تقل صفحاته عن الخمسة آلاف. بدأ ابن عرفة في تأليفه سنة 772هـ/1370م وانتهى منه سنة 786هـ/1384م وقد وصلنا هذا التصنيف في الكثير من النسخ ومازال مخطوطا ما عدا باب الحج الذي حُقّق (وهو مرقون) والحدود التي بدأ بها ابن عرفة تعريفه للأبواب المختلفة ونشرت مع شرح الرصاع (ت.894هـ/1489م) لها بتونس سنة 1350هـ/1931م.والمختصر الفقهي أهم تآليف ابن عرفة على الاطلاق وعليه تعتمد شهرته.

المختصر الشامل في أصول الدين

كتاب تناول فيه ابن عرفة المسائل الكلامية التي تبحث عادة في كتب أصول الدين مثل أنواع المعلومات ووجود الله وصفاته والنبوءات والحشر والجزاء والامامة. انتهى ابن عرفة من تأليفه سنة 789هـ/1387م. ويقع في حوالي 400 صفحة. وصلتنا منه نسخ عدّة ومازال مخطوطا، ما عدا الباب الأخير المتعلق بالامامة الذي نشر بحوليات الجامعة التونسية عدد 12 سنة 1975ص 177 - 234.

المختصر في المنطق

هو كتيّب تعليمي يحوصل المشاكلات المنطقية التي كانت تؤلفّ جزءا مهماًّ من الدراسات العقلية في عصر ابن عرفة. ألّف قبل سنة 789هـ/1387م، ويتكوّن من 80 صفحة. نشر مع جمل الخونجي في المنطق بتونس سنة 1976 بعنوان: "رسالتان في المنطق" (نشر مركز الدراسات والأبحاث الاقتصادية والاجتماعية).

المختصر في أصول الفقه

قصد به ابن عرفة "تكميل فهم مختصر ابن الحاجب" (ت. 646هـ/1249م) واعتمد فيه خاصة كتاب الأحكام للامدي (ت.631هـ/1233م) وانتهى من تأليفه سنة 799هـ/1397م وبه حوالي 500 صفحة. مازال مخطوطا.

مختصر الحوفي في الفرائض

موضوعه الفرائض أي تقسيم الارث وهو شرح واختصار لفرائض الحوفي، وهو الفقيه أبو القاسم أحمد بن محمد بن خلف الاشبيلي مازال مخطوطا.

تفسير ابن عرفة

لم يصلنا من تفسير ابن عرفة تأليف حقيقيّ ولكن تقييدات من دروسه الطويلة المتكررة.ومن أشهر روايات التفسير التي وصلتنا رواية أبي عبد الله الأبي التي حقق بعض قطع منها الأساتذة: محمد الطاهر الجوابي ومحمد المناعي (نشر منها قطعة) والسيدة ساسي، ورواية تلميذه أبي العباس أحمد البسيلي (ت 830هـ/1426م) التي تتكوّن من حوالي ألف صفحة وقد اشترك في تحقيقها الأساتذة: عبد الوهاب الشواشي والبشير نقرة ومحمد الأحول وسوف عبيد وبلقاسم الهمامي ومحمد قموع ومختار يحيى وأحمد البخاري الشتوي.


فتاوى ابن عرفة

تولى ابن عرفة أعلى مراتب الافتاء بإفريقية وهذا المنصب يتولاه عادة خطيب جامع الزيتونة. وانتشرت فتاواه في المشرق والمغرب. ولم تصلنا هذه الفتاوى مجموعة في مؤلّفات إلاّ أن الكثير منها مضمن في بعض كتب ابن عرفة وبعض تلاميذه وبالأخص في بعض مجاميع الفتاوى مثل نوازل البرزلي ومعيار الونشريسي، ولقد جمعت هذه الفتاوى من مظانها وقد اعترف ابن عرفة بالكثير ممّا كان يقرّه العرف الجاري في إفريقية من ممارسات واحتفالات، كما وقف في مرحلة أولى ضدّ التصوّف الشعبيّ ثمّ اعترف به لأنه انتشر كثيرا في المغرب العربي. تلك أهم تآليف ابن عرفة التي وصلتنا. وتوجد تآليف أخرى تثير بعض المشكلات لم نشأ التعرّض إليها في هذا المقام. وهي تدل أحسن دلالة على مكانة ابن عرفة العلمية خاصة إذا ما درسنا تلك المؤلفات وتبينّا مدى اطلاعه ودقته وتحرّيه فيما يحققه من مسائل ويعتمده من استشهادات. توفي ابن عرفة في 24 جمادى الثانية سنة 803هـ/9 فيفري 1401م ودفن بمقبرة الجلاز بتونس بالقرب من المغارة الشاذلية وبنى الباي حسين بن علي، مؤسس الدولة الحسينية، على ضريحه قبة بسيطة. ويبرز أثر ابن عرفة واضحا في أجيال العلماء التي تتالت في تحصيل العلم عليه وبفَتَاويه الكثيرة التي كانت تطلب منه من مختلف أنحاء المغرب الاسلامي وفي الأثر البالغ الذي نجده في مؤلفات علماء المالكية إلى عهد قريب. وهو جدير بأن يدرس وأن تنشر أهمّ تآليفه حتى تتضح معالم مرحلة مهمّة من مراحل تطوّر الفكر الاسلامي المغربي.