ابن خلدون

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث

[732 - 808ه / 1332 - 1406م]

هو وليّ الدين عبد الرحمان بن محمد بن أبي بكر محمد بن الحسن من أهمّ رجالات الثقافة العربية الاسلامية في القرن الثامن الهجري. كان مؤرخا وعالم اجتماع وفيلسوفا. انعطف الباحثون على حياته وآثاره بالنّظر والتأمّل وتأوّلوها تأويلات شتّى، وربّما متباينة.

ولد بحاضرة تونس في الأوّل من رمضان سنة 732ه / 27 ماي 1332م في أسرة عربيّة نسبُها من عرب اليمن إلى وائل بن حجر استقرّت منذ بداية الفتح الاسلامي بإشبيلية ونهضت بأدوار سيّاسية مهمّة ثمّ غادرت هذه المدينة إلى سبتة قبل دخول الاسبان إلى الأندلس، ومن سبتة انتقلت إلى تونس في عهد السّلطان الحفصيّ أبي زكرياء (625 647 ه / 1228 1249م).

وكان والد جدّ ابن خلدون قد ولّي على الحجابة ولما انتصر الدّعي ابن عمارة اعتقله ثمّ قتله خنقًا في محبسه كما جاء في التعريف.

وتولّى بعده ابنه محمد عدّة خطط بمدينتي بجاية وتونس وتوفيّ سنة (711 - 717ه / 1317 - 1334م) وآثر ابنه محمد - وهو والد عبد الرّحمان بن خلدون - أن يبقى بعيدا عن السياسة، مقبلا على الأدب يتعاطاه وقد كان له بصر بالشّعر وفنونه. قال ابن خلدون متحدّثا عنه "عهدي بأهل الأدب يتحاكمون إليه فيه، ويعرضون حكمهم عليه".

في هذه الأجواء الأدبيّة نشأ ابن خلدون وترعرع، يختلف إلى حلقات الدرس متعلّما متفقّها.

وقد دفعت غزوة بني مرين (748 - 750ه / 1347 - 1349م) عددا من الفقهاء والأدباء إلى القدوم إلى تونس في حملة السلطان أبي الحسن. وكان من هؤلاء الابلي الذي جاء يحمل علما كثيرا، كما جاء في "التعريف" فلازمه ابن خلدون وأخذ عنه على وجه الخصوص العلوم العقليّة.

ولم يزل ابن خلدون منكبّا على التحصيل، متنقلاّ بين دروس العلم وحلقاته إلى أن انتشر في البلاد الطّاعون الجارف الذي ذهب "بالأعيان والصدّور وجميع المشيخة" وكان من ضحاياه أبواه.

وقد احتفظ العلاّمة من ذلك الطاعون بذكرى قاسية ألقت ظلالها القاتمة على فصول كثيرة من كتابيه "التعريف" و"المقدّمة". غادر ابن خلدون تونس وسافر إلى فاس التي كانت في ذلك الوقت من أهمّ عواصم المغرب الاسلاميّ، وقد بدا ابن خلدون، في تلك المرحلة من حياته، متعطّشا للعلم يريد الاستزادة منه.

في بلاط فاس

لم يبلغ ابن خلدون العشرين حين عهد إليه الحاجب القوّي ابن تافراكين في نهاية 751 ه / 1350م بخطّة العلامة لدى السّلطان وقد اعترف ابن خلدون بأنّه كان منطويا على مفارقة السّلطان لما أصابه من استيحاش لذهاب أشياخه وعطلته من طلب العلم. وقد أتاح له غزو إفريقيّة على يد أمير قسنطينة أبي يزيد (753ه / 1352م) فرصة الفرار من سيّده واللّجوء لبعض الوقت إلى أبّة ثمّ إلى تبسّة فقفصة قبل أن يبلغ بسكرة حيث قضى الشتاء لدى أصدقائه من بني مُزنَى.

تبدأ، بعد هذا، المرحلة الثانية من حياة الرّجل، وهي مرحلة المغامرة والضّرب في الأرض والانتقال من مملكة إلى أخرى.

هذه المرحلة هي التي جعلت بعض الدّارسين يقسون في حكمهم على ابن خلدون ويتّهمونه بشتّى التّهم.

فعلى إثر وفاة السّلطان المريني أبي الحسن استقدم وريثه أبو عيّان العلاّمة إلى فاس واستكتبه وقربّه إليه ثمّ تخلّى عنه بعد أن أُنمي أنّه يسعى إلى تحرير أمير بجاية وإقراره على مملكته من جديد فقبض، على إثر هذه السّعاية، على ابن خلدون وحبس سنتين اثنتين (758 - 759ه / 1357 - 1358م) ولم يفرج عنه إلاّ بعد تولّي السلطان الجديد أبي سالم الحكم، فخلع على ابن خلدون وأعاده إلى ما كان عليه وعيّنه كاتب السرّ.

وقد تعاطى ابن خلدون الشعر ابتغاء دعم مكانته داخل البلاط ومدح أبا سالم بقصائد عدة حكم عليها ب"التوسّط بين الاجادة والقصور" وقد أثبت في التعريف بعضا منها. والمتأمّل في هذه القصائد يلحظ اقتفاءها أثر القصيدة التقليديّة مقتبسة معانيها وطرائق تصريف القول فيها.

ولاّه أبو سالم في آخر سنيّ حكمه خطّة المظالم فوّفاها حقّها، على حدّ عبارته، لكنّ الوزير ابن مرزوق تمكن بدهائه ومكره من التغلب على هوى السلطان والانفراد بمخالطته فسعى بابن خلدون "غيرة ومنافسة".

توالت الاضطرابات وثار الوزير عمر ابن عبد اللّه فأيّده النّاس ونبذوا السلطان وبيعته "وكان في ذلك هلاكه". أقّرّ الوزير عمر ابن خلدون على ما كان عليه ووفّر إقطاعه وزاد في جرايته.

في بلاط غرناطة

استأذن ابن خلدون الوزير ابن عمر في السفر، فأذن له بعد تردّد فقصد العلاّمة غرناطة وسلطانها آنذاك أبو عبد اللّه من بني الأحمر وكانت له معه "سابقة وصلة" فاهتزّ لقدومه وهيّأ له المنزل في قصوره "بفرشه وماعونه"، وفي نهاية سنة765 ه / 1364م رحل ابن خلدون إلى قشتاله لعقد الصّلح بين ملكها وملوك العدوة فوجد عند الملك القشتالي "من الكرامة بما لا مزيد عليه" بل طلب منه الملك المقام عنده ووعده بردّ تراث أسلافه بإشبيليّة لكنّ ابن خلدون آثر العودة إلى غرناطة فأهداه الملك القشتالي بغلة فارهة بمركب ثقيل ولجام ذهبيّين فأهداهما إلى السّلطان الذي أقطعه أرضا بمرج غرناطة.

حين استقرّ ابن خلدون و"اطمأنّت الدّار" استقدم أهله من قسنطينة وقد هيّأ لهم، حسب عبارته، المنزل والبستان، وسائر ضرورات المعاش بيد أنّ ملابسة العلاّمة للسّلطان لم تدم طويلا إذ سرعان ما تنّكر ابن الخطيب لابن خلدون وأظهر له الانقباض بعد الانبساط فما كان من ابن خلدون إلاّ أن استأذن السّلطان في الارتحال إلى بجاية، بعد تلقّيه دعوة من سلطانها وأخفى عليه شأن ابن الخطيب "إبقاءً لمودّته" فأذن له.

في بلاط بجاية

عرض السلطان أبو عبد اللّه على ابن خلدون خطّة الحجابة وعلى أخيه الأصغر يحيى الوزارة.

فنهض الرّجلان بالخطّتين مستندين إلى خبرة في تدبّر شؤون الحكم طويلة. وأصرّ العلاّمة على تدريس العلم بجامع القصبة، يختلف إلى حلقاته اختلاف عالم فقيه.

لم تنقض شهور معدودة حتّى هجم أمير قسنطينة على بجاية وألحق هزيمة نكراء بابن عمّه أبي عبد الله محمد.

أبى ابن خلدون أن يبايع أحد أبناء أبي عبد اللّه وخرج إلى السّلطان المنتصر أبي العبّاس وسلمّه المدينة. فما كان من هذا إلاّ أن أكرمه "وأجرى أحواله كلّها على معهودها".

لاحظ ابن خلدون، بعد مدّة قصيرة، أنّ السّعايات قد كثرت عند السّلطان فيه فآستعفاه، في الوقت المناسب، ولجأ أوّلا إلى العرب "الذواودة" ثمّ إلى أصدقائه بني مُزْنَى.

في ذلك الوقت عرض أبو حمّو، صاحب تلمسان على ابن خلدون خطّتي الحجابة والعلامة فاعتذر إليه العلاّمة وطلب منه أن يتّخذ أخاه يحيى "كالنّائب عنه في الوظيفة" مؤكدا أنّه أصبح يتفادى الخوض في أهوال السياسة.

فالرّجل، كما جاء في التعريف قد نزع عنه غواية الرّتب، وطال عليه إغفال العلم، لهذا أعرض عن الخوض في أحوال الملوك مقتصرا على المطالعة والتدريس.

حاول ابن خلدون أن يحيا حياة الأدباء بعيدا عن دسائس القصور يتبادل الرسائل مع صديقه ابن الخطيب مرصّعة بزهور البديع، غير أنّ السّياسة ظلّت، رغم ذلك، تجتذبه وتغريه. فعاد من جديد يحرّض ملكا على آخر، وربّما تحوّل إلى "ضابط تجنيد" لدى السّلطان المريني أبي فارس وتعدّدت تنقّلاته محاولا أن يجعل من القبائل المشتّتة قوّة قادرة على توجيه الأحداث. لكنّ الواقع ظلّ كلّ مرّة يبدّد أوهامه وأحلامه.

حاول ابن خلدون الخروج من دائرة سحر السياسة فلجأ إلى رباط أبي مدين وكتب في التعريف أنّه كان "مؤثرا للتخلي والانقطاع للعلم لو تُرك له". لكنّ الرّجل سرعان ما انتقل إلى فاس (774ه / 1372م) ليحيا، في البداية، حياة مطمئنة ينعم في أثنائها برعاية مخصوصة من ذوي السّلطان، لكن بعد مدّة وجيزة قبض عليه ثمّ أطلق سراحه وسمح له بالذهاب إلى إسبانيا الاسلاميّة في ربيع (776ه / 1375م) "قصد القرار.. والعكوف على قراءة العلم" غير أنّ أمله قد خاب مرّة أخرى فالرّجل بات مسترابا في كلّ مكان، يلاحقه تاريخه الثقيل، يتحاشاه أصحاب السّلطة وربّما أكتفوا ب "تأجير خدماته".

في قلعة بني سلامة

عاد ابن خلدون إلى المغرب بعد أن أنذر بمغادرة غرناطة. فاستقر مع أسرته بتلمسان (أوّل شوال 776ه / 5 مارس 1375م). في هذه الأثناء قتل ابن الخطيب بمحبسه وكان قد استصرخ بابن خلدون متوسّلا، فخاطب في شأنه أهل الدّولة فلم تنجح تلك السّعاية.

نزل ابن خلدون وأهله بقلعة بني سلامة (وتسمّى قلعة تاوغزوت، وهي تقع في مقاطعة وهران من بلاد الجزائر) فأقام بها أربعة أعوام "متخلّيا عن الشواغل كلّها"، عاكفا على تأليف كتابه "العبر" وقد أكمل، في هذه الفترة، مقدّمته وقد "سالت فيها شآبيب الكلام والمعاني حتّى امتخضت زبدتها، وتألّفت نتائجها".

العودة إلى تونس

ذكر ابن خلدون أنّه تشوّف - وهو يحرّر المقدّمة - إلى مطالعة الكتب والدواوين التي لا توجد إلاّ في الأمصار "من أجل التنقيح والتصحيح" فقرّر العودة إلى تونس "حيث قرار آبائه ومساكنهم وآثارهم وقبورهم" فراسل السلطان أبا العبّاس يستأذنه في الحلول بتونس، وكان بينهما جفاء ومنافرة، فأذن له في ذلك.

عاد ابن خلدون إلى تونس وألقى عصا التسيار بمسقط رأسه في شعبان 780 / نوفمبر - ديسمبر 1378 وآوى، حسب عبارته، إلى ظلّ ظليل من عناية السلطان وحرمته فاستدعى أهله والولد، وجمع شملهم بعد طول افتراق.

تصدّى ابن خلدون للتدريس فآنهال عليه، كما جاء في التّعريف، طلبة العلم يطلبون الافادة والاشتغال، وأتمّ، في هذه الأثناء تحريرا أوّل لكتابه "العبر" أهدى نسخته الأولى إلى أبي العبّاس مشفوعة بمدحة طويلة أملتها الظروف.

لكن حظوة ابن خلدون لدى السلطان، وتدفّق الطلبة على حلقاته، جرّا عليه دسائس ابن عرفة وسعاياته. فاختار ابن خلدون أن يغادر بلاد المغرب العربي متعلّلا بالحجّ وصادف أن كانت "بالمرسى سفينة لتجار الاسكندرية قد شحنها التجار بأمتعتهم وعروضهم" فتوسّل إلى السلطان في تخلية سبيله لقضاء الفريضة، فسمح له بذلك فركب البحر في 15 شعبان 784 / 24 أكتوبر 1382.

في القاهرة

انبهر ابن خلدون بمدينة القاهرة التي كانت في نظره "حضرة الدّنيا وبستان العالم، ومحشر الأمم، ومدرج الذرّ من البشر، وإيوان الاسلام، وكرسيّ الملك".

جلس العلاّمة للتّدريس بالجامع الأزهر ثمّ بالمدرسة القمحيّة فتدفّق عليه طُلاب العلم يلتمسون الافادة.

وحين عزل القاضي المالكي اختصّه السلطان برقوق بهذه الولاية تأهيلا لمكانه وتنويها بذكره وذلك في جمادى الثانية 786ه / جويلية أوت 1384م.

بعث ابن خلدون يستقدم أهله من تونس إثر تدخّل السّلطان لكنّهم غرقوا في عرض الاسكندريّة بعد أن أصاب سفينتهم عاصف من ريح "فعظم المصاب والجزع ورجح الزّهد" في الوقت ذاته تعدّدت الدّسائس ضدّه ففقد خطّة القضاء في جمادى الأوّل 787 ه / جوان - جويليّة 1385 وفي سنة 789 ه / 1387م عيّن بالمدرسة الظاهريّة ثمّ عهد إليه، بعد رجوعه من الحجّ، بتدريس الحديث في مدرسة صرغمتس، وقد أثبت ابن خلدون درسه الافتتاحي في التعريف وقد خصّصه لموطّأ مالك: وعيّن، في المدّة نفسها، على رأس خانقاه بيبرس. وبعد أربع عشرة سنة قضاها في التدريس ولّي القضاء من جديد وذلك في 15 رمضان 801 / 21 ماي 1399 وعزل مرّة أخرى في محرّم 803 / أوت - سبتمبر 1400 وبعد بضعة أشهر في ربيع الثاني 803 / نوفمبر - ديسمبر 1400 أكره على اصطحاب الناصر الذّاهب إلى نجدة دمشق التي كان يهدّدها تيمور لنك بعد أن استولى على حلب.

وقد اضطلع ابن خلدون الذي بقي في المدينة المحاصرة بعد أن تخلّى عنها الناصر دورا ما في استسلام المدينة بأمان خادع. وقد احتفظ لنا برواية مفصّلة لمقابلاته مع القائد المغولي.

وربّما اعتبره العلاّمة رجل القرن المتسلّح بعصبيّة قويّة تمكنّه من توحيد العالم الاسلاميّ ومن ثمّة توجيه التاريخ وجهة جديدة.

عاد ابن خلدون إلى القاهرة بعد أن شهد فظائع المغول في دمشق، فتم استقباله استقبالا حسنا في البلاط. ووليّ القضاء مرّات عدة كان آخرها في شعبان 850 / جانفي - فيفري 1406 قبل أسابيع من وفاته في 26 رمضان 850ه / 17 مارس 1406م.

والجدير بالملاحظة أنّ ابن خلدون ظلّ، في أثناء إقامته بالقاهرة، على صلة وثقى بالمغرب الاسلامي: فقد حافظ على زيّه المغربي وهو برنس داكن اللّون، وحاول أن يشج علائق قويّة بين سلاطين مصر وسلاطين المغرب. ولم ينفكّ عن مراسلة أصدقائه المغاربة وقد احتفظ لنا بمقاطع طويلة نثرا وشعرا من الرّسائل التي وجهها إليه الشاعر الغرناطي الشهير ابن زُمرك.

بدا تصرّف ابن خلدون في نظر الباحثين تصرّفا طائشا، نفعيّا متغيّرا باستمرار. هل كان الرّجل متقلّبا؟ أم هل كان يعوزه "الحسّ الوطني"؟

لقد كان ينبغي، للحكم على هذا الرّجل أو له، أن يوجد وطن، يعلن انتماءه إليه، بيْد أنّ هذا الوطن، في ذلك العهد، كان مفقودا. بل إنّ المفهوم نفسه لم يكن له وجود، إذ لم يتسلّل مفهوم الوطن إلى الفكر الاسلامي إلاّ في العهود الحديثة بتأثير مباشر من أوربا. لهذا لم يكن يتصوّر الخيانة إلاّ في سياق ديني وهي الردّة. ولم يكن يتصوّر الوفاء إلاّ في إطار العلائق التي تربط بين رجل وآخر. لهذا وجب أن نحكم على الرّجل وفق مقاييس عصره، لا وفق مقاييسنا الحديثة.

لا شكّ في أنّ ابن خلدون كان طموحا، متعلّقا بالسّلطة، مفتونا بالمغامرة، وربّما كان منعدم العواطف في ميدان السياسة لكنّ ذلك لا ينفي عنه وضوح الرؤية ونفاذ البصيرة.

إنّ المتأمّل في أعمال ابن خلدون يلحظُ أنّه لم يتمكّن من تصوّر مشروع لاحياء الحضارة العربيّة الاسلاميّة وهي في حال احتضار. وربّما كانت مغامراته محاولات يائسة للظّفر بعصبيّة قويّة تنقذ مركب الأمّة الاسلاميّة من الغرق. ثمّة إشارات وتلويحات في كتبه تدعم هذه الافتراضات، لكنّها تظلّ غائمة ملتبسة، ولا غرابة في ذلك بما أنّ الرّجل لا يسمح لقارئه بهتك حجب حياته الخاصّة، والكشف عن نواياه العميقة وإنّما يسمح له بالتعرّف إلى "ملامحه" الشخصيّة فحسب.

آثار ابن خلدون

عرف ابن خلدون بكتابه: "العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيّام العرب والعجم والبربر، ومن عاشرهم من ذوي السّلطان الأكبر" ومن هذا الكتاب اشتهرت مقدّمته. لكنّ للرّجل آثارا أخرى لم تصلنا كلّها، فبتأثير من الابلي حاول - وهو في العشرين من عمره - أن يلخّص كتاب الرّازي الموسوم ب محصل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين من العلماء والحكماء والمتكلّمين (القاهرة 1905)، وهذا العمل يختصر كلّ التراث الثقافي العربي الاسلامي في شأن موضوع العقيدة. أمّا مختصره الموسوم ب لباب المحصل في أصول الدّين (ص - تطوان - 1952 مخطوطا بخطّ المؤلف مؤرخ في 29 صفر 752 / 27 أفريل 1351 الأسكوريال رقم 1614) فهو يكشف عن توجّه في الفكر مخصوص لن يفارق ابن خلدون فيما بعد.

من جهة أخرى أشار ابن خلدون في فصول عدة من "التعريف" تصدّيه للتدريس في فاس وغرناطة، وفي أثناء هذه الفترة، أي بين752 ه / 1351م 765ه / 1364م - وهو التاريخ الذي أتمّ فيه ابن الخطيب تأليف كتابه "الاحاطة".

ألّف ابن خلدون خمسة تصانيف هي:

  • شرح متن البردة للبوصيري
  • ملخّص في المنطق
  • مقالة في علم الحساب
  • ملخّصات عدّ لاثار ابن رشد، ولا نعرف على وجه الدقّة عناوينها
  • شرح على قصيدة لابن الخطيب في أصول الفقه.

وجميع هذه الاثار مفقودة، ويبدو أنّها لم تلفت انتباه معاصريه، فطواها النّسيان بسرعة بل إنّ ابن خلدون نفسه لم يشر إليها في التعريف، كما أنّ المترجمين له من المصريّين لم يذكروها.

إنّ هذه الأعمال كانت ذات منزع فلسفيّ تقليديّ بما في ذلك مقالته في علم الحساب، وذلك للعلاقة الوطيدة بين علم العدد والفقه كما له أثار أخرى في التصوّف.

على أنّ عبقريّة الرّجل ستتجلّى، بقوّة، في قلعة بني سلامة حيث ستتفاعل العلوم التقليديّة التي تلقّاها الرّجل مع تجاربه السياسيّة التي جعلته يعي معنى التاريخ وعبره العميقة. ففي سكون هذه القلعة الجليل سيعمد ابن خلدون إلى فكّ رموز المغامرة الانسانيّة الأخاذة المثيرة للحيرة. هكذا سيتحوّل ابن خلدون من فقيه متمسّك بأهداب الفكر الدّيني التقليدي إلى مؤرخ عبقريّ، وربّما إلى مؤسّس بعض العلوم التي ستكشف الأيّام أنّها من بين أكثر العلوم العصريّة غنًى وعمقا. وقد حُرّرت الفصول الأولى من المقدّمة التي تكشف عن مبادئه الفكريّة، وأقسام من التّاريخ من سنة 776 ه / 1375 وسنة 780ه / 1379 في أثناء عزلته.

ولم ينقطع ابن خلدون، إلى نهاية حياته، عن تنقيح هذا الأثر الأساس وبالخصوص المقدّمة.

أمّا عملاه الاخران فهما: "التعريف" وهو ترجمة ذاتيّة انتهى من كتابتها في ذي القعدة 807 / ماي 1405 وشفاء السائل، وهو كتاب في التصوّف حرّره في آخر حياته. وتكمن قيمة هذين المصنّفين في تسليط الضّوء على شخصيّة ابن خلدون وفكره ويجدر بنا أن نشير في هذا الصّدد إلى أنّ نسبة كتاب شفاء السائل إلى ابن خلدون لم تحسم بعد.

ويمجّد المؤرّخ العثماني نعيمة (المتوفّى 1128ه / 1716م) ابن خلدون في مقدّمة كتابه ويقدّم تلخيصا لأفكاره. (قام بأوّل ترجمة تركية لقسم من المقدمة شيخ الاسلام بيري - زاده محمد في1143ه / 1749م. وأحدث الترجمات، وهي كاملة، قام بها زاكر كادري أغن Zakir Kadiri في مجلدين، إستانبول، 1954)، إلاّ أنّ فضل اكتشاف ابن خلدون يعود إلى أوروبا، وبالتحديد إلى داربولور (D'herbelot) (المكتبة الشرقيّة 1697)، وسلفستر دوساسSilvestre de Sacy w (مختارات أدبيّة عربيّة 1806)، وفون هامر بورغستال (Von Hamer-Purgstal)، وخاصّة إلى كواترمارغ (quatremère) الذي أنجز، سنة 1858، الطبعة الأولى الكاملة للمقدّمة - وقد طبعت كذلك في السنة نفسها بالقاهرة على يد نصر الهوريني عن مخطوط آخر يتضمّن خاصّة الاهداء إلى السلطان أبي فارس (796 - 799ه / 1394 - 1397م) بفاس - ودوسلان (De Slane) الذي أنجز بعد بعض السنوات أوّل ترجمة لها إلى اللغة الفرنسيّة.

ومنذ ذلك التاريخ، لم تكفّ الطّبعات والدّراسات عن التكاثر، في الشرق والغرب، شاهدة على الاهتمام المتزايد بالفكر الخلدوني، وقد بلغ عددها هذه السنوات الأخيرة حدّا جعلها تحتاج إلى الضبط البيبليوغرافي الذي قام به ه.بيرس (H. Perès) وو.ج فيشال (W.J. Feschel) وتتميّز آخر الترجمات - وهي ترجمة فر.روزنتال (F.Rosenthal) - باعتمادها مخطوط إستانبول (عاطف أفندي 1936)، وقد أثبتت فيه بخطّ ابن خلدون ملاحظة تشير إلى أنّ المؤلف "راجعه علميّا" ونشير أيضا إلى الترجمة البرتغالية التي قام بها خوري (yموقصل( في ثلاثة مجلّدات (ساوباولو 1958 - 1960)، كما تجدر الاشارة إلى الترجمة الفرنسيّة التي قام بها ف.مونتاي. (V.Monteil) لكنّ كتاب العبر لم يثر الاهتمام نفسه، وقد نشر نوال ديفجي (نمزشمزىزط عë قه) مقاطع مقتطفة من العبر وترجمها بعنوان تاريخ إفريقيا تحت حكم الدولة الأغلبيّة وصقليّة تحت السيطرة الاسلاميّة، باريس 1841. ونشرت بعد سنوات قليلة، ترجمة أخرى جزئيّة قام بها دوسلان تحت عنوان تاريخ البربر والدّول الاسلاميّة، بإفريقيا الشّماليّة (في أربعة مجلّدات، الجزائر 1852 - 1856)، مشفوعة بنشرة للمقاطع المترجمة في جزأين، الجزائر 1863. ثمّ نشرة طبعة بولاق الكاملة (في 7 مجلدّات، 1868) ومن ذلك الحين، تتابعت الترجمات الجزئيّة، إلاّ أنّنا مازلنا ننتظر الطبعة النقديّة الحقيقيّة للمقدّمة والعبر. والطبعة الأخيرة، طبعة بيروت (1956 - 1959)، وهي طبعة تجاريّة إلاّ أنّها مزودة بفهارس مفيدة.

والنّقد الموجّه عامّة إلى كتاب العبر هو أنّه لم ينجز الوعود التي أشار إليها في المقدّمة. غير أنّ ابن خلدون لم يكن له أن ينجز غير ما أنجز، إذ لا وجود لمؤرّخ يمكن أن يقدم بمفرده على كتابة تاريخ العالم.

على أنّ الذي نريد أن نشير إليه هو أنّ ابن خلدون يبدُو أحيانا كثيرة في المقدّمة غير مطّلع على الكثير من معارف عصره. ومثال ذلك ما يتعلّق بالموحّدين وعقيدتهم ثمّ إنّ المعطيات التاريخيّة كثيرا ما تتناقض عبر كتابه، الأمر الذي يدفع بالقارئ إلى الاعتماد على كتب أخرى.

وإن كان "كتاب العبر" يبقى، بترتيبه الذّكي للأحداث، وعمق الرواية واتساعها أداة عمل لا نظير لها وخاصّة بالنسبة إلى القرنين القريبين من مؤلّفنا وهما الثالث عشر والرّابع عشر، فإن هذا الكتاب غالبا ما يخيّب آمال الدّارس عندما يتعلّق الأمر بتاريخ المشرق فقيمة الكتاب تنحصر في التأريخ للمغرب وبالأخصّ للبربر..

لكنّ أهمّ تصانيف ابن خلدون يظّل المقدّمة، وقد كانت، في ذهن مؤلفها، كما يدلّ على ذلك العنوان، مدخلا إلى كتاب العبر. فهي عبارة عن موسوعة تضمّ المعارف المنهجيّة والثقافيّة الضروريّة للمؤرخ ليتمكّن من إنجاز عمل علميّ. والواقع أنّ شواغل ابن خلدون في المنطق كانت إبيستمولوجيّة بالأساس. هكذا سيتّجه ابن خلدون خطوة خطوة في أثناء تأمّله منهج التّاريخ ومادّته، وبكامل الوعي إلى ابتداع "علم مستنبط النّشأة"، يحتوي، في داخله، على منطلقات لمباحث أخرى تفضي إلى فلسفة التّاريخ، وعلم الاجتماع، وعلم الاقتصاد، وعلوم أخرى أيضا.

يستهلّ ابن خلدون مقدّمة المقدّمة بتعريف التّاريخ فيوسّع مجاله ليشمل مجمل الماضي الانساني بما في ذلك المظاهر الاجتماعية والاقتصاديّة والثقافيّة ثمّ يستخلص فوائده. وفي مرحلة ثانية يستدرك على المؤرخين الذين جاؤوا قبله فيعدّد مغالطهم منها التشيّع لxراء والمذاهب، والتشبّع غطاء على عين البصيرة يحول دونها والانتقاد والتمحيص، ومنها الثقة بالنّاقلين، والذهول عن المقاصد ومنها تقرّب النّاس إلى أصحاب المراتب بالثناء والمدح فتستفيض الأخبار على غير حقيقة، وقبل هذا كلّه "الجهل بأسباب العمران".

إنّ المنهجيّة التي يلتزم بها الرّواة للتحقّق من صحّة الأحاديث والتي تقوم على التعديل والتجريح لا تفي بحاجة المؤرخ. لهذا وجب الالتزام بمنهجيّة ثانية تقوم على ما يسميّه ابن خلدون "قانون المطابقة" ويشرح هذا القانون قائلا "وأمّا الاخبار عن الواقعات فلا بدّ في صدقها وصحتها من اعتبار المطابقة. ولذلك وجب أن ينظر في إمكان وقوعه. إذ فائدة الانشاء مقتبسة منه فقط. وفائدة الخبر منه ومن الخارج بالمطابقة، وإذا كان ذلك، فالقانون في تمييز الحقّ من الباطل في الأخبار، بالامكان والاستحالة، أن ننظر في الاجتماع البشريّ الذي هو العمران، ونميّز ما يلحقه من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه، وما يكون عارضا لا يعتدّ به، وما لا يمكن أن يعرض له. وإذا فعلنا ذلك، كان ذلك لنا قانونا في تمييز الحقّ من الباطل في الاخبار، والصدق من الكذب، بوجه برهاني لا مدخل للشكّ فيه. وحينئذ، فإذا سمعنا عن شيء من الأحوال الواقعة في العمران، علمنا ما نحكم بقبوله ممّا نحكم بتزييفه. وكان ذلك لنا معيارا صحيحا يتحرّى به المؤرخون طريق الصّدق والصّواب فيما ينقلونه. وهذا هو غرض الكتاب الأوّل من تأليفنا" أيّ بعبارة مختصرة ينبغي أن تكون الأخبار التي يعتمدها المؤرخ مطابقة لطبيعة الأمور ونواميس التاريخ وقوانين الطبيعة. من هنا وجب دراسة العمران البشريّ والاجتماع الانساني وإبراز القوانين التي تتحكّم فيهما حتّى يمكن أن نكتب التاريخ. وقد قاده هذا إلى وضع أسس علم جديد هو علم العمران "وكأنّ هذا علم مستقل بنفسه: فإنّه ذو موضوع وهو العمران البشريّ والاجتماع الانساني، وذو مسائل وهي بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته واحدة بعد أخرى. وهذا شأن كلّ علم من العلوم وضعيّا كان أو عقليّا.." وقد تبسّط ابن خلدون في مواضع كثيرة من المقدّمة في توضيح هذا العلم الجديد الذي قاده إليه البحث. ثمّ تأتي بقيّة المقدّمة لتكون بمثابة "برهنة" على ما ذهب إليه وفق هندسة محكمة دقيقة.

قسّم هذه المقدّمة إلى كتب هي على التّوالي:

  • الكتاب الأوّل: في العمران البشري على الجملة. ويرسم فيه ابن خلدون ملامح دراسة الوسط وتأثيره في الطبع البشري، أثنولوجيا، وأنثروبولوجيا.
  • الكتاب الثاني: في العمران البدوي والأمم الوحشيّة والقبائل. ويدرس عامّة المجتمعات القريبة من البدائيّة
  • الكتاب الثالث: في الدّول والممالك والخلافة والمراتب السلطانيّة، ويدرس مختلف أصناف الحكم، والدّول، والمؤسّسات.
  • الكتاب الرّابع: في البلدان والأمصار وسائر العمران الحضري، أي الأشكال الأكثر تطوّرا وأشدّ تحضّرا.
  • الكتاب الخامس: في المعاش ووجوهه من الكسب والصنائع، ويدرس الصنائع ومجموع الأحداث الاقتصاديّة.
  • الكتاب السّادس: في العلوم وأصنافها والتعليم وطرقه، ويدرس العلوم والاداب، ومجموع الظواهر الثّقافيّة.

وجليّ من هذا التخطيط، اهتمام ابن خلدون بجملة الظواهر الاجتماعيّة يريد فحصها والوقوف على تحوّلاتها.

على أنّ أهم ظاهرة استبدّت بفكر ابن خلدون ووجدانه هي ظاهرة تراجع الحضارات وانحطاطها. لهذا انعطف عليها بالنّظر والتأمّل، مستعرضا أعراض الأدوار التي تصيب الحضارات وتقضي عليها. ومن هنا تعدّدت الروابط تجمع بين موضوعات المقدّمة وتجارب ابن خلدون السيّاسيّة. والواقع أنّ ابن خلدون كان يخامره إحساس قويّ بأنّه شاهد على نهاية عصر، وعلى أفول حضارة، لكأنّ المرء بات يشهد "خلقا جديدا، ونشأة مستأنقة وعالما محدثا فاحتاج لهذا العهد من يدوّن أحوال الخليفة والافاق" وهذا العالم المحدث بدأ يبرز في العدوة الأخرى فيما أخذ العالم الذي ينتمي إليه في التحلّل والفناء. "وكأنّما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالاجابة، واللّه وارث السّماوات وما عليها" وقد رغب ابن خلدون بعد أن أيقن استحالة تجنّب الكارثة في فهم ما جرى، بتأمّل الأحداث. ومن هنا كانت ضرورة تفكيك التّاريخ.

وفي عمل التفكيك هذا كانت الأداة الرئيسة التي عوّل عليها هي الملاحظة. فابن خلدون المتمرّس بقوانين المنطق تجنّب، عن وعي منه، التفكير النّظري. لقد كان يقرّ بقيمة العقل لكن في إطار حدوده الطبيعيّة فحسب، وهي حدود البحث في الواقع وتأويله. وقد أرّقه سؤال المعرفة بل دفعه، في آخر الأمر، إلى رفض الفلسفة ليتوجّه إلى مذهب تجريبيّ مخصوص يستكشف به الواقع ويستخرج معناه. وهذا المذهب لا يستنكف من العود إلى الفلسفة يستمدّ منها أصناف التفسير العقليّ. وفي الجملة يمكن القول إنّ آبن خلدون لا يتنكّب عن تنظير الفلاسفة التقليدي الذي يفضي إلى طرق مسدودة إلاّ ليعوّضه بتنظير آخر أوفق في مساعيه، وأخصب في نتائجه، لأنّه تنظير موصول بالواقع، مرتبط به.

وهذا التنظير الايجابي الجديد الذي يعرضه علينا في المقدّمة، يقوم على حركة جدليّة، لاحظها عدة باحثين (انظر على وجه الخصوص الكتب الحديثة التي كتبها إيف لاكوست زهنقذخم نزىy ون نصّار مخنخخه .ه). فقد أدرك ابن خلدون أنّه لا يمكن النّفاذ إلى قلب الواقع ووصف الصّراعات والتوتّرات والانتكاسات المتتالية للدّول والحضارات بتأثير من تناقضاتها الدّاخليّة من غير الاستنجاد بقانون الجدل. ولا غرابة في ذلك ما دامت مفاهيم التناقض، والتضّاد والمقابلة وتكامل الأضداد واللبس والتعقيد والتداخل هي التي كانت متداولة في الفكر الاسلامي.

ولهذا تذكر المفاهيم غالبا بوصفها مفاهيم إجرائيّة تسمح بالفهم والتفسير.

وقد تمكّن ابن خلدون بتجاوز التناقضات جدليّا، ومحاولة تفسيرها، من تصوّر ديناميكيّ للتطوّر.

وينبغي، في هذا السياق، إدماج رسمه البياني الدّائري الشهير للتأويل التّاريخي، وهو، في حدّ ذاته، لا يقدّم أيّ طرافة خاصّة، ضمن هذه الرؤية العامّة حتّى يكتسب معناه الحقيقي.

إنّ ثراء الأفكار التي انطوت عليها المقدّمة دفعت عدة باحثين إلى "اكتشاف" بذور علوم لم تتبلور عمليّا بوصفها علوما مستقلّة إلاّ في العصور الحديثة.

وثمّة إجماع على أنّ ابن خلدون هو قبل كلّ شيء مؤرخ. يقول لاكوست "إذا كان توسديد زرضرyذyصT قد اخترع التاريخ فإنّ ابن خلدون قد سجّل التّاريخ بوصفه علما" كما أنّ هناك إجماعا على أنّه فيلسوف أشار بوضوح في مقدّمته إلى علم الاجتماع. فآبن خلدون كان يرى أنّ التطوّر التاريخي مرتبط بالبنى الاقتصاديّة والاجتماعيّة، فانكبّ على تحليلها مؤسّسا، في هذا التحليل، عددا من المفاهيم الاجرائيّة الجديدة لعلّ أكثرها لفتا للانتباه: مفهوما العصبيّة والعمران. فهذان المفهومان أنتجا عدة دراسات حديثة، يضيق المجال عن ذكرها (انظر محمد الطالبي: ابن خلدون ومعنى التاريخ في "دراسات إسلامية")، كما اهتم ابن خلدون بتأثير نوع الحياة والانتاج في المجموعات الانسانيّة مؤكدا "اختلاف الأجيال في أحوالهم إنّما هو باختلاف نحلتهم من المعاش".

وكثيرا ما قرّب الدّارسون بين هذه الجملة وجملة أخرى لا تقلّ عنها شهرة لكارل ماركس وهي "أنّ طريقة الانتاج للحياة الماديّة تحدّد عامّة التطوّر الاجتماعي والسياسي والفكري للحياة" بل إنّ من الباحثين من اعتبر ابن خلدون رائدا "للماديّة الجدليّة".

ولكن، وإن كنّا لا ننفي بعض علائق التماثل بين الفكرين الخلدوني والماركسي فإننّا لا نقرّ ب"ماديّة" الفكر الخلدوني.

فالعلاّمة لم يكن يتأوّل التاريخ تأويلا اجتماعيا واقتصاديا فحسب وإنّما كان يفزع إلى تأويلات أخرى عدة منها التأويل النّفسي "فالمقدّمة لا تحتوي على علم اجتماع عامّ فحسب وإنّما تحتوي أيضا على علم اجتماعي متنوّع يمكن أن ينقسم إلى علم نفس سيّاسي، وعلم نفس اقتصادي، وعلم نفس أخلاقيّ، وعلم نفس عامّ".

وتكوّن هذه العناصر، عناصر علم النّفس الاجتماعي وعلم الاجماع العامّ في تشابكها كلاّ معقّدا من الصعب أن نفصل بعضه عن بعض.

كلّ هذا جعل الباحثين يتّفقون على أنّ ابن خلدون يمثّل صورة العبقريّ البارز والمفكّر العبقري الشاذ وأنّ مقدّمته تعدّ "من أجلّ اللحظات في الفكر البشريّ" (بوتول عوقصهوقص).

لم يكن هذا العبقريّ مرتبطا بأيّ تيّار معيّن في الفكر العربيّ الاسلامي، لأنّه كان يجسّد، في واقع الأمر، خاتمة عدة تساؤلات محيّرة، وكان فكره تحوّلا جذريّا، لكن هذا الفكر ظلّ عديم التأثير تماما مثل مغامراته السياسيّة الفاشلة.

"ومثلما لم يكن له سابقون في اللّغة العربيّة، لم يكن له كذلك في هذا اللسان، إلى الفترة المعاصرة، منافسون ولا تابعون. وإذا لم يكن تأثيره المباشر منعدما، في مصر، في بعض كتّاب العصر الوسيط المنتهي، فإنّه يمكن التأكيد أنّ مقدّمته وتعليمه الشخصي لم يخلّف كلاهما، في مسقط رأسه بلاد البربر، آثارا دائمة. فمن أشدّ المآسي أثرا في النفس وأشجى صفحات تاريخ الثّقافة الاسلاميّة وأكثرها دلالة، هذا الانعدام المطلق للفهم والعداوة المكينة اللّذين تعرّض إليهما، في عالمه نفسه، هذا المفكّر العبقريّ الشاذّ" (ر. برونشفيغ، الحفصيون، الجزء 2، ص 391).