أحمد التليلي

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث

[1916 - 1967م]

ولد المناضل النقابي أحمد التليلي بقصر قفصة في 10 أكتوبر 1916, وكان والده قد توفي في سن مبكرة، فكان أحمد أصغر أبنائه السبعة.وتولّت تربيته والدته وأخوه الأكبر علي التليلي.ولما بلغ سنّ الدراسة التحق بالمدرسة الابتدائية في مسقط رأسه، وواصل دراسته بها إلى أن أحرز الشهادة الابتدائية ونجح في مناظرة الدخول للمدرسة الصادقية في جوان 1930, فالتحق بهذه المدرسة العريقة في مستهلّ السنة الدراسية 1930 - 1931. ولمّا كان يتيم الأب فقد كفلته الجمعية الخيرية الاسلامية بتونس، فكان يزاول دراسته بالصادقية في النهار ويقيم في مأوى الخيرية خارج أوقات الدراسة. ومن التلامذة الذين التحقوا بالصادقية مع أحمد التليلي، نذكر بالخصوص عبد الملك بن عاشور والهادي خفشّة ومحجوب بن ميلاد ومحمد بلّلونة. وزاول أحمد التليلي دراسته بالصادقية مدّة ستّ سنوات (1936 - 1930), لكنّه رفت منها بسبب نشاطه الوطني قبل أن يتمّ دراسته الثانويّة. فتمكّن من الالتحاق بمعهد كارنو حيث زاول دراسته في فترة قصيرة. ثم تحوّل إلى الجزائر العاصمة لاعداد الباكالوريا، وسعى إلى الحصول على مورد رزق إلى جانب مواصلة دراسته الثانويّة. فعمل كاتبا لدى أحد التجّار الجزائريّين ثم فتح مكتبا خاصّا تعاطى فيه مهنة كاتب عمومي. وفي آخر سنة 1937 أصيب أحمد التليلي بمرض عضال أجبره على العودة إلى مسقط رأسه. ولمّا شفي التحق بسلك المعلّمين في قصر قفصة، وانخرط في شعبة الحزب الدستوري الجديد. وفي آخر سنة 1938 تخلّى عن التعليم والتحق بإدارة البريد والبرق والهاتف حيث سيقضي أطول فترة من حياته المهنيّة. ومنذ ذلك التاريخ بدأ نضاله السياسي والنقابي، وسرعان ما أصبح من أبرز قادة الحركة الوطنية في جهة قفصة.

وإثر اندلاع الحرب العالميّة الثانية ركدت الحركة الوطنية ولم تنتعش إلاّ إثر اعتلاء الملك الوطني محمد المنصف باي العرش في 19 جوان 1942, ثم اكتساح قوّات المحور البلاد التونسية في 9 نوفمبر. فاستأنف الحزب الدستوري الجديد نشاطه بقيادة الدكتور الحبيب ثامر وأخذ في إعادة تنظيم هياكله. وفي ذلك الوقت بالذات وقع الاختيار على أحمد التليلي ليكون على رأس الشعبة الدستوريّة في قفصة، وبعد مدّة وجيزة انتخب كاتبا عامّا للجامعة الدستورية بالمدينة نفسها. وإلى جانب نضاله السياسي قام بنشاط نقابي مكثّف، فربط الصلة بالعمّال التونسيّين في مختلف القطاعات، ولا سيما منها قطاع المناجم، كما ساهم بالاشتراك مع فرحات حشّاد في إنشاء اتحاد النقابات المستقلة بالجنوب. وإثر تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل في 20 جانفي 1946 انتخب كاتبا عاما للاتحاد الجهوي بقفصة، ثم عضوا في الهيئة الادارية للاتحاد العام التونسي للشغل. وفي سنة 1948 اندلعت الحرب العربية الاسرائيليّة الأولى. فغادر البلاد التونسية عدد كثير من الشبان للالتحاق بالجبهة والقتال في سبيل تحرير فلسطين. وتمكّن بعضهم من الوصول إلى الجبهة والمشاركة في المعارك، في حين اضطرّ آخرون إلى العودة إلى أرض الوطن بعدما منعوا من اجتياز الحدود الليبيّة المصريّة.فاتصل بهم أحمد التليلي قصد إعدادهم للمشاركة في الكفاح المسلّح من أجل تحرير وطنهم.

وفي تلك الفترة بالذات رجع الزعيم الحبيب بورقيبة من القاهرة في سبتمبر 1949, بعد أن يئس من إثارة اهتمام جامعة الدول العربية بالقضية التونسيّة، فرأى أنّه لم يبق أيّ داع إلى مواصلة إقامته في المشرق، وأنّ من واجبه العودة إلى تونس للنظر مع رفقائه في الداخل في السّبل الكفيلة بالاسراع في تحرير الوطن. فبادر أحمد التليلي إلى الاجتماع بالزعيم بورقيبة، وانبثقت عن هذه المقابلة بين الرجلين فكرة بعث "اللجنة القومية للمقاومة" التي ضمّت أحد عشر عضوا من المناضلين المستعدّين لخوض غمار الكفاح المسلّح في حال فشل المفاوضات المزمع إجراؤها مع الحكومة الفرنسية لمنح البلاد التونسية استقلالها الداخلي. وكلّفت هذه اللجنة بإعداد المقاومين للكفاح المسلّح، في حين عهد إلى أحمد التليلي بمهمّة تنظيم المجموعات المسلّحة وتسليح المقاومين واختيار الأماكن المناسبة لتجميع الأسلحة. وفي هذا الاطار تحوّل سريّا إلى القاهرة في سنة 1951 للنظر في إمكان الحصول على بعض الموارد لشراء الأسلحة. ومن القاهرة سافر صحبة الزعيم الحبيب بورقيبة والمناضل الطيّب سليم إلى ميلانو حيث حضروا بعض الجلسات في مؤتمر الكنفدراليّة الدولية للنقابات الحرّة (سيزل) المنعقد من 4 إلى 12 جويلية 1951, بحضور وفد من الاتحاد العام التونسي للشغل برئاسة فرحات حشاد.

وفي آخر سنة 1951 زار أحمد التليلي باريس حيث علم بفحوى مذكرة 15 ديسمبر 1951 الشهيرة التي وضعت حدّا للحوار بين تونس وفرنسا وأعطت إشارة الانطلاق للمعركة الحاسمة.وما إن رجع إلى تونس حتى اندلعت المعركة الحاسمة في 18 جانفي 1952 إثر إلقاء القبض على الزعيم الحبيب بورقيبة ورفقائه. فأخذت المجموعات المسلّحة تتأهّب لخوض غمار الكفاح. وفي الأثناء ألقت السلطة الفرنسيّة القبض على أحمد التليلي يوم 13 فيفري 1952, إثر مقتل عونين من أعوان الجندرمة الفرنسية في منطقة قفصة، واغتيال خليفة بلدة القطار.وتواصل استنطاقه عشرة أيام، نقل على إثرها إلى أحد المحتشدات حيث مكث ثلاثة أشهر. وفي جوان 1952 وجّهت إليه تهمة التواطؤ في عمليات اغتيال، وأودع السجن المدني بتونس حتى مطلع سنة 1954, في انتظار محاكمته. ثم وضع بعد ذلك تحت الاقامة الجبريّة مدّة ستّة أشهر. وطوال مدّة اعتقال أحمد التليلي لم تتوقّف المجموعات المسلّحة التي كوّنها عن الكفاح، بل احتدّت المقاومة وتحوّلت إلى حرب عصابات في الجبال مكبّدة العدوّ خسائر هامّة. وتواصل الكفاح المسلّح إلى أن قدم رئيس الحكومة الفرنسية منداس فرانس إلى تونس في 31 جويلية 1954 وألقى خطابه الشهير الذي أعلن فيه اعتراف فرنسا بحقّ تونس في الاستقلال الداخلي. وقبل قدومه إلى تونس ببضعة أيام أطلقت السلطة يوم 12 جويلية سراح أحمد التليلي الذي أسرع إلى استئناف نشاطه السياسي والنقابي. وعندما تكوّنت وزارة الطاهر بن عمار الأولى في أوت 1954, أسهم في إعادة التنظيم لهياكل الحزب الدستوري الجديد بالاشتراك مع صديقه الطيب المهيري الذي عيّن مديرا للحزب خلفا للزعيم المنجي سليم. وفي السنة نفسها كلّف بمهام كاتب عام مساعد للاتحاد العام التونسي للشغل وعضوا في المكتب التنفيذي للكنفدرالية الدولية للنقابات الحرّة.وفي هذا الاطار تحوّل إلى فرنسا لزيارة الزعيم الحبيب بورقيبة الذي كان تحت الاقامة الجبريّة، ثم سافر إلى جينيف حيث اجتمع بقادة الحزب المقيمين بالخارج منذ اندلاع المعركة الحاسمة.وإثر عودة الزعيم بورقيبة إلى تونس يوم غرّة جوان 1955 والمصادقة على اتفاقيات الحكم الذاتي، عيّن أحمد التليلي أمين مال للحزب، فتحمّل تلك المسؤولية الجسيمة بكل كفاية وإخلاص، بالتعاون الوثيق مع مدير الحزب المناضل الطيب المهيري. وفي سبتمبر 1955 عاد الزعيم صالح بن يوسف إلى تونس وأعلن معارضته للاتفاقيات التونسية الفرنسيّة، فانقسم مناضلو الحزب الدستوري الجديد إلى أتباع الديوان السياسي وأنصار صالح بن يوسف، واحتدّ النزاع الذي أسفر عن عدد كثير من الضحايا من الجانبين وكاد يتحوّل إلى حرب أهلية. ولم يتردّد أحمد التليلي في تأييد شقّ بورقيبة، لكنّه بذل كلّ ما في وسعه لحقن دماء المناضلين من الجانبين.

وفي الأثناء تطوّر الوضع في الداخل والخارج، وقبلت الحكومة الفرنسيّة الجديدة برئاسة الزعيم الاشتراكي الفرنسي غي مولي إجراء مفاوضات مع حكومة الاستقلال الداخلي لمراجعة أحكام الاتفاقيات التي تعارض مبدأ الاستقلال ووحدة السيادة. وأفضت المفاوضات التونسية الفرنسية إلى إبرام بروتوكول الاستقلال التام في 20 مارس 1956. وإثر ذلك اضطلع أحمد التليلي بمهام سياسية جديدة، إلى جانب مهامّه السابقة في الديوان السياسي والاتحاد العام التونسي للشغل، إذ انتخب في 8 أفريل 1956 نائب رئيس المجلس التأسيسي، وانتخب في تلك الفترة نفسها رئيسا لبلدية قفصة. وفي هذه السنة بالذات ظهر انشقاق في صفوف الاتحاد العام التونسي للشغل إثر الخلاف الذي جدّ بين أحمد بن صالح الكاتب العام للاتحاد والمناضل الحبيب عاشور الذي انفصل عن المنظمة النقابيّة الوطنية وأسّس منظمة جديدة هي "الاتحاد التونسي للشغل". ولم يدم هذا الانشقاق طويلا، فما لبث أن عاد الوفاق بين الشقّين المتنازعين في سنة 1957, إثر إقصاء أحمد بن صالح من الأمانة العامّة للاتحاد العام التونسي للشغل وعودة الحبيب عاشور ورفقائه إلى حضيرة الاتحاد. وكان الاتفاق بالاجماع على انتخاب أحمد التليلي كاتبا عاما للاتحاد العام التونسي للشغل. فواصل الاضطلاع بهذه المهمّة من سنة 1957 إلى سنة 1963, تاريخ تعيين الحبيب عاشور كاتبا عامّا للاتحاد. ورغم المسؤوليّات الجسيمة التي كان يتحمّلها أحمد التليلي فقد كلّفه الرئيس الحبيب بورقيبة منذ سنة 1955 بالشؤون الجزائرية، وبالعلاقة بين الدولة التونسية وجبهة التحرير الوطني الجزائرية وجيش التحرير الوطني. فكان المشرف على التنسيق بين الحكومة التونسيّة وجبهة التحرير بالنسبة إلى كلّ ما يتعلّق بتزويد جيش التحرير بالسلاح والعتاد وحفظ الأمن في مخيّمات اللاّجئين الجزائريّين في البلاد التونسية. فاضطلع بجميع هذه المهامّ على أحسن ما يرام طوال سبع سنوات (1962 - 1955), وذلك بالتعاون الوثيق مع كلّ من الباهي الأدغم كاتب الدولة للرئاسة والدفاع الوطني، والطيب المهيري وزير الداخلية، وعبد المجيد شاكر مدير الحزب. وعلاوة على كلّ هذه المهامّ والمسؤوليات، عيّن أحمد التليلي في سنة 1961, في أثناء معركة الجلاء، مندوبا سياسيّا مكلّفا بالاشراف على العمليّات الحربية في الجنوب التونسي.

ولما غادر الكتابة العامّة للاتحاد العام التونسي للشغل، رحّب بانتخاب صديقه الحبيب عاشور للاضطلاع بهذه المهمّة الجسيمة، معربا عن أمله في أن يسير الاتحاد في المنهج الذي رسمه له فرحات حشّاد، إلاّ أن العلاقات بدأت تتوتّر بين الحزب والاتحاد منذ انعقاد مؤتمر بنزرت سنة 1964 الذي قرّر انتهاج سياسة التعاضد وتغيير اسم الحزب الدستوري الذي أصبح يسمّى "الحزب الاشتراكي الدستوري". وحاول الحزب فرض وصايته على المنظمات القومية. فعارض الحبيب عاشور هذا الاتجاه وسانده أحمد التليلي الذي بدأ يتضايق من تصرّفات بورقيبة وانفراده بالسلطة. وفي الأثناء شبّ حريق يوم 7 جانفي 1965 في العبّارة الرابطة بين صفاقس وقرقنة، والتابعة لشركة يديرها الحبيب عاشور. وأسفر الحادث عن عدد من القتلى والجرحى بين السيّاح الأجانب. فاستغلّت الحكومة الفرصة لتتبّع الحبيب عاشور قضائيا، وإزاحته عن الأمانة العامة للاتحاد العام التونسي للشغل. وطلب وكيل الجمهورية رفع الحصانة عن الحبيب عاشور النائب في مجلس الأمّة. فوافق المجلس على هذا الطلب رغم معارضة أحمد التليلي الذي قرّر مغادرة البلاد نهائيا. وهو ما وقع بالفعل إثر موافقة مجلس الأمّة على قرار رفع الحصانة وإحالة المتّهم على المحكمة، فغادر أرض الوطن يوم 29 جوان 1965. وفي جويلية 1965 أسهم أحمد التليلي في أشغال مؤتمر للكنفدرالية الدولية للنقابات الحرّة، واتّصل برفيقه النوري البودالي الذي كان قد عيّن في الشهر نفسه كاتبا عاما للاتحاد العام التونسي للشغل بالنيابة. وأخبره بأن الوضع في تونس قد ازداد خطرا، منذ إخضاع الاتحاد لهيمنة الحكومة والحزب. ورغم فصل أحمد التليلي عن الحزب إثر إصداعه بمعارضته لسياسة الحكومة، فإنه لم يتردّد في توجيه رسالة إلى الرئيس بورقيبة من نيويورك مؤرّخة في 20 ديسمبر 1965, هنّأه فيها بحلول رأس السنة الميلادية الجديدة، وتمنّى "أن يزول عن قريب الخلاف [القائم بينهما]، بتمكين شعبنا العزيز من تصريف شؤونه بنفسه عمليّا على النحو الديمقراطي الكفيل وحده بضمان مستقبل زاهر لتونس الخالدة". ولما علم بأن الوضع لم يتغيّر في تونس، أردف تلك الرسالة برسالة ثانية مؤرّخة في 25 جانفي 1966, حلّل فيها بصراحته المعهودة الوضع الحقيقي السائد في البلاد، وما ينطوي عليه من مخاطر ذات عواقب وخيمة، والحلول التي يراها كفيلة بتصحيح الوضع، وفي مقدّمتها تمكين الشعب التونسي من تصريف شؤونه بنفسه، "في ظلّ نظام ديمقراطي يضمن للشعب الأمن والحرية والاطمئنان على مصيره". وفي الأثناء أصيب أحمد التليلي بمرض عضال، وتدهورت حالته الصحيّة في مطلع سنة 1967. فقرّر العودة إلى أرض الوطن، وأدلى عند وصوله إلى تونس يوم 25 مارس 1967 بتصريح أشاد فيه بالرئيس الحبيب بورقيبة الذي كان هو أيضا مريضا. وخصّه المناضلون باستقبال حارّ، متمنّين له الشفاء العاجل. وبمناسبة الاحتفال بعيد النصر أصدر الديوان السياسي في 30 ماي 1967 بلاغا بإمضاء رئيس الحزب أعلن فيه رفع قرار الرفت المتّخذ ضدّ أحمد التليلي ورجوعه إلى حضيرة الحزب. وبعد بضعة أيام تدهورت حالته الصحيّة فنقل على جناح السرعة إلى باريس حيث أجريت عليه عمليّة جراحية دقيقة في مستشفى سان انطوان توفّي على إثرها في 25 جوان 1967 عن سنّ تناهز الاحدى والخمسين سنة. ونقل جثمانه إلى تونس حيث نظّمت له الحكومة والحزب جنازة وطنية.