أبو فهر

من الموسوعة التونسية
نسخة 13:59، 8 ديسمبر 2016 للمستخدم Marwa (نقاش | مساهمات) (أنشأ الصفحة ب'[موقع] يقع "أبو فهر" في المركز العمراني الشمالي لمدينة تونس ويندرج ضمن منطقة سكنيّة على طول ال...')

(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى: تصفح، ابحث

[موقع]

يقع "أبو فهر" في المركز العمراني الشمالي لمدينة تونس ويندرج ضمن منطقة سكنيّة على طول الحافة الجنوبيّة وعند مدخل بلدة أريانة.وبحكم موقعه، خضع للتهيئة العمرانيّة فشيّدت فيه العمارات وركّزت شبكة للطرقات وجهّز ببنية تحتيّة حديثة... ولم يبق منه إلاّ قطعة أرض تمسح 6 هكتارات، وهي أرض عارية لا تنبت فيها إلاّ نباتات بريّة. ولا شكّ في أنه لن تتسنّى لنا معرفة المساحة الحقيقية لهذا الموقع التاريخي، حيث تقوم في الجانبين الغربي والجنوبي جدران كبيرة من الطوب متآكلة جدّا، كما تقوم آثار حوض فسيح، وهو ما أتاح تحديد موقع "جنان أبي فهر" التي ترجع إلى القرن الثالث عشر (م). وما وقعت صيانة هذا الموقع إلاّ بفضل تلك الاثار التي حملت الكاتب العامّ للحكومة التونسية سنة 1912على اتّخاذ قرار يعتبر هذا الحوض معلما تاريخيّا. وكان "بول غوكلر" (Paul Gauckler) أوّل من اكتشف المعلم سنة1902 وحقّق أنّه موقع أبي فهر. أمر ببناء "جنان أبي فهر" السلطان الحفصي أبو عبد اللّه المستنصر (1249 - 1277م) وهو نجل أبي زكرياء مؤسّس الدولة الحفصية سنة 8221م. ويعد "أبو فهر" جزءا من مشروع مائي ضخم إذ أقيمت أشغال سمحت بإيصال مياه زغوان إلى العاصمة وإلى جامع الزيتونة بالذّات وجنان السلطان. وقد أخبرنا الزركشي أنّ الأشغال بدأت سنة 648هـ/1250م أي بعد سنة من تولّي السلطان وأنّها انتهت سنة 666هـ/1267 - 1268م، كما أخبرنا أنّ المستنصر تولّى ترميم الحنايا الرومانية وإصلاحها حتى يتسنّى جلب ماء زغوان إلى تونس وإلى "جنان أبي فهر". ونجد المعلومات نفسها عند العبدري والعمري وابن أبي دينار. وقد أنفق السلطان أموالا كثيرة على هذه الجنان الفخمة التي استغرق إنجازها 18 سنة وجنّد لها آلاف العمّال. قبل إجراء الحفريات تبيّن لنا أنّ الحائط الغربي للحوض الكبير يمتدّ على طول 183م وأنّ الحائط الجنوبيّ يمتدّ على 39م، ويبلغ سمكهما 5،2م وارتفاعهما على أقصى تقدير 2م. ولا نعرف يقينا عن هذا الحوض الكبير إلاّ عرضه وهو 78,50م، دون اعتبار سمك الجدران وتقدّر سعته ب45000م3. أما الجناح فيبدو أنه مستطيل الشكل ويمتدّ من الشرق إلى الغرب على مدى 31م.

الموادّ وتقنيات البناء

بني الجناح والحوض من الطوب كما أسلفنا. وقد وصف ابن خلدون في مقدّمته تقنية البناء في ذلك العهد حيث قال: "ومنها البناء بالتراب خاصّة يتّخذ لها لوحان من الخشب مقدّران طولا وعرضا باختلاف العادات في التقدير وأوسطه أربعة أذرع في ذراعين فينصبان على أساس وقد بوعد ما بينهما بما يراه صاحب البناء في عرض الأساس ويوصل بينهما بأذرع من الخشب يربط عليها بالحبال والجدر ويسدّ الجهتان الباقيتان من ذلك الخلاء بينهما بلوحين آخرين صغيرين ثمّ يوضع فيه التراب مخلطا بالكلس ويركّز بالمراكز المعدّة حتّى ينعم ركزه وتختلط أجزاؤه ثمّ يزاد التراب ثانيا وثالثا إلى أن يمتلئ ذلك الخلاء بين اللوحين، وقد تداخلت أجزاء الكلس والتراب وصارت جسما واحدا، ثمّ يعاد نصب اللوحين على الصورة ويركز كذلك إلى أن يتمّ وينظم الألواح كلها سطرا من فوق سطر إلى أن ينتظم الحائط كلّه ملتحما كأنّه قطعة واحدة ويسمّى الطابية وصانعه الطوّاب". (المقدمة ط. بولاق. 1320هـ، ص 386.). وبداخل الحوض طليت الجدران بطلاء من النوع الهيدروليكي سمكه 5 صم متكوّن من خليط من الكلس والجبس وفحم الحطب ومن كميّة ضعيفة من الفخار المهروس. ولقد اندثر هذا الطلاء ولم يبق إلاّ في بعض المواضع، وأساسا على الجدران التي كانت مدفونة في باطن الأرض. ولنا أن نتساءل: لماذا اختار مهندسو المستنصر الطوب؟ والحال أنّ الحجارة متوافرة في تونس وأنّ المباني العامّة والمنازل الخاصّة مبنيّة في الغالب بالحجارة، فلا شكّ في أنه اختيار عن قصد لتقنية بناء ومادّته اعتبرتا أكثر ملاءمة لمنشأة هيدروليكية لها مثل تلك الأهمية. وللطّوب الحفصي الذي يمثّله هنا حوض "أبي فهر" صلابة شبيهة بصلابة الحجارة. وكان مستعملا بكثرة في الهندسة المعمارية الاسلامية بالأندلس. وفي تونس أمر الواثق - وهو الذي خلف المستنصر - بدعم الأسوار ومنشآتها الدفاعية (باب الجديد) واستخدام مواد قريبة من التي استخدمت في بناء الحوض. وأتاحت لنا الحفريّات التعرّف إلى موادّ أخرى استعملت للبناء والزينة كالصوّان والرخام الأصفر والمجزّع بالورديّ (من شمتو) والزليج الأبيض والأسود... وهي موادّ تنمّ عن ترف لا تقدر عليه إلاّ الطبقات المحظوظة، ولن تستخدم بكثرة إلاّ في القرنين الخامس عشر والسادس عشر من قبل البرجوازية الحضرية لتكسية الجدران التي ستصبح أهم عنصر من عناصر التزيين المعماري.

توضيح المعطيات الأثريّة والتاريخيّة

إنّ الحفريات التي قمنا بها لم تنته بعد، لكنّها سمحت لنا باستكشاف الحوض والجناح استكشافا جزئيّا يمكّننا من تكوين فكرة عنهما. ففي خصوص الموقع، ليس لنا ما يدلّنا على احتلاله قبل العهد الحفصي. أمّا احتلاله المتأخّر في بداية القرن العشرين - كما تشهد به أرضيّة الاجر والقطعة النقدية التي ضربت في عهد الناصر باي - فهو عديم الدلالة. وفي خصوص البناءات ذات الأشكال الهندسية الأنيقة والمتناسقة فقد خُطّطت شرفتها وهيّئت لاعطاء السلطان مكان الصدارة وإبراز أبّهة ملكه. ويبدو أنّ المستنصر لم يقرّر إنجاز "أبي فهر" إلاّ بدافعين متناقضين: الورع والتسلية. ويذكر العبدري في "رحلته" التي ألّفها في أواخر القرن الثالث عشر (م) أنّ جامع الزيتونة لم يكن يزوّد إلاّ بكميّة ضئيلة من مياه الحنايا التي كان جلّها مخصّصا لقصور السلطان وجنانه. قد تكون هذه الملاحظة صحيحة وقد لا تخلو من بعض المبالغة إذا أدخلنا في الاعتبار موقف الموحدين من الترف والبذخ، وهو موقف يتّسم بكثير من الارتياب وحتّى الاستنكار. وفي الواقع كان هدف المستنصر تزويد الجامع الأعظم بالماء وتمكين المصلّين من الوضوء ولم يكن تزويد المدينة من أولويّاته، إذ كان على سكّان العاصمة أن يعوّلوا على مواجلهم وعلى بعض الابار الجماعية. وكانت تونس مثل سائر مدن إفريقية تعاني من نقص الماء، خصوصا عندما أخذ عدد سكّانها يتزايد. وكان "بستان أبي فهر" بحوضه الضخم وقصوره وأبراجه وغياضه ورياضه ومستنقعاته في حاجة ماسّة إلى مياه الحنايا، ولكن لم يدم طويلا على ما يبدو. فبعد وفاة المستنصر الذي واصل على غرار أبيه دعم أركان الدولة، مرّت البلاد بفترة طويلة من عدم الاستقرار السياسيّ غير ملائمة لانجاز الأشغال الكبرى. وهي فترة اتّسمت على حدّ قول "برنشفيك" (R.Brunschvig) بالاضطرابات والضعف والانقسامات التي مرّت بها إفريقية على مدى حوالي مائة سنة منذ موت المستنصر. ولم تنجز أشغال مائية مهمّة إلاّ بعد تولّي أبي فارس (1394 - 1434) وخاصّة في عهد أبي عمرو عثمان (1435 - 1488). ولا نعرف متى كان التخلّي النهائيّ عن "جنان أبي فهر" والأرجح أنّ ذلك وقع عندما اختلّت الحنايا تماما. فلم يبق من هذه الجنان في القرن السابع عشر إلاّ الحوض وبعض الخرائب، حسب شهادة ابن أبي دينار الذي يضيف أنّ اسم الموقع لم يبق له أثر في ذاكرة السكّان وأنّه أصبح يسمّى في أيّامه البطّوم. وفعلا، يوجد اليوم على مقربة من الموقع مكان يدعى بير البطّوم. فتغيير الاسم يحملنا على الاعتقاد أنّ تخلّي عن الموقع قبل القرن السابع عشر بكثير. وكان المستنصر الذي تقلّد الحكم في الثانية والعشرين من عمره قد وضع حدّا للمثل الأعلى الذي دأب عليه الموحّدون والذي اتّبعه أبوه بصرامة والقائم على حياة الشظف والتقشّف واختار أسلوبا جديدا في العيش يتّسم بالتّرف والبذخ. ويندرج "أبو فهر" في نطاق جملة من المنشآت العظمى كان الغرض منها توفير المتعة واللّذة للسلطان وإحاطته بهالة من الهيبة والأبّهة. وقد عدّد ابن خلدون في تاريخه بعض تلك المنشآت مثل المنتزه الفسيح الذي أقيم للصيد قرب بنزرت ومثل البستان الذي أقيم برأس الطابية ومثل قبّة أساراك التي شيّدها المستنصر قبالة قصره، وهي كلّها مبان فخمة تبرز عظمة السلطان وتتجذّر في تقاليد سياسية إسلامية عريقة، من الأمويين إلى العبّاسيين ومن الأغالبة إلى الفاطميين. ومن حيث التصنيف ليس "لأبي فهر" علامات مميّزة تسمح بإدراجه في النموذج العباسي، لذلك فهو مقطوع الصلة بالتقليد القيرواني. ومن جهة أخرى، ورغم بعض المظاهر المشتركة بينه وبين النموذج الأموي، فهو لا يندرج فيه بل يمتاز بخصائص معمارية جامعة ومؤلّفة لعدّة نماذج كانت متواجدة في العالم الاسلامي في ذلك العهد. ولئن رأى جورج مارسيهأنّ بركة السباع بحمراء غرناطة هي النموذج الأصلي لعدّة منشآت معمارية في المغرب، فإنّنا نرجّح أنّ الغرناطيّين استوحوا من نموذج قديم جدّا فكرتهم المعمارية الرئيسة. ذلك أنّ حوض "أبي فهر" وجناحيه يتوسّطان البستان ويمثلان العنصر لمركزيّ فيه. ومعلوم أنّ التصميم الاسلامي للبستان يولي اهتماما خاصّا للمركز، وهو في الأصل تصوّر فارسي تبنّاه المسلمون. وكثيرا ما يقارن البستان ذو الطابع الاسلامي بالجنّة كما جاء وصفها في القرآن. إنّ "أبا فهر" مثال جيّد ومتأخّر لبستان شرقيّ .وقد استطاع المسلمون أن يفرضوا أنموذجا طريفا يختلف كلّ الاختلاف عن البستان الكلاسيكي ذي الطابع الروماني. فهما نموذجان يعكسان موقفين مغايرين من الطبيعة. يقول ماسينيون (Massignon) : "في المثال الكلاسيكي تتجلّى الرغبة في السيطرة على العالم من منظور مركزي تترامى أطرافه إلى الافاق وتنعكس الأبعاد في مياه أحواضه الكبيرة وتتحكّم بالارادة المركزية في أشجاره، ولكنّها تذهب شيئا فشيئا إلى غزو كامل المحيط المجاور. أمّا في البستان الشرقي، فالأولويّة تعطى للغلق ولا ينصرف الاهتمام إلى الأطراف بل إلى المركز. ففي داخل الحديقة الاسلامية المحاطة بسورها تخميسات من الأشجار والأزهار تتجمّع انطلاقا من المحيط البعيد، متراصّة أكثر فأكثر كلّما اقتربت من المركز، وفي المركز يقوم البرج". وفي "أبي فهر" كان البرج مكانا رسميّا ومكانا خاصّا في آن واحد. كان المستنصر يستقبل فيه رجال دولته وبالأخصّ العلماء والشعراء الذين كان أغلبهم من الأندلسيين المهاجرين إلى تونس. وفي فترات أخرى، كان من أعلى شرفته يجد متعة شديدة في مشاهدة الحسان من جواري قصره يسبحن ويمرحن في مياه الحوض الصافية.