أبو القاسم الشابي

من الموسوعة التونسية
نسخة 17:03، 24 نوفمبر 2016 للمستخدم Admin (نقاش | مساهمات) (أنشأ الصفحة ب' [1909 - 1934م] هو شاعر تونسي اعترف له أبناء جيله، في حياته، بالنبوغ والريادة في الشعر على مذهب الم...')

(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى: تصفح، ابحث

[1909 - 1934م]

هو شاعر تونسي اعترف له أبناء جيله، في حياته، بالنبوغ والريادة في الشعر على مذهب المجدّدين، واعتبروه، على اختلاف أعمارهم، وتباين بيئاتهم شاعر تونس الأكبر، تُضاهي تجربته تجربة أعلام حركات التجديد المعروفين آنذاك في المشرق العربي أو المقيمين بالمهاجر بل وتتفوّق عليها. ولقد تواصل اللهج بعبقريته إلى الان ولم يزد ضيق بعض الناس بإجماع الأجيال على تفرّد صوته الشعري مكانته إلا رسوخا.

وُلد بقرية الشابية يوم 24 فيفري 1909 في عائلة عرف عنها ميلها إلى التصوّف والاهتمام بمؤلفات أعلامه. درس أبوه بالزيتونة ثم رحل إلى الأزهر لاتمام دراسته وفيه حضر بعض دروس الشيخ الامام محمد عبده (ت. 1905) . وتولّى بعد رجوعه خطة القضاء الشرعي وكانت تدعو القائم عليها إلى الانتقال بين الجهات فعرف الابن بلادا كثيرة.

ليس لنا عن نشأته الأولى، قبل التحاقه بجامع الزيتونة سنة 1920, إلا ما ذكره الشاعر عن نفسه في الترجمة القصيرة التي كتبها ليُتوّج بها زين العابدين السنوسي ما جمع من أشعاره في كتابه "الأدب التونسي في القرن الرابع عشر" الصّادر سنة 1927.

أرسله والده، أوّلَ الأمر، إلى مدرسة تعلّم اللسانين العربي والفرنسي لكن سرعان ما غيّر رأيه وألحقه بعد أسبوعين فقط بالكتّاب لقراءة القرآن وحفظه استعدادا للالتحاق بالكلّية الزيتونية.

وفي هذه الفترة المبكرة بدأت ميوله الأدبية تظهر وشغفه بالقراءة يشتدّ فكان يتلقّف الكتاب بلهفة حيثما وجده. وقد يكون الشابي عرف في هذه السّنّ، إضافة إلى النوازع الأدبية، انجذابا إلى النّسك والانقطاع إلى العبادة طمعا في أعلى مراتب التصوّف.

التحق بالكلية الزيتونية في أكتوبر 1920. وتُجمع شهادات زملائه وأصدقائه على أنّه كان فتى نحيل الجسم، أنيقا، حييّا إلى حدّ الافراط، يبدو للناس من أخذه نفسه بالجدّ في كلّ شيء، نتيجةَ تربيته الأولى، في مظهر الكهول، وهو الفتى اليافع، كما أجمعوا على رهافة حسّه واستسلامه، أحيانا، إلى ضرب من الوجوم المشوب بالكآبة.

وشيئا فشيئا بدأت حياته الجديدة بالمعهد الزيتوني بالعاصمة وفي المدارس التي كان يقيم بها الطلبة، وأغلبهم وافد من داخل البلاد، من جهات كثيرة، تساعده على اختيار النهج الذي يستجيب إلى ما في نفسه من طموح وإلى ما يسكنها من أحلام. فقد كانت دواعي التعلّم تدعوه إلى الانتقال بين حلقات الدروس والمكتبات العامة ومراجعة الأصدقاء في ما يعرض من مسائل، وكانت حياة المدارس بما فيها من احتكاك مباشر بين المقيمين، وجدّ مشوب بكثير من اللهو والعبث لاحتمال صعوبة العيش وشظفه كفيلة بفكّ طوق ما في التربية الأولى من تشدد، وإنّ لم تغيّر شيئا من جد الشاعر واستقامته التي عُدّت مضرب الأمثال، كذلك وجد صاحبنا في ما توفّره العاصمة من فضاءات ترويح ولهو ما حبّب إليه حريته وجرّأه على نفسه.

على هذا النحو أنفق الشابي الفترة الفاصلة بين التحاقه بالزيتونة وتخرّجه فيها بالتطويع في العلوم من الرتبة الثانية سنة 1928 في إشباع نهمه، واستثارة الدّفين من ميوله، فقد عُرف عنه ملازمته للمكتبات وشغفه بمطالعة ما يقع بيمينه من الكتب والمجلاّت.

وإذا غضضنا الطّرف عما في بعض الشهادات من غُلوّ ومبالغة في تقدير ثقافته، وسعة دائرة اطّلاعه، استطعنا، اعتمادا على ما في أدبه من إشارات، وعلى ما تضمنته شهاداتُ أبناء جيله من المحققين الثّقات، أنّْ نرسم صورة تقريبية لمكتبة الشابي. فقد قرأ من الأمّهات أشهرها، واطّلع، ما وسعه الاطّلاع، على أهم تجربتين تحديثيتين في الشعر آنذاك وهما تجربة الرابطة القلمية، وجماعة الديوان; كما كانت له معرفة بشعر الاحياء في مصر وفي العراق خاصة، وإقبال على نثر الكتّاب المشهود لهم بالتجديد في الفكر والمنهج والتفوّق في الصياغة والأسلوب من أمثال أحمد حسن الزيّات وطه حسين. وقد كانت لأحمد أمين في نفسه مكانة تفوق مكانة طه حسين وكان إلى نثره أميل لما فيه من دقّة ولما لصاحبه من سعة اطّلاع وعمق نظر.

وقرأ أيضا ما توفر في ذلك الوقت من ترجمات، وهي نصوص قليلة (مواعدة، حركة الترجمة في تونس، 1986) لكنها كافية لتوفّر لمطالعها عن الأدب الغربي "معرفة عامة" على حد عبارة محمد صالح المهيدي (الشابي، ققق/202).

وفي هذه الفترة كتب أولى محاولاته الشعرية: فقد أشار الشابي في ترجمته لنفسه إلى أنّه بدأ نظم الشعر في السنة الثالثة من دراسته بالمعهد الزيتوني لكنّه نظم قليل "طواه الزمن فاندثر" (في هذه الترجمة اضطراب لا نفهم سببه ولم يُشر إليه ناشر الوثيقة. فهو يصرّح بأن عمره عند التحاقه بالزيتونة كان اثني عشر عاما ثم يضيف: "ولما بلغت من العمر الثالث عشر أي في السنة الثالثة من سني دراستي بالمعهد الزيتوني نظمت الشعر" (الشابي، ققق/254 - 255).

ولم يبدأ القرّاء يطالعون شعره إلاّ سنة 1927 في الصفحة الأدبية التي كانت تصدرها جريدة "النهضة" كلّ يوم اثنين، وعرفوه عندما صدر المجلد الأوّل من كتاب زين العابدين السنوسي السالف الذكر "الأدب التونسي في القرن الرابع عشر" عن مطبعة العرب سنة 1927. فقد أثبت من شعره سبعة وعشرين نصّا بين قصيدة ومقطوعة وهو ما "أحدث أثرا كبيرا وهزّة استبشار عامة" على ما ذكره مؤلف الكتاب بعد ذلك (الشابي، ققق/18).

ولم يكن الشعر، في هذه الفترة، نمط الكتابة الغالب على الشابي. فقد عبّر هو نفسُه عنْ تردده، بحسب الحال وتنافر الأفكار، بين حبّ النثر وحبّ الشعر حتى استقرت الحيرة على اتخاذهما خدْنين "في فجر الحياة وغروبها" وبلبلين "في ابتسامها وقطوبها". ولم تمنع غلبة التوق إلى الشعر الشابّي من الاهتمام بالنثر، وإيراده موارد الشعر عاطفة وأفكارا.

ومباشرة بعد حصوله على التطويع سنة 1928 انتسب إلى مدرسة الحقوق التونسية التي كانت الدروس فيها تلقى بالعربية وتدوم سنتين. وقد تكون صلته بالدراسات القانونية سببا في ما عُرف عنه من نشاط اجتماعي كثيف في تلك السنة. فقد انتُخب عضْوا مؤسسا لجمعية الشبان المسلمين، وأسهم إسهاما بارزا في وضع قانونها الأساسي; ونجده، في السنة نفسها، رئيسا للجنة الطلبة المنادين بإصلاح التعليم الزيتوني وتجديده، وكانت بعض الجلسات طويلة، مُرهقة. وعندما يختلط فيها الاصلاحي بالسياسي كان الناس يشيرون إلى ما يبديه الشابي "من الثبات في الموقف والشجاعة المتناهية" (انظر المهيدي، الشابي، ققق/202 - 203) كما وضع برنامجا شاملا للنادي الأدبي بجمعية قدماء الصّادقية وصاغه بحسب ما كانت الثلّة النيّرة النشطة فيه ترمي إليه من مقاصد، وتريد بلوغه من غايات، وهي "إحداث لون جديد من النقد والتحليل للأدب يتماشى مع الحالة الجديدة لهذا العالم الجديد (.) على أن نبتعد قدر الامكان عن الأدب المحنّط في أكفان الماضي السحيق ونولي وجهتنا نحو أدب يمثل روح العصر" (محمد الصالح المهيدي، الهداية، عدد 26، أكتوبر نوفمبر 2001، ص. 44).

وكانت محاضرته عن "الخيال الشعري عند العرب" ثالث المحاضرات في برمجة سنة 1929 بعد محاضرتي محمد الصالح المهيدي عن امرئ القيس وأدبه ومحاضرة الأب يوسف سلاّم عن طريقة ديكارت ومدى أخذ طه حسين بها في كتابه "في الأدب الجاهلي". ألقيت المحاضرة التي دامت ما يزيد على الثلاث ساعات بالقاعة الكبرى للمحاضرات بالجمعية الخلدونية يوم غرة فيفري 1929.

لم يكن حديث الشابي عن الخيال الشعري أدبيا إلاّ في الظاهر، إذ الخيال عنده القدرة على الابداع والاختراع واختراق سطح الظواهر والموجودات للوقوف على جوهرها البعيد المضمر. هو "هذا الخيال الذي نلمح من خلفه ملامح الفلسفة وأسرّة الفكر، ونسمع من ورائه هدير الحياة الكبرى يدوّي بكل عنف وشدّة". فمسألة الخيال أعمّ من الأدب وأوسع، لها صلة بكل ما تنتجه الأمة من آداب وفنون وعلوم وما تبني من رؤى وتخطّ من آفاق. وهو ما قد يفسّر الحضور الذي ضاقت عنه قاعة نادي قدماء الصادقية ويفسّر الضجة الكبرى التي هزّت كلّ الأوساط ووصل دويّها إلى بعض الأقطار العربية.

ولقد كانت المحاضرة، زيادة على ذلك مُربكة لصعوبة الفصل فيها بين ما هو من المقاصد العامة ومقتضيات الدعوة ولوازم الاعتقاد، وما هو تفاصيل وجزئيات تختلف مراتبها من الصحة والخطإ ويتفاوت نصيبها من الاقناع والتأثير. وقد زادت لهجة المحاضر ومواقفه الجازمة القاطعة من ارتباك الناس وحرجهم. فجاءت مواقفهم مبنية على الدفاع والانتصار لا على العدل والتجرّد. فإنك متى استثنيت نفرا قليلا كانوا مؤمنين بالتجديد صادق الايمان وجدت الكثير من زملائه وأصدقائه إمّا قد انشق عنه وعارضه علنا، وإمّا اعتذر عنه بصغر السن وحماسة الشباب و"الميل مع مذهب التطوّر على ما فيه من خلل (...) ومسايرة تلامذة المستشرقين من رجال الأدب في تلك الفترة" (مصطفى خريّف، الشابي III / 460) . أو بأنه لم يأت بدعا من القول فكثير من آرائه معروف مسطور في الكتب نجده عند نعيمة ونجده عند العقاد وعمل الشابي "ينحصر في أنّه "طبق" تلك النظريات الحديثة بصورة عملية" (الحليوي، الشابي،III / 447) . ثم إنّ أولئك وهؤلاء أجمعوا على أنها "طرفة فنية في الكتابة أكثر منها كتابا علميا" وقطعة من الأدب الانشائي، ولست تدري في الغالب هل هذا المذهب في التخريج تحصين للمحاضرة وصاحبها ضد هجمات المحافظين أم هل هو تقليل من محتواها الفكري وعدها "تهويمة" شاعر.

ولسنا نعرف في تاريخ الاداب نصّا أُتيَمن المتهجمين عليه ومن المنتصرين له ولصاحبه كهذا النص. فقد حُوصر بالخوف منه، وحوصر بالخوف عليه، فلم يولّد ما كان قادرا على أنّ يولد من بحث رصين عميق في مسألة الخيال ولم نرَ إلى الان دراسة وحيدة تدحض آراء الشابي أو تقرّها، بناء على مقتضيات العلم وأصول الدرس الجاد. بل إنّ كثيرا ممّا قاله عن الأساطير العربية وعن تناول الشعراء للمرأة وعن النزعة الخطابية والمادية التي تطبع العربي لا يُردّ بسهولة لا سيما وبعضه مقدمات في دراسات لأعلام المحافظين المدافعين عن اللغة والحضارة العربية على كل ّ حال (المسدي، الشابي، 1/21 وما بعدها).

ولقد كان الشابي حريصا على نشر محاضرته، ولم يغادره ذلك الحرص حتى في أشدّ ظروفه وقعا عليه وإيلاما لنفسه. فلقد مرض أبوه بضع أشهر بعد إلقائه المحاضرة وتوفي في 8 سبتمبر 1929 وزعزع الموت كيانه، وملأه تفجّعا ويأسا، وأثقل كاهله بمسؤولية مفاجئة لم يستعد لها، وحرمه من أن يرى "الوالدُ الكريم" أوّل عمل أخرجه الابن للناس وسار فيه على ما علّمه من "صراحة الصدق وجمال الحقيقة". طُبع الكتاب في نسخ معدودات على قدر ما وزّع على "أحباء الأدب الحي" من مقتطعات وخرج للناس بمقدمة كتبها ناشره وحاضن أدبه وفكره زين العابدين السنوسي في أكتوبر 1929.

وبعد موت والده وصدور محاضرته تسارع نسق الأحداث في حياته وتغيّر وقعها وتعمّق إيقاعها. تزوّج سنة 1930 زواجا سكت عنه المقرّبون من أصدقائه، واختلف الناس في دواعيه لقيام المانع الصحي. فقد بدأت أعراض مرض القلب تلوح على الشاعر بداية من 1928 واشتد عليه أمرها في الأربع سنوات الأخيرة من حياته حيث لم تكن فترات الشفاء القليلة إلاّ إيذانا بازدياد وطأة المرض واشتداد وقعه عليه. وفي إيقاع الشّعر سيذيب ألم الوقع، وبالجرْي في فضاء القصيدة الرّحب سيقهر الداء الذي كان يقطع عليه أنفاسه لأدنى حركة أو جهد.

في هذه الفترة يتطوّر شعره تطوّرا حاسما وتتحدّد أبرز سمات تجربته من جهة فنّه الشعري وعقيدته الأدبية. وفي هذه الفترة أيضا سيعترف الشرق بمنزلته الشعرية عندما بدأ ينشر شعره بمجلة أبولو وكانت الفاتحة، سنة 1933, رائعته "صلوات في هيكل الحب" فقامت بينه وبين الجماعة علاقة وطيدة لم يكن بعض أصدقائه راضين عنها تمام الرضى (الحليوي، الشابي، قق/122 - 124) . كان من أبرز نتائجها طلب أبي شادي، زعيم الجماعة، من الشابي كتابة مقدمة ديوانه "الينبوع"، وطلب الشابي منه أن ينشر ديوانه بمصر ولذلك قام على جمعه وإعداده للطبع وسمّاه "أغاني الحياة" وربما "أغاني الفجر" (المهيدي، الشابي ققق/203 - 204) . إلا أنّ المنية عاجلته فتوفي فجر يوم 9 أكتبور 1934 ولم يصدر الديوان إلا سنة 1955 بعناية أخيه الأستاذ محمد الأمين الشابي.

و"أغاني الحياة" صوت فذ منفرد تتناغم في قراره أصوات تحكي حياة الشعر العربي قديمه وحديثه، وتصوّر طموح جيل الشابي وأجيال قبله إلى "الشاعرية الحق". وليس المجال مجال بسط القول في هذه التجربة فالدراسات كثيرة والاراء مختلفة والمعايير ليست خالصة للشعر ULz«eo وإنما الذي نريد أن نضيفه إلى ما قيل عنه أنك تُحسّ بأنه شاعر كبير ولست تعرف إلى أي شيء ترد ذلك، بل إنّ كثيرا من مكوّنات نصّه لا تصنع شاعرا بحق لو نظر إليها نظرا مخبريا باردا.

فلهجته، في كثير من قصائده، مباشرة، وبنية بعضها بنية خطابية، وصوره البلاغية يغلب عليها التشبيه في أقرب صوره وأوضحها، ومعجمه الشعري محدود، وأغلب معانيه جارية في أشعار غيره... وهذه علامات يعرفها الذين درسوا عن كثب شعر الرجل، ويعرفها النابهون من نقّاد جيله، وعلى رأسهم صديقه وصفيّه محمد الحليوي، ومع ذلك لا نجد من النقاد من لا يُقر بأنه شاعر غيرُ عادي، وأنّ شاعريته فوق الوصف وأبعد ممّا قد تصل إليه مناهج تحليل النصوص المكتفية بالبنى الماثلة فيها. وليست قيمة "أغاني الحياة" في ما أشرنا إليه من مظاهر وإنما في كونها تردّدا أبديا بين الواقع والحلم، بين التاريخي والمطلق والمحايث والمفارق، بين دواعي المواطنة في لحظة تعسّر مؤلمة ومرهقات الادمية، من هذا الايقاع العجيب استمدت فيض الشعر فيها وبه استطاع صاحبها أن يسطع كالشمس فيحجب ما دونه.

وللعلم، فإن مؤلّفات الشّابيّ هي ديوان "أغاني الحياة" و"المذكّرات" و"الخيال الشعريّ عند العرب" و"الرسائل" وغير ذلك من الكتابات.