أبوليوس

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث

[ولد حوالي 125م]

بلغت مقاطعات الامبراطورية الرومانية بشمال القارة الإفريقية أوج ازدهارها المادي وقمة تقدمها الحضاري في القرن الثاني بعد الميلاد، فاتّسع نطاق التحضّر، وشمل العمران أرجاء البلاد وتكاملت أسباب الرفاهة المادية، بفضل ما وفّره النموّ الاقتصادي من مكاسب وأرباح. وتطور المجتمع الافريقي، ففتح في وجه أغنياء الأفارقة ووجهائهم باب الطبقات النبيلة في الامبراطورية،والتحقت جموع كبيرة بصنف الفرسان (ordo equestris) وارتقى الكثير منهم إلى صنف الشيوخ (ordo senatorius). فكان عند ذلك إسهام الأفارقة في المسك بزمام الدواليب الاقتصادية والأجهزة الادارية والقيادات العسكرية إسهاما فعليّا. وانتشر التعليم في عواصم المقاطعات الإفريقية ومدنها، وتداولت الكتب اللاتينية واليونانية بين المثقفين، فتواصل بذلك تفتح الثقافة الإفريقية على ما كانت بلاد اليونان والشرق القديم ومصر من ناحية، والعاصمة الرومانية من ناحية أخرى، تزوّد به النخبة منذ عهد بعيد، وتؤثر به على منحى التطلّعات الفكريّة والتيارات الفنيّة. وكان من الأدباء وكبار المثقفين الأفارقة، ممّن ذاع صيتهم في ذلك العصر الذّهبي، الأديب أبوليوس (Apuleius), أصيل مادوروس (Madauros), وهي المدينة النوميدية التي لا يزال اسم أمدوروش يطلق على موقعها الأثري بولاية قسنطينة بالقطر الجزائري على مقربة من الحدود التونسية. أسّست مادوروس في القرن الثالث قبل الميلاد، وأصبحت في عهد الملك النوميدي ماسنيسا (Massinissa) مركزا مهما يحرس التخوم الجنوبيّة على مشارف بلاد جيتوليا (Gaetulia). أما بعد الاحتلال الروماني وفي عهد أباطرة الأسرة الفلاويّة (Falavii) في أثناء الثلث الأخير من القرن الأول الميلادي، فقد وقع الاختيار على موقعها لاستيطان جمع من قدماء المحاربين الرومان عهد إليهم بمراقبة تحركات قبيلة كانت من أخطر القبائل الجيتوليّة، وهي قبيلة الموزولاميين (gens Musulamiorun) ولم تلبث هذه النواة من المستوطنين الرّومان أن اندمجت في الوسط الاجتماعي الافريقي، حتى صار أبوليوس يفخر فيما بعد بأصالته النوميدية الجيتوليّة معا.

يكتنف الغموض سنوات كثيرة من حياة أبوليوس، لأنّه لا يسلّط الأضواء في مؤلفاته إلاّ على فترات منها، ولا نجد من دون مؤلفاته بديلا يورد أخباره، باستناء ما يورده القدّيس أوغوسطينوس (Augustinus) من طفيف الأخبار. ولد حوالي سنة 125 ميلادياًّ، وكان أبوه حاكما بلديّا ميسورا قد تقلّب في مناصب الحكم البلدي التي كانت حكرا على وجهاء المدن وأغنيائها، حتى بلغ أسمى الرتب عندما أصبح أحد "الرجلين المشرفين على إدارة المدينة" (Duoviri). ويرجّح المؤرخون أنّه كان، كسائر الوجهاء الأفارقة، يمتلك في ريف مدينته حقولا من الحنطة والزياتين جعلت إرثه يبلغ مَبْلَغًا مهما من المال (مليوني سترسيوم) اقتسمه أبوليوس مع أخيه. بلغ أبوليوس سنّ الدّراسة في عهد كانت فيه الطبقات الاجتماعية الوسطى بالمقاطعات الافريقية مصرّة على بذل أقصى الجهد للفوز بالرقي الاجتماعي والالتحاق بصفّ الفئات النبيلة. ولذا كانت حريصة على تزويد أنجالها برصيد من الثقافة اللاتينية الأصيلة حتى تؤهلهم لاحتلال المناصب الادارية المنتظرة عند بلوغ الغرض. ولا تتخلف مدينة من المدن، مهما صغرت وقلّ سكّانها، عن توفير التّعليم في مرحلته الأولى التي يلقّن المعلم (magister ludi) فيها التلاميذ الصغار القراءة والكتابة ومبادئ الحساب، معتمدا طرائق بيداغوجية تعتمد على الحافظة والتقليد. لقد توارث المربون، منذ أحقاب الحضارة الهلّينستيّة، هذه الطرائق، وتوارثوا كذلك ما كانت تتوخاه من صرامة الممارسات التربويّة والقسر الذي بقي ذكره راسخا في ذهن القديس أوغوستينوس حتى أيام الشيخوخة.

وبينما كانت المدن الصغرى تقتصر على توفير هذه المرحلة من مراحل التعليم، كانت مادوروس تعدّ من الأمصار التي يستطيع فيها الطلاب مواصلة دراستهم، فقد كان يؤمّها من أبناء الطبقات الاجتماعية الوسطى بالمدن المجاورة من يسر حاله أو استطاعت أسرته تحمّل أعباء الانفاق رغم فقرها. وكان ذلك شأن أسرة الطالب أوغوسطينوس في موفّى القرن الرابع، فشدّ الرحال من مسقط رأسه تاغاست (Thagaste) (على أنقاضها أقيمت مدينة سوق اهراس الجزائرية) لمواصلة التعليم بمادوروس ثمّ بقرطاج. أما أبوليوس فانه لم يغادر مادوروس طيلة المراحل الأولى من الدراسة، فانتقل من صفّ المعلّم إلى صفّ أستاذ اللغة (grammaticus latinus) الذي علّمه اللغة وقواعدها وعرّفه بالأدب الكلاسيكي وأعلامه، وفي مقدّمتهم ورجيليوس (Virgilius) وشيشرون (Cicero). لقد اضطلعت المدارس إذن، على اختلاف درجاتها، بدور أساس في رومنة المقاطعات الإفريقية ونشر اللغة اللاتينية وأدبها، وإذاعة أشعار ورجيليوس وكتب شيشرون. وما سلامة لغة النقائش اللاتينية التي ما زالت تزخر بها المواقع الأثرية إلا دليل على المستوى الرفيع الذي بلغه هذا التعليم، فكان التلاميذ يتهافتون جيلا بعد جيل على دروس أشهر النحويين (grammatici) وفي مقدمتهم سولبيوسيوس أبولّيناريس (Sulpicius Apollinaris) بقرطاج، ونونيوس مارسلّوس (Nonius Marcellus) بتوبورسيقو نوميداروم (Thubursicu Numidarum) (على أنقاضها تقع مدينة خميسة بالجزائر قرب الحدود التونسية) ، وترنسيوس (Terentius) ويوبا (Juba) المتضلّعان من علم العروض. ولكنّ تشبّث النحويين الأفارقة بقواعد البلاغة، واهتمامهم المفرط بجمال الأسلوب، وبحثهم الحثيث عن الكلمات المستهجنة والتعابير اللغوية القديمة، كان ينمّ عن اهتمام مشطّ بالصّياغة واللفظ، وعن قلّة تقدير للمعنى ومدلول الكلام. وهذا ما يعيبه المؤرخون والأدباء المعاصرون على الأشعار الرثائية المنقوشة على أنصاب المقابر بالمواقع الأثرية الإفريقية عموما، وبمادوروس على سبيل المثال، فكثيرا ما تكون جوفاء المحتوى، هزيلة المعنى، رغم حرص الناظم على انتقاء الكلمات وتنميقها، واختيار التعابير وتزويقها. أمّا ثغرات هذا التعليم فقد كانت كثيرة، إذ لا نجد أثرا في البرامج للتّكوين الضروري في التاريخ والفلسفة والعلوم. وحتى إذا ما شمل التعليم اللغة اليونانية في بعض الأمصار، ومن بينها مادوروس، وهي لم تزل منذ أحقاب متتالية لغة الفلاسفة وكبار المثقفين، فإنّ شهادة القدّيس أوغوستينوس تحكم على الأساتذة الأفارقة في عصره بالفشل إذ لم يمكنه تعليمهم من فهم نصّ باللغة اليونانية إلاّ إذا ما استحضر ترجمته إلى اللاتينية.

أمّا من حظوا من الطلبة الأفارقة ببلوغ مرحلة التعليم العالي، فقد كانوا يتوافدون على قرطاج، عاصمة المقاطعة ومنبع العرفان ومعقل الأدب والثقافة بالربوع الإفريقية. وقد أمّها أبوليوس، بعد إنهاء المرحلة الثانوية بمادوروس، فأقبل على دروس الفصاحة والخطابة متلقيا تعليم "الريتور" (Rhetor) مدرّس البلاغة، بكدّ وشغف وتوق إلى اكتساب البراعة في صياغة فصيح الكلام واختيار اللفظ البليغ الذي يضفي على الخطبة رونقها وبهرجها. لكنّ دروس الريتور لم تشف غليل أبوليوس، وأيقن أنّ تكوين المثقف لا يكتمل إلا بالاقبال على التعاليم الفلسفية والسفر إلى بلاد اليونان. فشدّ الرحال إلى أثينا التي كانت، على مرّ القرون، عاصمة الفلاسفة وموطن الحركات الفكرية، خصوصا وقد استرجعت، في بداية القرن الثاني بعد الميلاد، الاداب اليونانية حيويّتها، وانتصب بأثينا الفيلسوف "غايوس" (Gaios) مجدّدا للمدرسة الأفلاطونية، فتتلمذ أبوليوس لمدرسي الفلسفة الأفلاطونية من أتباع غايوس، وتعرّف إلى كتبهم واطلع على متونها وشروحها. لكنّ المدرسة الأفلاطونيّة أصبحت، في عهد أبوليوس، تقتصر على السرد وتلقين القواعد المبسّطة والجامدة من ناحية، والمقترنة بميل شديد إلى التديّن والتصوّف من ناحية أخرى. فكان بروز هذا الجانب الصوفي واستتبابه ينذر، منذ القرن الثاني، بالتحوّل الذي ستحدثه تعاليم بلوتينوس (Plotinus) وبورفيريوس (Porphyrios) بانزلاق المدرسة الأفلاطونية إلى التصوّف في القرن الثالث.

وقد حدث هذا الانزلاق فعلا في شواغل أبوليوس فتحوّل شيئا فشيئا تعلّقه بالمسائل الفلسفية إلى شغف بالمسائل الدينية، ودفعه هذا الشغف المقترن بميله إلى التنقّل والسفر، وبحرصه على الاكتشاف والاطلاع عن كثب، إلى زيارة البقاع والمعالم الشهيرة بعدّة بلدان شرقية، ومنها خاصة، حسبما يبدو من مؤلفاته، بلاد تيساليا (Thessalia) التي اشتهرت بالسحر والشعوذة. وهي بلاد تقع بالشمال اليوناني، حيث يقوم لوقيوس (Lucius) بطل قصّة "المسوخ" (Metamorphoses) أو "التحولات" بمغامراته الأولى. وزار أبوليوس كذلك جزر "بحر إيجي" حيث ارتاد دون شكّ معبد الربّة اليونانية الكبرى هيرا (Hera) بجزيرة ساموس (Samos) - كما يدلّ على ذلك وصفه البديع لهذا المعبد في إحدى المحاضرات التي ألقاها بمسرح قرطاج - وزار آسيا الصغرى، حيث تجوّل ببلاد فريجيا، (Phrygia) وربّما زار كذلك البلاد المصريّة. وبلغ به الاصرار على البحث عن السّند الديني الكفيل بضمان النجاة لروحه الحائرة، والاستقرار لفكره المضطرب، والطمأنينة لنفسه القلقة، أن التحق بصفّ العبّاد المطّلعين على الأسرار الخفية، وهي أسرار لا تكشف إلاّ لمن خضع لمقتضيات الطّقوس التي كانت تقام بحرم البقاع المقدّسة، نذكر منها خاصة حرم معبد ديميتار ربّة الخصب عند اليونان بمدينة إلُوزيس (Eleusis).لكنّ أبوليوس لم يقتصر على تعاليم المدرسة الأفلاطونية، بل اجتهد في فتح آفاق معارفه ومهاراته بالتتلمذ لأتباع المدرسة الارسطوطاليسية، وبالطموح إلى محاكاة السوفسطائيين في قدرتهم على الاحاطة بالعلوم مهما اختلفت ميادينها، وعلى الاداب والفنون بأنواعها، حتى شملت موسوعة معارفه علوم الطبيعة، والهندسة، وعلم الفلك، والشعر، والموسيقى، وأصبح يتمنى النسج على منوال كبار السوفسطائيين في ذلك العصر، والسفر مثلهم من مدينة إلى أخرى تلبية لرغبة الجماهير الولوعة بالاستماع إلى محاضراته.

وتعلّقت همّة أبوليوس بالسفر إلى روما، عاصمة أوربا ومركز الثقل في العالم القديم، حيث يلتقي بالبلاط الأمبراطوري وبمجلس الشيوخ "أهل الحل والعقد" فيحتد بين المنتمين إلى صنفين الاجتماعيين النبيلين - وهما صنفا الشيوخ والفرسان كما ذكرنا - التنافس على مناصب الحكم والادارة، وإلى حيث يتوافد من ولايات الامبراطورية وبلدانها ذوو المواهب في ميادين الأدب والفنّ، فيتكافل إسهامهم في إغناء الحياة الثقافية وإشعاعها، فشدّ أبوليوس الرحّال إلى العاصمة الرومانية، وقضّى بها ردحا من الزّمن مثلما فعل من بعده أصغر رفاقه في الدراسة بأثينا وهو بونتيانوس (Pontianus), أصيل مدينة أويَا (Oea), (على أنقاضها توجد اليوم مدينة طرابلس) لكن كتب أبوليوس ومحاضراته تحجم عن ذكر أخبار حلوله ونشاطه بروما. فلا يشير أبوليوس إلى ذلك إلا عرضا، في خطبة مدحيّة ألقيت بقرطاج، بين يدي "البروقنصل" (Proconsul) اسقيبيو أورفيتوس (Scipio Orfitus) والي المقاطعة الإفريقية، وكان قد تعرّف عليه بروما، في من تعرّف عليهم من العظماء والوجهاء. ينسب المؤرخون إلى أبوليوس، تلافيا لصمت المصادر، نشاط بطله لوقيوس (Lusius) في رواية "المسوخ". وقد تعاطى المحاماة في روما، فنجح وتفوّق، ثمّ انصرف إلى الدّين فأضحى من عبّاد الربة المصرية إيزيس، واطلع على ما يكنه دين الالهة المصرية من أسرار خفيّة حتى أصبح بها عريفا، وتقلّد رتبة باستورفوراس (pastophores), وهي رتبة مرموقة من رتب كهنوت الاله أوزيريس (Osiris). ولم يطمح أبوليوس، في أثناء إقامته بروما، في استغلال علاقته ببعض النّبلاء والعظماء من صنف الشيوخ، أمثال أورفيتوس، للسّعي كغيره من الشبان الأفارقة من أبناء الأسر الغنيّة إلى بلوغ مرتبة اجتماعية عليا يمكّنه منها الوظيف، بل إنّه تشبّث باختياره للفلسفة والاداب، وقفل راجعا إلى قرطاج ومادوروس، حيث كان عضوا من أعضاء مجلس الوجهاء (ordo decurionum) المشرفين على إدارة المدينة وسلطاتها.

وكان حنينه إلى العودة إلى المقاطعة الإفريقية يقترن بشدّة التّوق إلى السفر والرحيل من جديد.فلم يلبث أن رغب في زيارة عاصمة من عواصم الشرق، وشدّ الرحال إلى الاسكندرية. لكنّ المرض أجبره على التوقّف بأويا طرابلس بالقطر الليبي، في ضيافة رفيقه بأثينا بونتيانوس، وقد كان لهذا التوقف أثر بالغ في حياته، فهو يزعم أنّ ضيفه أشار عليه بالزواج من أمّه، وكانت أرملة غنية، تسهر بنفسها على شؤون ضيعاتها بحذق ومهارة. فقضّى أبوليوس بأويا، بعد زواجه منها، فترة سعيدة تكفّلت في أثنائها زوجته بودنتيلاّ (Pudentilla) بتوفير أسباب الرفاهة المادية، في حين انهمك كاتبنا في الدراسة والبحث، ببيت فسيح جهّزت قاعاته بمكتبة ومخابر يتعاطى فيها البحوث والتجارب، سواء في العلوم الطبيعية وتشريح الأسماك الغريبة، أو في الفيزياء ودراسة علم البصريات، أو في الطبّ والبحث في الأمراض العصبيّة. وما فتئ ميله إلى الخطابة يحمله مع ذلك على إلقاء المحاضرات بفصاحته المعهودة، ويحمله أيضا على تعاطي المحاماة والاضطلاع بالمرافعة دفاعا عن مصالح زوجته، كلما رفعت قضيّة عقارية أو مالية من قضاياها أمام المحاكم.

لكنّ زواجه من تلك الأرملة الغنيّة نزل نزول الكارثة على ورثائها وأقاربها، فكثر القيل والقال عن ظروف زواج هذا الشّاب الفقير الغريب عن المدينة وأسبابه من امرأة رفضت طيلة 41 سنة عروض خطابها من وجهاء أويا وأغنيائها. ولم تلبث الأراجيف أن تفاقمت حتى آلت إلى تقديم قضية عدلية، وإلى اتهام أبوليوس بأنّه لجأ إلى تعاطي السحر والشعوذة لحمل بودنتيلا على الزواج منه. وعرضت القضية عند حلول والي المقاطعة قلوديوس ماكسيموس (Claudius Maximus) بصبراطة (Sabratha) بالقطر الليبي لرئاسة المحكمة، عملا بعادة الولاة في الانتقال من مدينة إلى أخرى للغرض. وكان ذلك حوالي سنة 158 أو 159 ميلادية، وقد بلغ سنّ أبوليوس ثلاثين عاما تقريبا. فتقدّم أمام المحكمة لالقاء مرافعته الشهيرة التي صاغها صياغة أدبيّة فيما بعد، وبلغتنا بعنوان "الدفاع" (Apologia) أو في "موضوع السحر" (De magia). وتمكّن، حسبما يبدو، من تبرئة ساحته رغم ما علق به فيما بعد، طيلة قرون عدّة، من شهرة أسطوريّة في مجال السحر وصنع المبْهرات، تناقلها النّاس وأورد ذكرها كاتبان مسيحيان، لاقتانسيوس (Lactantius) والقدّيس أوغوستينوس. وغادر أبوليوس أويا وقد خلّفت إقامته بها طيلة ثلاث سنوات مرارة قد نجد لها أثرا عندما يشير في كتاب "المسوخ" أو "التحوّلات"، حسب تأويل بعض المؤرخين، إلى تلك الفترة من حياته.ثمّ استقرّ بقرطاج حيث جنى ثمار نشاطه الأدبي، وبلغ الشهرة والمجد، فتهافتت الجماهير للاستماع إلى خطبه ومحاضراته، واهتزّت إعجابا بسعة معارفه وفصاحة لسانه، وقد زاد في ولوعها به جمال صوته وأناقة هندامه. فتحقّق الحلم الذي كان يخامره أيام الدراسة بأثينا لمّا كان يصبو إلى منافسة أشهر السوفسطائيين بالشرق،أمثال أيليوس أريستيداس(Aelius Aristeides). وقد بلغتنا مقتطفات، بعنوان "الأزاهير" (Florida), من الخطب والمحاضرات الأدبية و"الفلسفية" التي كان يلقيها على مسامع الجماهير المكتظّة على مدارج مسرح قرطاج، فكان يحاضر بمهارته المعهودة، متناولا عدّة موضوعات ومبسطًا لأعوصها. وكان يضطلع بإلقاء الخطب المدحيّة في المناسبات الرّسمية، تمجيدا لولاة المقاطعة الإفريقية.

لكنّ احتراف أبوليوس الفلسفة والأدب، لم يثنه عن الاضطلاع بالخطة المتوّجة للخطط البلدية والدّينيّة بالمقاطعة، وهي خطة الكاهن الأكبر (sacerdos provinciae) المكلّف برئاسة مجلس المقاطعة (concilium provinciae) طيلة سنة، وبإقامة الطّقوس الدّينية والسياسية معا لعبادة الأمبراطور، والتّعبير له نيابة عن مدن المقاطعة جميعها عن مشاعر الولاء والتقديس، فزادته هذه الخطة شهرة ومجدا، ومكّنته من ربط العلاقات الاجتماعية المفيدة مع النبلاء والعظماء، وفي مقدمتهم ولاة المقاطعة الافريقية، كما أنه لم ينصرف قطّ عن الاهتمامات الدينية وعن عبادة الالهة، فاضطلع أيضا، بالاضافة إلى كهنوت الديانة الرسمية، بكهنوت الاله أسقليبيوس (Asclepios), خليفة الاله الفينيقي والقرطاجي أشمون (Eshmoun), وقد أقيم له بقمّة ربوة بيرصا (Byrsa) بقرطاج معبد كان محلّ إجلال وتقديس سكان العاصمة الإفريقية.

ولا يشكّ المؤرخون في أن قرطاج قد أقامت لأبوليوس تمثالا أو تمثالين عملا بسنّة العالم الروماني في إقامة التماثيل والأنصاب تخليدا لذكرى رجالاتها، وكما يدلّ على ذلك ما ورد في إحدى خطبه من ثناء لمجلس وجهاء المدينة ولأحد النبلاء القرطاجيين على تلك المبادرة. أمّا مادوروس، مسقط رأسه، فإنها سارعت أيضا بإقامة تمثال واحد على الأقل لفيلسوفها الشهير. وقد كشفت الحفريات قاعدة نصب نقش عليها إهداء إلى "الفيلسوف الأفلاطوني"، كما أنّه احتفظ بمتحف العملة النقدية "والميداليات" القديمة بباريس بميداليّة تخلّد صورته.ولم يقتصر أبوليوس، في الفترة الأخيرة من حياته، على المحاضرة والخطابة بقرطاج - ومن خطبه الأخيرة تلك التي أشرنا إليها آنفا، وقد ألقيت بين يدي اسقيبيو أورفيتوس عند تولّيه المقاطعة الإفريقية سنة 136 - 164 - بل إنّه قضّى السنين الأخيرة، حسبما يبدو لبعض المؤرخين، في كتابة رواية "المسوخ" أو "التحولات". ولا يزال الغموض يكتنف حياته بعد سنة 164. ولئن اتفقت الاراء على الرّبع الأوّل من القرن الثاني حوالي سنة 125، لتحديد تاريخ ميلاده، فإنما تختلف في ضبط تاريخ وفاته.

كان أبوليوس خبيرا بخصوصيات اللّغتين، اللاّتينية واليونانية، في عصر أخذت تتضاءل فيه الازدواجية اللغوية عند المثقفين بالجزء الغربي من العالم الروماني، حتى انقرضت الممارسة العادية للّغة اليونانية في القرن الرابع. وكان خير مثال للثقافة اليونانية الرومانية التليدة، ولما اتسمت به من شمولية المعارف ومن تشبث ببلاغة التعبير وفصاحة الخطاب، فكان لا يفوته الاستشهاد بقولة كاتب، أو ببيت شاعر، أو برأي فيلسوف، سواء كان رومانيا أو يونانيا، وسواء كان من القدامى أو من المحدثين. ولم يقتصر اطلاعه على الفلسفة والأدب، بل كان يتعاطى كذلك الطبّ والهندسة والعلوم الطبيعية والفيزيائية، ويدرس الموسيقى وعلم الفلك... ولم يبخل عن عرض معلوماته ومهاراته بالمحاضرة أو بنشر الكتب متباهيا بها متقبّلا لاطراء المادحين وإعجاب الجماهير، فكانت آثاره عدّة ومتنوعة. لكنه اقتصر في ميدان العلوم على جمع المعلومات أو على تصنيفها وتلخيصها، فألف كتبا كثيرة فقدت ولم يبق إلا ذكرها في بعض آثاره أو في بعض المصادر الأخرى. وقد تناولت خاصة مسائل في العلوم الطبيعية، نذكر منها كتابا يعنى بالأشجار المثمرة وبغراستها، وآخر بوقاية الزراعة من الافات وعلاج أمراض النبات، كما تناولت كتبه كذلك مسائل في الطبّ وفي علم الفلك وفي مجالات علمية أخرى... أمّا في مجال الفسلفة، فقد استغلّ الدروس التي كان يتلقاها بأثينا ليلخصها ويبسّطها، ففي كتاب ورد بعنوان (De Platone et eius dogmate) يبسّط تعاليم أفلاطون. وفي كتاب آخر بعنوان (De Mundo), يقتبس من مخطوط كان ينسب إلى المدرسة الأرسطوطاليسية شرحا لنظرية الكون. ولم يقتصر على تبسيط الدراسات الفلسفية المتداولة بأثينا في القرن الثاني بل قدّم في كتاب بعنوان (De Deo Socratis) عرضا ضافيا ومعمّقا لنظرية الجان، مبرهنا بذلك على مقدرة فائقة سواء على الالمام بتعاليم مختلف المدارس الفلسفية، أو على توظيفها للبحث في مسألة جوهرية هي مسألة العلاقة بين البشر والالهة، فنجد في بحثه هذا استجابة لتطلعات التفكير الديني في تلك الفترة، وصدى لما كان يبديه معاصروه من اهتمام بالغ بموضوعات خطيرة نذكر منها حاجة الانسان إلى صلة ذاتية بالالهة، وبروز مبدإ الوحدانية الالهية حتى رسخ تدرج العالم الروماني نحو الايمان بإله متفرّد خارق. وقد امتاز بحث أبوليوس عن سائر البحوث والكتب التي تناولت موضوع الجان بتأكيده الدّور الخطير الذي تقوم به تلك الكائنات الالهية والبشرية معا، فهي الوسيط بين عالم الانس والمادة وعالم السماء والروح، وفي كثرة الجان دليل على كثرة أديان الانسان واختلاف عباداته للاله.

ومن الكتب الكثيرة التي ألّفها أبوليوس احتفظت المكتبة اللاّتينية على وجه الخصوص بثلاثة كتب مهمّة. ففي كتاب "الأزاهير" نجد مختارات من الخطب والمحاضرات التي كان يتناول فيها موضوعات مختلفة يصعب تصنيفها لأنه لا يتقيّد بالموضوع المطروح، بل يستغلّ فرص الاستطراد جميعها ويجتهد في البحث مما يسمح له بعرض معلوماته الكثيرة المتنوعة ويسحر المستمعين ببديع الكلام وعذب الحديث، فيحاضر تارة في الفلسفة، لكنه لا يجد حرجا في التخلّص من النظريات الفلسفية والتأملات الفكريّة إلى النّوادر الطريفة. ويحاضر تارة أخرى في أدب الرحالة، فيروي غريب المغامرات ويمتع مستمعيه بذكر عجيب الأخبار، لكنه يخلّص بعد ذلك للحديث عن مشاهد الحياة اليومية وطريف الحوادث. وعليه يقع الاختيار لاعداد الخطب الرسمية في المدح والاشادة بولاة المقاطعة. وهو الذي يحاضر فيشدّ المسامع في بعض محاضراته بدقّة وصفه لببغاء الهند أو لتمثال بديع، ويسترعي الاهتمام في محاضرة أخرى بالحديث عن شوؤونه الخاصة كذكر مرض أصابه فاستوجب تردّده على بلدة حمام الانف - وكانت تعرف باسم "أكوي برسياني" (Aquae Persianae) - للاستحمام والاستشفاء. وهو مع ذلك شديد الاعجاب بنفسه مكتمل الثقة في مواهبه.

أمّا في كتاب "الدفاع" - وهو يعرف كذلك بكتاب "السحر" أو في "موضوع السحر" - فقد دوّن أبوليوس في صيغة أدبيّة المرافعة التي تقدم بها دفاعا عن نفسه عند محاكمته بمدينة صبراطة.لقد كانت التهمة خطرة لأن القانون الروماني كان يسلّط على كلّ من لجأ إلى السحر للنيل من غيره أشدّ العقاب، وذاك ما كان يطالب به أقارب بودنتيلا، وقد دعموا اتّهامهم بذكر أحداث غريبة وممارسات مريبة تدعو إلى الشكّ والحيرة، كقيام أبوليوس بتشريح سمك عجيب الشكل، أو كاعتماده وسائل سحرية أوقعت طفلا مريضا في غيبوبة تامّة. لكنّ أبوليوس اغتنم فرصة خلط خصومه بين الممارسات السحرية والتجارب العلمية التي كان يقوم بها في المخابر التي جهزها بمنزل بودنتيلا، عملا بمقتضيات بحوثه في علم الطبيعة أو في علم البصريات، فبينّ ببراعته المعهودة في استدراج السامع، وشرح بفصاحته المألوفة في التعبير والايضاح أن ريبة خصومه وشكوكهم مردّها إلى جهلهم بأبسط مقتضيات العلوم وتجاربها. لكنّه لم يقدّم، في الردّ على الاتهامات التي لا تخلط بين التجارب العلميّة والممارسات السحرية، حججا متينة قويّة توجب الاقناع وتحتّم الجزم بأنّه لم يمارس فعلا الأعمال السحرية، فبراعة الحجة تعوّض في كتاب "الدفاع" متانتها ولطف الاستهواء ورونق الأسلوب وبلاغة التعبير تكسب الكتاب قيمته الأدبية.

ويعتبر كتاب "المسوخ" أو"التحولات" - وقد ورد كذلك بعنوان "الحمار الذّهبي"(Asinus aureus) - من أشهر آثار الأدب اللاّتيني على الاطلاق. فلأول مرة في تاريخ الأدب اللاّتيني تبرز رواية نثريّة وتلاقي نجاحا شبيها بنجاح ورواج الروايات النثرية اليونانية. يتناول أبوليوس في هذه الرواية موضوعا اعتاد الأدب اليوناني طرقه في قصص عجيب يعرفُ باسم "قصص ميلي" - نسبة إلى مدينة "ميلي" (Milet) في آسيا الصغرى - وهو يروي غرائب مسخ الانسان. فيقتبس ويتصرّف، ويضفي روحا طريفة وطابعا جديدا على قصّة شابّ يدعى لوقيوس (Lucius) كان شغوفا بأخبار السحر والسّحرة. لقد نزل لوقيوس في ضيافة ساحرة وأراد التحوّل إلى شكل عصفور، لكنه استعمل غلطا مرهما حوّل شكله تحويلا شنيعا، فأصبح حمارا، شكلا وخلقة، لكنه لم يفقد الذاكرة والفكر والقدرة على الملاحظة والنقد.

بعد سرد هذه الأحداث في الفصول الثلاثة الأولى، تروي الفصول السبعة الموالية مغامرات الحمار لوقيوس، وهي نسيج من الوقائع والتقلّبات التي كان التراث الشعبي بها ولوعا، وقائع وتقلّبات قصص السّحر والصّعاليك، وروايات مكر الزوجات وخيانتهنّ وحمق الأزواج وبلاهتهم، فتتوالى الأحداث والفصول المضحكة والمشاهد المأسوية والأوضاع الدراميّة والخرافات الخياليّة والمواقف التي لا يراعى فيها للحياء نصيب. لقد تداول على امتلاك الحمار عدّة مشترين: قساوسة الربّة السورية الكبرى، فطحّان، فبسانيّ، فجنديّ، فبائع للحلوى، فطباخ... وتتوالى مغامراته مع كلّ هؤلاء، وملاحظاته ولاذع الانتقاد ودقيق الوصف لأوضاع المجتمع الروماني في القرن الثاني، أوضاع الأغنياء والفقراء، ومواقف أهل الخير والرّحمة وأهل الشرّ والمكر، فيجد المؤرخ في الكتاب ما تحجم كتب التاريخ عن وصفه من الأوضاع الاجتماعيّة. وفي الفصل الحادي عشر وهو الأخير ينجو لوقيوس بفضل الربة إيزيس، من الدّنس الذي أصابه ومن حقارة الحيوان ووضاعته ليرتقي من جديد إلى مرتبة الانسان، فيختم الكتاب بابتهال متعبّد يتملّكه شعور دينيّ فياض، وبدعاء مؤمن متصوّف يملأ قلبه الورع. ليس لكتاب "المسوخ" أو "التحوّلات" مغزى في نظر بعض المؤرخين والنقّاد، إذ يعتبر مجرّد سلسلة من الحوادث والمغامرات التي يفسح في رواياتها وقصصها أبوليوس المجال لوصف مجتمع يتدفق حيوية. لكنّ النّقد الحديث يؤثر البحث في مغزى قصة لوقيوس وفيما قد يشير إليه الكاتب من ورائها. فقد رفض لوقيوس العمل بالوعظ والنصيحة، وانساق إلى ترضية توقه إلى اكتشاف الأسرار الخفية، حتى أغراه السحر وانهمك في تلبية غرائزه البهيمية، فمسخ وذاق ألوان العذاب وتخبّط في الدّنس والرّذيلة. وكان لونه "الذهبيّ"، لون جلد الحمار الأشقر المصفّر، رمزا من رموز الشرّ والذنب في اعتقاد من دان بدين الربّة إيزيس، حتى أيقن بزيف ما تغري به الدنيا الناس من سعادة، وانصرف عن اللذة والمادة، وشملته إيزيس بعطفها فاسترجع صورته البشرية، وعادت إليه "إنسانيته"، وسعد بالطهارة بعد الدنس، وفاز بالنّجاة واكتشاف الأسرار الخفيّة التي لا تكشف إلاّ لصفوة أتباع الربّة.إنّ لأبوليوس في تاريخ الأدب اليوناني اللاّتيني مكانة مرموقة، ولا ترتدّ هذه المكانة إلى رواية "المسوخ" أو "التحولات" فحسب، بل كذلك إلى تعدّد جوانب شخصيته الأدبية أيضا فهو المثقّف ثقافة متينة مزدوجة لاتينيّة ويونانيّة. وبفضل ما اقتبسه أو ترجمه من الكتب اليونانية، اطّلع عدّة مثقفين ومنهم القدّيس أوغوستينوس في موفّى القرن الرابع، على خبايا ونفائس الفكراليوناني، وعلى الفلسفة الأفلاطونية. وهو الخطيب البليغ والمحاضر البارع، وهو المتديّن المتصوّف والطبيب الذي تعاطى السحر. وهو عند المؤرخ خير مثال لما بلغته نخبة المثقّفين الأفارقة من انسجام وتجاوب مع ثقافة الامبراطورية الرومانية وحضارتها خلال القرن الثاني بعد الميلاد، حتى أصبح رمزا ومثالا للمثقّف الروماني في ذلك العصر.